السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-225-0
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٩٢
قال : صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء (١).
ونقول :
إننا لا نشك في كذب هذه الرواية ، وذلك لما يلي :
أولا : إن الذي قال : «نحن الأمراء ، وأنتم الوزراء». هو أبو بكر نفسه ، وليس سعد بن عبادة ، وقد تقدم ذلك في خطبة أبي بكر.
ثانيا : إن سعدا لم يبايع أبا بكر إلى أن قتله خالد بن الوليد غيلة في حوران من بلاد الشام. ثم زعموا أن الجن قتلته!!
ثالثا : إن ذلك يتلاءم مع قول عمر : «اقتلوا سعدا قتل الله سعدا ، فإنه صاحب فتنة ..».
رابعا : إنه لا معنى لأن يقول في الحديث المنسوب إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «فاجرهم تبع لفاجرهم» وذلك لما يلي :
ألف : إن النبي «صلىاللهعليهوآله» لا يمكن أن يؤيد ولاية الفاجر ، ولا أن يطلب من الفاجر الآخر الإنقياد له ..
ب : لا يمكن أن يجعل «صلىاللهعليهوآله» حاكمين للناس بأن يقول : قريش وولاة هذا الأمر الخ .. بل هو يجعل لهم حاكما واحدا .. فالصحيح هو أنه «صلىاللهعليهوآله» قال : «الناس تبع لقريش : برهم تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم».
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٣ عن أحمد ، ومجمع الزوائد ج ٥ ص ١٩١ ومسند أحمد ج ١ ص ٥ وكنز العمال ج ٥ ص ٦٣٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٧٣ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٦٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٩١ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٤٨٢.
وهذا لا ربط له بأمر الولاية ، بل هو يقرر : أن قريشا محط أنظار الناس ، وأنهم يقتدون بها ، ويقلدونها فيما تقول وتفعل .. فما على قريش إلا أن تلتزم جادة الحق والصواب ، وتكف عن السير في طريق الغي والإنحراف ..
حضور علي عليهالسلام في السقيفة :
وعلي أمير المؤمنين «عليهالسلام» ، وإن لم يحضر اجتماع السقيفة ، بل هم قد عقدوا اجتماعهم من دون أن يعلموه ، خوفا من أية كلمة يقولها ، أو موقف يتخذه ..
ولكنه كان حاضرا بشخصيته المعنوية ، وبهيبته الإلهية ، ولم يغب عن ذهن الفرقاء في ذلك الإجتماع ، فكانوا بين مؤمل به ، وخائف وجل من عاقبة إقصائه عن أمر هو له .. وقد تمثل حضوره «عليهالسلام» هذا في اتجاهين :
أحدهما : يسعى إلى إقصائه عن دائرة الإحتمال ، ولو بإطلاق الشائعات والنقل الكاذب عنه ، فقالوا للناس : إن عليا «عليهالسلام» قد عزف عن طلب هذا الأمر ، فلا معنى للتفكير فيه ، ولا موجب لتعلّق الآمال به ..
الثاني : إن هذه الشائعات لم تفلح في اقتلاعه من نفوس الناس ، بل بقوا يفكرون فيه ، ويعتبرونه الملاذ ، والمنقذ ، والأمل التي تسكن إليه نفوسهم.
وقد أشار إلى الإتجاه الأول ، ما ورد من أنه بعد أن اتجهت الأمور نحو ترجيح كفة أبي بكر ، قال بعض الأنصار : «إن فيكم لرجلا لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد». يعني عليا «عليهالسلام» (١).
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٢٠ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٢٣ وعن والموفقيات للزبير بن بكار ص ٥٧٩.
فقد دلت هذه الكلمة على أن ثمة من قال لهم : إن عليا «عليهالسلام» لا يطلب هذا الأمر ، ولا يريده ..
وكأنهم يريدون أن يقولوا لهم : إننا إنما تصدينا لهذا الأمر ، لأن صاحبه الشرعي الذي بايعناه نحن وأنتم في يوم الغدير ، قد تخلى عن مسؤولياته فيه ، فلكي لا تضيع الأمة ، ولا يقع الخلاف بادرنا إلى طلب هذا الأمر ، لحفظ الدين ، ومنع الفتنة ..
