السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-225-0
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٩٢
الشيعة والسنة ..
بل إنه حتى أولئك الذين كانوا من المعروفين ، وتدعى لهم الكرامات الراسخة ، والمقامات الشامخة ، قد أثبت لنا التاريخ أنهم قد شنوا حربا ضارية ضد علي «عليهالسلام» قتل فيها ألوف من المسلمين ، ولو استطاعوا قتل علي «عليهالسلام» نفسه لقتلوه ، مع أنه وصي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وأخوه ونفسه ، كما جاء في آية المباهلة ..
بل إنه حتى بالنسبة إلى النصوص التي لم توفق لسند صحيح ، فإنه لا يمكن دفع احتمالات صحتها ، خصوصا إذا لو حظت الظروف التي أحاطت برسول الله «صلىاللهعليهوآله» من أول بعثته ، وإلى حين وفاته.
مع علمنا بأن الجهر بالحقيقة كان يساوق المجازفة بالحياة ، وبالأخص بالنسبة لبعض الشخصيات التي كانت تحتل مكانة خاصة في قلوب بعض الفئات ، التي كانت هي الحاكمة عبر أحقاب التاريخ ..
ولتفصيل هذا الأمر ، محل ومجال آخر ..
ما من نبي أو وصي إلا شهيد :
وربما يمكن تأكيد استشهاد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالسم بالروايات التي تقول : ما من نبي أو وصي إلا شهيد ، فقد :
١ ـ روى محمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن علي ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله «عليهالسلام» ، قال :
سم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يوم خيبر ، فتكلم اللحم ، فقال : يا
رسول الله ، إني مسموم.
قال : فقال النبي «صلىاللهعليهوآله» عند موته : اليوم قطعت مطاياي الأكلة التي أكلت بخيبر ، وما من نبي ، ولا وصي إلا شهيد (١).
وقد أكدت النصوص المتقدمة صحة ذلك ، بالنسبة للنبي «صلىاللهعليهوآله» ، أما بالنسبة لأوصيائه الاثني عشر ، فقد وردت عدة روايات تفيد هذا المعنى أيضا ، وبعض هذه الروايات معتبر من حيث السند ، ونذكر منها ما يلي :
٢ ـ عن تميم القرشي ، عن أبيه ، عن أحمد بن علي الأنصاري ، عن أبي الصلت الهروي ، عن الإمام الرضا «عليهالسلام» في نفي قول من قال : إن الإمام الحسين «عليهالسلام» لم يقتل ، ولكن شبّه لهم ، قال «عليهالسلام» :
والله ، لقد قتل الحسين «عليهالسلام» ، وقتل من كان خيرا من الحسين ، أمير المؤمنين ، والحسن بن علي ، وما منا إلا مقتول ، وإني ـ والله ـ لمقتول بالسم الخ .. (٢).
ويمكن أن يستفاد من هذه الرواية ، وغيرها مما يأتي : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» أيضا قد مات شهيدا ، إذ كان المقصود بكلمة منا هو أهل البيت ، وعلى رأسهم رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
__________________
(١) بصائر الدرجات ص ٥٢٣ ومختصر بصائر الدرجات ص ١٥.
(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٠٣ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ١ ص ٢٢٠ ومسند الإمام الرضا «عليهالسلام» للعطاردي ج ١ ص ٨٧ وج ٢ ص ٤٠٥ والتفسير الصافي ج ١ ص ٥١٣ وتفسير كنز الدقائق ج ٢ ص ٦٦٠ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٥٦٥ والبحار ج ٤٤ ص ٢٧١ وج ٤٩ ص ٢٨٥ وج ٢٧ ص ٢١٣.
٣ ـ محمد بن موسى بن المتوكل ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي الصلت الهروي ، قال : سمعت الإمام الرضا «عليهالسلام» يقول : «والله ، ما منا إلا مقتول شهيد».
وليس في سند هذه الرواية إشكال (١).
٤ ـ قال الصدوق «رحمهالله» : وفي حديث آخر : «.. وجميع الأئمة الأحد عشر بعد النبي «صلىاللهعليهوآله» قتلوا ، منهم بالسيف ، وهو أمير المؤمنين ، والحسين «عليهماالسلام». والباقون قتلوا بالسم ، قتل كل واحد منهم طاغية زمانه ، وجرى ذلك عليهم على الحقيقة والصحة الخ ..» (٢).
٥ ـ روى الخزاز القمي : عن محمد بن وهبان البصري ، عن داود بن الهيثم ، عن إسحاق بن البهلول ، عن طلحة بن زيد ، عن الزبير بن باطا ، عن
__________________
(١) راجع : البحار ج ٤٩ ص ٣٢٠ وج ٥٠ ص ٢٣٨ وج ٩٩ ص ٣٢ وج ٢٧ ص ٢٠٩ والأمالي للصدوق (ط سنة ١٤١٧ مؤسسة البعثة ـ قم) ص ١٢٠ وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٥٦ و (ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات) ج ١ ص ٢٨٧ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٣٥١ و (ط مركز النشر الإسلامي) ج ٢ ص ٥٨٥ وروضة الواعظين ص ٢٣٣ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٤ ص ٥٦٨ و (ط دار الإسلامية) ج ١٠ ص ٤٤٦ والعقد النضيد والدر الفريد لمحمد بن الحسن القمي ص ٣٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٤١٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٢ ص ٥٩٦ ومسند الإمام الرضا «عليهالسلام» ج ١ ص ١٤٩ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ٥١.
(٢) عيون أخبار الرضا (ط سنة ١٤٠٤ ه مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ١٩٣ والبحار ج ٢٥ ص ١١٨.
عمير بن هاني ، عن جنادة بن أميد : أن الإمام الحسن بن علي «عليهماالسلام» قال في مرضه الذي توفي فيه :
«والله ، إنه لعهد عهده إلينا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماما من ولد علي «عليهالسلام» وفاطمة «عليهاالسلام» ، ما منا إلا مسموم ، أو مقتول الخ ..» (١).
٦ ـ قال الطبرسي «رحمهالله» ، وكذلك الإربلي «رحمهالله» ، وهما يتحدثان عن الإمام العسكري «عليهالسلام» : «ذهب كثير من أصحابنا إلى أنه «عليهالسلام» مضى مسموما ، وكذلك أبوه وجده ، وجميع الأئمة «عليهمالسلام» ، خرجوا من الدنيا بالشهادة».
واستدل القائلون بذلك بما روي عن الإمام الصادق «عليهالسلام» : والله ، ما منا إلا مقتول أو شهيد (٢).
٧ ـ وروى الحسين بن محمد بن سعيد الخزاعي ، عن عبد العزيز بن يحيى الجلودي ، عن الجوهري ، عن عتبة بن الضحاك ، عن هشام بن محمد ،
__________________
(١) كفاية الأثر ص ٢٢٦ و ٢٢٧ والصراط المستقيم ج ٢ ص ١٢٨ والأنوار البهية (ط سنة ١٤١٧ ه) ص ٣٢٢ ونهج السعادة للمحمودي ج ٨ ص ٢٣٨ والبحار ج ٢٧ ص ٢١٧ و ٣٦٤ وج ٤٤ ص ١٣٩.
(٢) المناقب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ٥١ وكشف الغمة (ط سنة ١٣٨١ ه المطبعة العلمية ـ قم) ج ٢ ص ٤٣٠ و (ط دار الأضواء) ج ٣ ص ٢٢٧ والفصول المهمة لابن الصباغ ج ٢ ص ١٠٩٣ والبحار ج ٢٧ ص ٢٠٩ وج ٥٠ ص ٣٨ عن إعلام الورى ، ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٤١٤ والأنوار البهية ص ٣٢٢ وأعلام الورى (ط سنة ١٣٩٠ ه.) ص ٣٦٧ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢ ص ١٣٢.
عن أبيه ، قال : خطب الإمام الحسن بن علي «عليهماالسلام» بعد قتل أبيه ، فقال في خطبته :
«لقد حدثني حبيبي جدي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : أن الأمر يملكه اثنا عشر إماما من أهل بيته وصفوته ، ما منا إلا مقتول أو مسموم» (١).
يضاف إلى ما تقدم : وجود نصوص روائية ، وتاريخية ، تتحدث عن كل إمام ، وتروي أنه قد مات بالسم أو القتل على يد طاغية زمانه ، مع وجود محاذير كبيرة ، وأخطار جسيمة تتهدد من يعلن هذا الأمر ، لأن إظهاره ليس في مصلحة أولئك الحكام ..