وقد كان الأنصار لا يملكون التجربة السياسية الكافية ، بل يرى البعض : أنهم كانوا على درجة من البساطة ، وسلامة النية ، وحسن الطوية ، وهم إنما يفهمون النصوص الدينية ، بسطحية وسذاجة ، فلم يدركوا أنه لا يحق لعلي «عليهالسلام» أن يتخلى عن هذا الأمر ، فإنه إذا قضى الله ورسوله أمرا ما كان له ولا لغيره الخيرة من أمرهم .. فكيف إذا كان التخلي عن هذا الأمر من شأنه أن يثير الفتن ، وأن يضعف الدين وأهله ، ويصبح أسيرا بأيدي المبطلين والظالمين ، والجهلة والحاقدين ، وطلاب اللبانات ، وأهل الأهواء والمفسدين؟!!
ومما أشار إلى الإتجاه الثاني ما ورد من : أنه بعد أن ضاعت الفرصة من يد الأنصار هتف فريق منهم : لا نبايع إلا عليا (١). فذلك يدل على أنهم يرون أن تصدّيهم لأمر الخلافة كان من غير حق ـ وأنه من التجني على علي «عليه
__________________
(١) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٤٣ والبحار ج ٢٨ ص ٣١١ و ٣٣٨ والغدير ج ٧ ص ٧٨ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٥ وشرح نهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٢ والإكمال في أسماء الرجال ص ٨٢.
السلام» ، بما تضمنه من إفساح في المجال لتضييع حقه.
لكنهم كانوا على يقين من أن هذا الظلم لا يدفع عليا «عليهالسلام» إلى التخلي عن واجبه الديني والأخلاقي تجاههم ، أو إلى معاملتهم بالمثل ، بل هو الإنسان الصفوح العدل ، الحكيم الحليم ، الذي لا يحيد عن الحق قيد شعرة .. أما منافسوه ، ومناوؤوه ، فكانوا يثيرون الخوف في نفوسهم ، ويتوقعون منهم كل بلية ورزية ..
لكن هيهات ، فقد فات الأوان ، وضاعت الفرصة ، وقديما قيل : «في الصيف ضيعت اللبن».
الإفتئات على أمير المؤمنين عليهالسلام :
وروى ابن عقبة ـ بأسناد جيد ـ عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف : أن رجالا من المهاجرين غضبوا في بيعة أبي بكر ، منهم علي والزبير ، فدخلا بيت فاطمة بنت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ومعهما السلاح ، فجاءهما عمر بن الخطاب في عصابة من المهاجرين والأنصار ، فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش الأشهليان ، وثابت بن قيس بن شماس الخزرجي ، فكلموهما حتى أخذ أحدهم سيف الزبير فضرب به الحجر حتى كسره.
ثم قام أبو بكر فخطب الناس ، واعتذر إليهم ، وقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ولا ليلة ، ولا سألتها الله تعالى قط سرا ولا علانية. ولكني أشفقت من الفتنة وما لي في الإمارة من راحة ، ولكني قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ، ولا يدان إلا بتقوية الله تعالى ، ولوددت أن
أقوى الناس عليها مكاني اليوم.
فقبل المهاجرون منه ما قاله ، وما اعتذر به ، وقال علي والزبير : ما غضبنا إلا أنا أخرنا عن المشورة ، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وإنه لصاحب الغار ، وثاني اثنين ، وإنا لنعرف له شرفه ، ولقد أمره رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالصلاة بالناس وهو حي (١).
ونقول :
١ ـ إن هذا النص يصوّر عليا «عليهالسلام» ، وكأنه قد تمرد على الشرعية وأعلن العصيان المسلح ، ويظهر أبا بكر على أنه ذلك الرجل المظلوم ، الزاهد بالمناصب ، غير الحريص على الإمارة ، الذي أراد درء الفتنة .. وأنه يود لو يجد من هو أقوى منه ليتخلى له عن ذلك المقام ، ثم يعود ليظهر تفاهة تفكير علي والزبير ، وأنهما إنما غضبا لأنفسهما ، لأنهما أخرا عن المشورة ، ولم يغضبا لله سبحانه وتعالى.
ثم يقدم عليا «عليهالسلام» ، وهو يعترف بأحقية أبي بكر ، ويقدم الأدلة عن ذلك ..