وبعد هذا .. فلا يصح نفي حصول هذا الأمر بصورة قاطعة ، أو استبعاده ..
المفيد رحمهالله ينكر حديث ما منا إلا مقتول :
وقد يسأل سائل هنا فيقول : إذا كان النبي «صلىاللهعليهوآله» قد مات شهيدا ، فما معنى أن ينكر ذلك الشيخ المفيد «رحمهالله» ، حسبما ذكره في بعض مؤلفاته؟! (٢).
ونقول في الجواب :
إنه لا ريب في أن الشيخ المفيد «رحمهالله» هو من أعاظم علماء الإمامية ،
__________________
(١) البحار ج ٢٧ ص ٢١٧ وج ٤٣ ص ٣٦٤ وكفاية الأثر ص ١٦٢ ومستدرك سفينة البحار (ط سنة ١٤٠٩ ه مؤسسة البعثة) ج ١ ص ١٦٤ و (نشر مركز النشر الإسلامي) ج ١ ص ٢٠٠ ونهج السعادة للمحمودي ج ٨ ص ٥٠٦ والأنوار البهية ص ٣٢٢.
(٢) تصحيح إعتقادات الإمامية للشيخ المفيد ص ١٣١ و ١٣٢.
وله مكانته الرفيعة ، وأثره العظيم في حفظ المذهب ، وفي الذب عنه ، وفي ترويجه ، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير جزاء وأوفاه.
غير أن علينا أن لا ننسى أنه «رحمهالله» كان يعيش في بغداد ، عاصمة الخلافة العباسية. وكان أسلاف الحكام في بغداد ، هم الذي دبروا لارتكاب جرائم قتل الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم .. وسجل لنا التاريخ عنهم أمورا هائلة تظهر : أن العباسيين كانوا أشد على أهل البيت وشيعتهم من الأمويين. وفي كتابنا الحياة السياسية للإمام الرضا «عليهمالسلام» ، نبذة صالحة لإعطاء الانطباع عن فظاعة هذا الأمر ، وعمقه ، ومداه.
وفي إلماحة إلى ذلك هنا نقول :
إن الإمام الحسين «عليهمالسلام» ، لم يعش في زمن العباسيين ، ولا حاربهم ، بل هو قد قضى شهيدا مظلوما بسيوف أعدائهم الأمويين ، وقد حاول العباسيون أن يستفيدوا من مظلوميته هذه في حركتهم المناهضة لبني أمية ، فرفعوا شعار الأخذ بثاراتته «عليهالسلام» ..
كما أن مما لا شبهة فيه : أن الإمام الحسين «عليهالسلام» هو أقدس رجل مشى على وجه الأرض بعد جده النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وأبيه علي وأخيه الحسن «عليهماالسلام».
ومع ذلك ، فإن العباسيين قصدوا قبره «عليهالسلام» بالهدم ، وحرثوه ، وقطعوا الشجر من حوله .. وهو ما فعله المنصور العباسي ، والرشيد والمتوكل و .. كما أنهم قد قطعوا السبل لمنع الناس من الوصول إلى كربلاء لزيارة القبر الشريف ، وعاقبوا زواره بأشد العقوبات ، حتى بالقتل ..
فإذا كان هذا هو موقفهم من قبر الحسين! «الشهيد»! ومن زوار ذلك
القبر الشريف ، فماذا سيكون موقفهم من الأئمة المعاصرين لهم؟! والذين تتعاظم هواجسهم ، وخوفهم منهم!!.
إن التاريخ يحدثنا : أن سيرتهم معهم ومع شيعتهم قد أنست الناس سيرة وسياسات بني أمية ، مع أهل البيت «عليهمالسلام» ، ومع من يتشيع لهم ، ويتصل بهم .. حتى قال الشاعر :
تالله ما فعلت أمية منهم |
|
معشار ما فعلت بنو العباس |
وقال الآخر :
يا ليت جور بني أمية دام لنا |
|
وليت عدل بني العباس في النار |
وإذا ما لمحنا أحيانا شيئا من التخفيف من وطأة هذه السياسة ، فقد كان ذلك استجابة لمقتضيات فرضت نفسها ، أو لانشغالهم بأمور حاضرة ، كان عليهم المبادرة لمعالجتها ، وتأجيل ما سواها ..