٢ ـ لكن هؤلاء المفتئتين على الحق والحقيقة ، لم يذكروا : أن عليا «عليهالسلام» لم يحضر السقيفة ، بل كان في بيته الذي يفتح بابه إلى المسجد ، حيث دفن النبي «صلىاللهعليهوآله» فيه لتوه ، ولم يحضر أهل السقيفة جنازته ،
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١٧. وراجع الرياض النضرة ج ١ ص ٢٤١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٦٩ وراجع : المسترشد للطبري ص ٣٧٩ و ٣٧٨ وإثبات الهداة ج ٢ ص ٣٨٣.
ولا دفنه ، بل رجع أهل السقيفة إلى المسجد ، وطرقوا الباب على علي «عليهالسلام» ، بعد فراغه من دفن النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وكانت زوجته فاطمة الزهراء «عليهاالسلام» وراء الباب عند القبر ، وكأنها تودع أباها بدموعها وبكلماتها الأخيرة ، فسألت : من الطارق؟! وإذ بهم يقتحمون عليها الباب بعنف ، فعصروها بين الباب والحائط ، فصرخت ، وأسقطت جنينها ..
فسمع علي «عليهالسلام» صوتها ، فبادر المهاجمين ، فهربوا ، وخلوها ، وكل ذلك قد جصل في ثوان معدودة. وانصرف علي «عليهالسلام» لإسهاف سيدة النساء ، وبقي معها إلى الصباح ، وهم مكتنفون باب داره ، وجاء أبو بكر في الصباح إلى المسجد ، وجلس على المنبر ، وصار الناس يبايعونه.
ولعل الزبير تسلل في هذه الفترة إلى داخل بيت علي «عليهالسلام» ..
وجاء عمر ، وخالد ، وأسيد بن حضير ، ومعاذ بن جبل ، وثابت بن قيس بن شماس الخزرجي ، وسلامة بن وقش ، وقنفذ ، والمغيرة في عصابة آخرين إلى بيت الزهراء وعلي «عليهماالسلام». وجاؤوا بالحطب ، وأضرموا النار بباب فاطمة «عليهالسلام».
ولعل الزبير خرج إليهم في تلك اللحظة ، فأخذوا سيفه فضربوا به الحجر فكسروه. ثم اقتحموا البيت على علي «عليهالسلام» ، وحاولت «عليهاالسلام» أن تدفعهم مرة أخرى ، فضربوها ، ودخلوا وأخرجوه ملببا ، لكي يبايع ، فخرجت خلفه ، فضربوها أيضا ، وأرجعها سلمان إلى البيت بأمر من علي «عليهالسلام». ثم ترك علي «عليهالسلام» .. فعاد إلى البيت.
وبعد ثمانية أيام أخذت منها فدك ، وتعرضت للضرب مرة أخرى أيضا ..
وكانت قد دخلت إلى المدينة ليلة الثلاثاء بعد دفن النبي «صلىاللهعليهوآله» مباشرة ، وهي بلد صغير الحجم ، قليل عدد السكان ـ دخلت إليها عدة ألوف من المقاتلين ، من قبائل النفاق التي كانت حول المدينة ، ولا سيما قبيلة أسلم ، فقوي بهم جانب أبي بكر ، وأيقن عمر بالنصر ، واختبأ المؤمنون في بيوتهم ، وهم قلة قليلة جدا ، وصار عمر وجماعة معه يدورون على البيوت ، والناس يدلونهم عليهم ، فيقولون لهم : في هذا البيت يوجد اثنان. وفي ذاك يوجد ثلاثة ، أو واحد أو أكثر ، فيقتحمون عليهم البيوت ، ويخرجونهم بالقوة ، ويسحبونهم إلى المسجد للبيعة ..
ولم يكن مع علي «عليهالسلام» في بيته من يصول به على المهاجمين ، أو من ينتصر به. ولو أنه أبدى أدنى مقاومة لهم ، لم يبق مؤمن في المدينة على قيد الحياة ، لأن السكك كانت مشحونة بالمقاتلين ، ولا يستطيع أحد أن يظهر رأسه منها ، فضلا عن أن يتمكن من الإلتحاق بعلي «عليهالسلام» لنصرته ، أو ليقاتل معه .. ولو أن تلك الثلة القليلة من المؤمنين قتلت فعلى من سيتأمر علي «عليهالسلام»؟!