وفي جميع الأحوال ، نقول :
إن الشيخ المفيد «رحمهالله» كان يعيش في ظل حكم هؤلاء ، الذين ورثوا عن أسلافهم الحقد ، والضغينة ، على أهل البيت «عليهمالسلام» وشيعتهم ، وقد كان الحديث عن قتل الأئمة يعنيهم مباشرة ، دون كل من سواهم ..
فهل تراهم سوف يسمحون وهم أصحاب السلطة والهيمنة السياسية والعسكرية والثقافية والأمنية الخ .. ـ هل سيسمحون للشيخ المفيد أو لغيره ـ بإثارة هذا الاتهام ضد أسلافهم؟! وأن يتداول الناس هذا الأمر؟! ويصبح جزءا من ثقافتهم ، وأن يدون في الكتب والأسفار لينتقل إلى الأجيال اللاحقة ، في جملة ما ينتقل من الأخبار؟!
أم تراهم سيمنعون منه ، لكي لا يصبح وسيلة طعن ، وسند إدانة يبرر للناس الذين يرتبطون بأهل البيت إيمانيا وعاطفيا بأن يكرهوهم ، وأن يزيد حبهم ، وتعاطفهم مع الخط المناوئ لهم ، والذي تراود هؤلاء الحكام الشكوك والهواجس تجاههم ، وتجاه كل حركة تصدر منهم وعنهم؟!
إن أسلافهم الأمويين قد قتلوا الحسين «عليهمالسلام» ، وقتلوا زيدا ، ويحيى وغيرهم جهارا نهارا .. وحملوا النساء والأطفال سبايا ، وطافوا بهم البلاد .. ولكنهم لم يسمحوا للناس بأن يتداولوا الحديث عن تلك الجرائم بحرية ، وبصدقية ، ووضوح ..
فهل يسمح العباسيون بكشف وتداول أمر لا يمكنهم الاعتراف به؟! .. بل هم يظهرون للناس إدانتهم له ، ويجهدون لإقناعهم ببراءتهم منه؟! ..
فراجع ما سجله الحديث والتاريخ من مواقف لهم في هذا السياق تجاه الإمام الرضا ، والإمام الكاظم ، وسواهما من الأئمة «عليهمالسلام» ، حيث كانوا يقتلونهم بالسم ، ثم يظهرون للناس بمظهر البريء ، ويمشون في جنازتهم ، ويكشفون أجسادهم للشهود ليشهدوا ببراءتهم من دمهم ، ومن سيجرؤ على أن يشهد بضد ما يريدون؟ وأن يقول خلاف ما يحبون؟!
وكل ذلك يوضح لنا : مدى صعوبة إظهار وإشاعة أخبار استشهاد الأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، على أيدي أسلاف أولئك الحكام ، في تلك العصور الصعبة ، مثل عصر الشيخ المفيد ، أو عصر غيره.
ثانيا : لنفترض أن من الممكن تدوين ذلك ، ولكن السؤال هو : هل كان
الشيخ المفيد قادرا على أن يجمع مؤلفات السابقين عليه ، في عصر كان يصعب فيه التنقل في البلاد ، ولم يكن هناك وسائل ارتباط ، ولا كانت هناك وسائل لتكثير الكتب ، وتوزيعها .. أو وسائل لكشف مطالبها ومحتوياتها ، سوى القراءة المباشرة والشاملة؟! ..
كما أن الكتّاب والقراء في تلك العصور ، لم يكونوا من الكثرة بحيث يمكن مقايستهم بمن يقرأ ويكتب في عصرنا الحاضر .. بل كان الغالب على الناس هو الأمية ، والجهل ..
أما الحالة المادية للناس فلم تكن تفي بمتطلبات حياتهم ، ولا تلبي حاجاتهم .. فضلا عن أن يتمكنوا من شراء ما يحتاجون إليه من كتب ، والتفرغ لقراءتها ، والإطلاع على ما فيها ، فضلا عن شراء الكتب لأجل التجمل بها ، واقتنائها لمجرد الإقتناء.