٣ ـ قال أبو بكر : إنه أشفق من الفتنة ، مع أن الحقيقة هي : أنه لو ترك هذا الأمر ، لكي يعمل فيه وفق توجيهات رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، لم يبق مكان للفتنة.
ولو أنهم لم يتهموا رسول الله بالهجر ، ولو أطاعوه في الخروج في جيش أسامة ، ولو تركوه يكتب لهم الكتاب الذي لن يضلوا بعده ، ولو أنهم تركوه ينصب لهم أمير المؤمنين «عليهالسلام» يوم عرفة .. ولو لم يستأثر أبو بكر
بالأمر لنفسه ، فلما ذا تضرب الزهراء «عليهاالسلام» ، ويسقط جنينها ، وهي التي يغضب الله لغضبها؟!
وقد قالت الزهراء «عليهاالسلام» ردا على هذه المقالة : «أزعمتم خوف الفتنة؟! ألا في الفتنة سقطوا» (١).
٤ ـ إن أبا بكر يقول : إنه كان يودّ أن يكون من هو أقوى منه على حمل مسؤولية الأمارة مكانه.
والسؤال هو : من أين علم أبو بكر أنه هو الأقوى من سائر الصحابة على حمل هذه المسؤولية؟! ولما ذا لا يكون الأقوى هو الذي نصبه الله ورسوله لها ، وهو الجامع للصفات المطلوبة فيها دون سواه ، وهو علي «عليهالسلام» ، فإنه هو الأعلم ، والأتقى ، والأشجع والأقوى ، والأزهد الخ ..
٥ ـ وأما الإستدلال على أحقية أبي بكر بالخلافة بما زعموه من أنه صلى بالناس في مرض رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وبأنه صاحب النبي «صلىاللهعليهوآله» في الغار فهو مكذوب بلا ريب ، وقد ذكرنا ذلك أكثر من مرة فلا نعيد.
التدليس غير المقبول :
قال ابن إسحاق : ولما قبض رسول الله «صلىاللهعليهوآله» انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، واعتزل علي بن
__________________
(١) راجع : دلائل الإمامة ص ١١٦ والإحتجاج ج ١ ص ١٣٧ والطرائف لابن طاووس ص ٢٦٥ والبحار ج ٢٩ ص ٢٢٥ و ٢٣٨ و ٢٧٥ ومناقب أهل البيت للشيرواني ص ٤١٧ والسقيفة وفدك للجوهري ص ١٤٣.
أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة ، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر ، وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل.
فأتى آت إلى أبي بكر وعمر فقال : إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، وقد انحازوا إليه ، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم. ورسول الله «صلىاللهعليهوآله» في بيته لم يفرغ من أمره ، قد أغلق دونه الباب أهله.
قال عمر : فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء حتى ننظر ما هم عليه (١).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣١١ وقال في هامشه : أخرجه البيهقي في الدلائل ج ٧ ص ٢٢٩ وابن كثير في البداية ج ٥ ص ٢٥٢ وانظر ترجمة حماد في الميزان ج ١ ص ٥٩٨ والبخاري في التاريخ ج ٣ ص ٢٨ والضعفاء للعقيلي ج ١ ص ٣٠٨ والمجروحون لابن حبان ج ١ ص ٢٥٢ وأنساب الأشراف للبلاذري (ط دار المعارف) ج ١ ص ٥٨٣ و (ط دار الفكر) ج ٢ ص ٢٦٤ وراجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٧١ وراجع : صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٧ ومسند أحمد ج ١ ص ٥٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٤٢ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٣ ص ٦ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٤٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٨٢ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٥٤ وشرح نهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٨٨ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٤٤٢ وعمدة القاري ج ٢٤ ص ٧ والصوارم المهرقة ص ٥٦ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٣ ص ٣٠٢ و ٣٠٨.
ونقول :
لقد صوّر النص المتقدم لنا مشهدا لا حقيقة له ، فإن عليا «عليهالسلام» وطلحة والزبير لم يعتزلوا أهل السقيفة في بيت فاطمة «عليهاالسلام» ، بل كان علي «عليهالسلام» في داخل الدار مشغولا بتغسيل وتجهيز رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ولعل بعض أهله مثل العباس ، والفضل ، وغيرهما ، كانوا بالقرب منه «عليهالسلام» ، يلبون طلباته ، ويقضون له بعض حاجاته.
أما الذين كانوا في السقيفة فهم طائفة من زعماء الأوس والخزرج ، ولحق بهم أربعة ، أو ربما خمسة أشخاص من المهاجرين. فعقد هؤلاء البيعة لأحدهم بعد أخذ ورد.
أما الباقون من سائر الناس فكانوا إما في بيوتهم ، أو في المسجد ، أو بالقرب منه ، بما فيهم طلحة والزبير وسواهما ، وكان أكثرهم يعيش لحظات الحزن والأسى ، والترقب ، والوجل ، والإنتظار ، فما معنى : أن يدّعي ابن إسحاق اعتزال علي «عليهالسلام» والزبير في بيت فاطمة «عليهاالسلام»؟!
بل إن كلامه هذا يوحي بأن عليا «عليهالسلام» لم يكن عند النبي «صلىاللهعليهوآله» يتولى غسله وتجهيزه .. بل كان هناك أناس آخرون ، سماهم ابن إسحاق أهله ، وقد أغلقوا الباب دونه ..
وهذا تدليس ظاهر ، وافتئات على الحقيقة والتاريخ ، لا مجال لإغماض النظر عنه.
أبو بكر يختار أحد الرجلين :
وبالنسبة لقول أبي بكر لأهل السقيفة : إنه يختار لهم أحد الرجلين : عمر
وأبا عبيدة للخلافة ..
نسجل هنا ما يلي :
ألف : عدم وجود نص يدل على حصر الخلافة بأحد ممن ذكرهم ..
ب : من الذي وكل أبا بكر ليختار له هذا أو ذاك ، ليكون واليا أو خليفة عليه؟!
وإذا كان أهل السقيفة قد وكلوه ، فهل وكله غيرهم من الصحابة ، ومن غيرهم؟!
ج : هل كان أبو بكر يعتقد بأفضلية عمر وأبي عبيدة عليه ، ولذلك اختار للناس أحدهم؟! أو أنه كان يرى رأي معتزلة بغداد. وهو جواز تولية المفضول مع وجود الفاضل؟!
وقد يؤيد الإحتمال الأول بقوله : «وليت عليكم ولست بخيركم».
إلا أن يقال : إنه قال ذلك على سبيل هضم النفس والتواضع ، أو لأنه كان يراهما مساويين له .. أو لأنه كان لا يستطيع أن يفضل نفسه على كثير من الصحابة من أمثال علي «عليهالسلام» ، وكثيرين آخرين.
الفصل الثالث :
الأنصار ضحية حنكة أبي بكر
ما تنعقد به الإمامة :
قال عضد الدين الإيجي حول ما تنعقد به الإمامة : الواحد والإثنان من أهل الحل والعقد كاف ؛ لعلمنا بأن الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا بذلك ، كعقد عمر لأبي بكر ، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان ، ولم يشترطوا اجتماع من في المدينة ، فضلا عن اجتماع الأمة (١).
وينقل الماوردي عن طائفة من العلماء : أن أقل ما تنعقد به الإمامة هو خمسة ، استنادا إلى أمرين :
أحدهما : أن بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة ، اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس ، وهم : عمر ، وأبو عبيدة ، وأسيد بن حضير ، وبشير بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.
الثاني : أن عمر جعل الشورى في ستة ، وهذا قول أكثر فقهاء المتكلمين
__________________
(١) المواقف الإيجي ج ٣ ص ٥٩٠ و ٥٩٤ وكتاب الإرشاد للجويني ص ٣٥٧ والجامع لأحكام القرآن ج ١ ص ١٨٦. وراجع : كتاب الأربعين للشيرازي ص ٣٩١ وشرح المواقف للقاضي الجرجانى ج ٨ ص ٣٥٢ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٢ ص ٣٣٩ والبحار ج ٢٨ ص ٣٦٣ والغدير ج ٧ ص ١٤١.
من أهل البصرة (١).
فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هؤلاء الخمسة قد بايعوا أبا بكر ، ثم خرجوا به ، وتركوا الأنصار في خصام وتنازع حتى جاءتهم بنو أسلم ومن معها وأجبروهم على البيعة.
لو لا الأنصار :
والحقيقة هي : أن هذا التكفير وهذه المبادرة من قبل الأنصار ـ أعني الخزرج منهم ، وسعد بن عبادة بالذات ـ هو الخطيئة الكبرى ، والخطأ القاتل الذي أسهم في تمكين الفريق الآخر من تحقيق ما كان يصبو إليه ، وهيأ له الفرصة ، وأعطاه المبرر العملي للمبادرة إلى الإمساك بالسلطة بصورة فعلية ، في اللحظة الحرجة ، حيث كان علي «عليهالسلام» وبنو هاشم مشغولين بتجهيز رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. وكان سائر الناس في غفلة عما يراد بهم ، وفي شغل عن تفاصيل ما يحاك ، ويدبر في الخفاء ، ليستعلنوا به بعد نضوجه ، وفي الوقت المناسب.
ولو أن الأنصار تركوا سقيفتهم ، وعملوا بواجبهم الديني ، وانتصروا
__________________
(١) الأحكام السلطانية ج ٢ ص ٦ و ٧. وراجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٩ ص ٤٩ وتفسير الآلوسي ج ٢٨ ص ٢٤ والجمل للمفيد ص ٩٢ وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩ وصول الأخيار إلى أصول الأخبار لوالد البهائي العاملي ص ٧٤ وراجع : المناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ٤٧٢ والإرشاد للمفيد ج ٢ ص ٢٥٩ ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني ص ٣٧٥ ومستدرك الوسائل ج ١٣ ص ١٤١ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٣٩٦ وروضة الواعظين ص ٢٢٥.
للحق ، وأصروا على الإلتزام بتوجيهات رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وكانوا إلى جانب علي «عليهالسلام» وبني هاشم ، وسائر أهل الإيمان لم يمكن لمناوئي علي «عليهالسلام» أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه بهذه السهولة ..
ولكن حب بعض الأنصار للرياسة ، وانقياد الآخرين له بلا روية ، ووقوعهم تحت وطأة الوساوس والأوهام ، وضعف شخصيتهم ، وفيال رأيهم ، وسوء تدبيرهم قد أوقع الإسلام وأهله في مأزق ، لم يكن وقوعه فيه حتميا ولا ضروريا ..
نقاط ضعف في موقف الخزرج :
وقد كان الأنصار فريقين هما : الأوس والخزرج ، وكانت بينهما حروب قبل أن يدخلوا في الإسلام ، ولا زال بينهما تنافس وتحاسد ، يخفى تارة ، ويظهر أخرى ، كما أن هذا التحاسد والتنافس كان قائما بين شخصيات الخزرج أنفسهم ، وكذلك الحال بالنسبة لشخصيات الأوس أيضا ، وكان أول ضعف واجهه سعد فيما أقدم عليه هو موقف الأوس أنفسهم منه ، فإنهم بادروا إلى بيعة أبي بكر ، كرها وحسدا له ، «فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم» (١).
ولو أن البيعة تمت لسعد بن عبادة قبل أن يداهمهم أبو بكر ومن معه ، لأصبح الأمر أكثر صعوبة على أبي بكر وسائر المهاجرين ، ولكن تباطؤ الخزرج في الإستجابة لسعد حتى دهمهم هؤلاء النفر قد أدخل عنصرا
__________________
(١) راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٤٥٨ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٣١.
جديدا زاد في تعقيد الأمور على سعد.
ثم إن وجود بعض الحاسدين لسعد داخل الخزرج أنفسهم قد زارد من ضعف موقفه.
ويكفي أن نذكر : أن مسارعة بشير بن سعد الخزرجي لبيعة أبي بكر ، سعيا منه في نقض أمر ابن قبيلته سعد ابن عبادة قد قلب الأمور رأسا على عقب ، حيث لم يعد ثمة من حرج على الأوس إذا مالوا إلى أبي بكر ، وخذلوا سعدا ، فإن الخذلان قد جاء أولا من قبل الخزرجيين أنفسهم.
وقال بعضهم لبعض : لئن وليتموها سعدا عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم فيها نصيبا أبدا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر (١).
يضاف إلى ذلك : أن أسيد بن حضير ، وهو من سادات الأوس ، وكان أبوه حضير الكتائب قائد الأوس ضد الخزرج في حرب بعاث التي كانت فيما يقال قبل الهجرة بست سنين ، إن أسيد بن حضير هذا كان يمت إلى أبي بكر بصلة القرابة ، فقد كان ابن خالته يرى في خلافته حظا له. وقد كان أبو بكر يكرمه ، ولا يقدم أحدا من الأنصار عليه (٢) ، وكان له في بيعة أبي بكر أثر عظيم (٣).
__________________
(١) راجع : الإمامة والسياسة لابن قتيبة (بتحقيق الزيني) ج ١ ص ١٦ و (بتحقيق الشيري) ج ١ ص ٢٦ والبحار ج ٢٨ ص ٣٥٤.
(٢) راجع : أسد الغابة ج ١ ص ٩٢ والإصابة ج ١ ص ٤٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٢٩٢.
(٣) راجع : أسد الغابة ج ١ ص ٩٢ والغدير ج ١١ ص ١٠٨.
الجرأة والمفاجأة :
وإنها لجرأة ظاهرة وكبيرة أن يأتي ثلاثة رجال ، هم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة ، ليفاجئوا جماعة في عقر دارهم ، كانوا يعقدون اجتماعا سريا ، يريدون به إبطال سعي نفس هؤلاء الثلاثة ، وأن ينتزعوا من أيديهم نفس الأمر الذي يكافحون من أجل الحصول عليه.
ولا بد أن يكون وقع هذه المفاجأة كبيرا ، ويجعلهم في موقع الضعف ، والتبرير ، وأن تتغير لغتهم ولهجتهم ، وأن يشعروا بالحرج الشديد ، والخذلان ، والخوف من فوات الفرصة ، والإنتقال من حالة الهجوم إلى الدفاع ، فقد أصبح هناك من يشاركهم في القرار ، ويقوي أمر الحاسدين والمناوئين على الإعتراض والرفض.
ثلاثة أشخاص يبتزونهم :
ثم إن الذين وردوا على الأنصار في سقيفتهم كانوا ثلاثة أشخاص من المهاجرين ، وهم :
١ ـ أبو بكر بن أبي قحافة.
٢ ـ عمر بن الخطاب.
٣ ـ أبو عبيدة.
وأضاف بعضهم : سالما مولى أبي حذيفة ، وربما أضيف خالد بن الوليد أيضا ، ولعلهما جاءا متأخرين عن أولئك.
واللافت هنا : أن ثلاثة أشخاص يقتحمون على الأنصار في عقر دارهم ، ويبتزونهم ما كانوا يرون أنه في أيديهم ، وهذا إن دل على شيء ،
فيدل على ضعف الأنصار ، وسطحية تفكيرهم ، وقلة تجربتهم ، وضآلة شخصيتهم بصورة عامة ..
نعم ، لقد دخلوا عليهم ، وأعلنوا خلافة أبي بكر ، ثم بايع عمر وأبو عبيدة ، وبشير بن سعد ، وأسيد بن حضير أبا بكر ، وأضاف البعض : سالم بن أبي حذيفة ، وعويم بن ساعدة ، ومعن بن عدي. ثم خرجوا من بينهم ، وتركوهم يتلاومون ، أو يتشاتمون ، وأقبلوا بأبي بكر يزفونه إلى المسجد كما تزف العروس (١).
ولم يكلفهم تحقيق هذا الإنجاز سوى بضع كلمات تفوه بها أبو بكر وحده ، هي لا تتجاوز بضعة أسطر ، كان لها كل هذا الأثر السحري ، فقد قال :
«إن هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس ، وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عنه الخزرج ، وقد كانت بين الحيين قتلى لا تنسى ، وجراح لا تداوى.
فإن نعق منكم ناعق جلس بين لحيي أسد ، يضغمه المهاجري ، ويجرحه الأنصاري.
وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلكم في الدين ، ولا سابقتكم العظيمة في الإسلام ، رضيكم الله أنصارا لدينه ولرسوله ، وجعل إليكم هجرته ، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه ، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا
__________________
(١) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٩ عن الموفقيات ص ٥٧٨ والرياض النضرة ج ١ ص ١٦٤ وتاريخ الخميس ج ١ ص ١٨٨.