إلى غير ذلك من عوامل قد توافرت وتضافرت ، كان من شأنها أن تقلل من فرص الحصول على النصوص التي تفيد في جلاء الحقيقة ، فكيف إذا كانت هذه النصوص مضطهدة من أكثر من فريق .. ومنها السلطة ، وتحاول التخفي في حنايا وثنايا الكتب المهجورة ، أو البعيدة عن الأنظار ، مما تقبع في زوايا الإهمال ، بانتظار الوقت الذي تسوق أحدهم الصدفة إليها ، وينشط أو يجد الوقت للاطلاع عليها ..
وبعد ما تقدم ، نعود إلى إثارة السؤال من جديد ، فنقول :
إلى أي حد كان الشيخ المفيد قادرا على جمع تلك المؤلفات ، ثم تصيد تلك الفرائد الشوارد من الأخبار ، من نوادر تلك الكتب والأسفار؟! ..
ثالثا : إن مما لا شك فيه أن العلماء المتأخرين. قد استطاعوا أن يجمعوا
مؤلفات كثيرة من مختلف البلاد ، وأن يقفوا حتى على كتب الفئات والأشخاص التي بقيت محظورة طيلة مئات السنين ، إما تقية من أصحابها ، أو بقرارات وسياسات من السلطة الغاشمة .. أو لغير ذلك من أسباب.
وهناك كتب تمكنت في هذا العصر من رؤية النور ، فظهرت وكان مؤلفوها قد اطلعوا على مصادر لم تصل إلينا أيضا .. لأن الوسائل الحديثة قد يسرت وصولها إلينا ، بل إلى كل إنسان. كما أنها قد يسرت الحصول على كل فكرة فيه .. مهما كان نوعها ، أو حجمها ، دون أن يحتاج ذلك إلى بذل أي جهد يذكر ..
وهذا ما يجعل أهل هذا العصر أقدر على الوصول إلى المعلومات المتنوعة ، من مصادرها المختلفة ، وأن يستفيدوا منها ، ويوظفوها في تحقيقاتهم وبحوثهم على أكمل وجه.
ولذلك ، فإننا نتوقع ظهور كثير من الحقائق التي نثبتها والدراسات ، مع أنها كانت طيلة العصور الخالية قاصرة عن نيلها ، وعن الوصول إلى الكثير مما يفيد في استجلائها ، والوقوف على وجه الصواب فيها ..
رابعا : إننا بعد كل هذا الذي قدمناه ، نقول :
إن الشيخ المفيد «رحمهالله» حين يقول : إنه لا طريق لإثبات استشهاد من عدا علي والحسنين ، والكاظم والرضا «عليهمالسلام» .. وأن الخبر بالنسبة إليه في قتل أو سم من عدا هؤلاء يجري مجرى الإرجاف ، وليس إلى تيقنه سبيل .. وإذا استبعدنا شبح احتمال التقية في قوله هذا ـ فإنما يقول هذا بعد أن راجع ما توفر لديه من مصادر سيرة .. وظهر له أنه غير قادر على تحصيل اليقين منها بذلك ..
لكن هذا لا يعني أن يكون الآخرون الذين لديهم مصادر أكثر ، ونصوص أوفر. ولا يكلفهم استخراجها إلا اليسير من الوقت والجهد ـ نعم لا يعني أن يكون هؤلاء غير قادرين على تحصيل الأدلة ، أو امتلاك الحجة على أنهم «عليهمالسلام» قد تعرضوا للسم أو للقتل ..
وببيان آخر نقول :
إنه يمكن للشيخ المفيد «رحمهالله» أن يقول : لم أجد .. وليس له أن يقول : لا سبيل إلى اليقين ، إلا إذا كان يقصد بذلك يقينه هو .. لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ..
وكل ذلك يعطينا : أن قوله «رحمهالله» في هذا المجال ليس ملزما للباحثين بعده .. ولا هو مما يصح الاحتجاج به على النفي ..
ولا نبالغ إذا قلنا : إن لدينا ما يصلح للإستدلال به على نقض كلامه «رحمهالله» .. سواء في ذلك النصوص العامة التي وردت في سياق : ما منا إلا مقتول أو مسموم. أو نحو ذلك مما تقدم ، أو النصوص الخاصة التي صرحت بأن كل إمام بخصوصه قد قتل بالسم ، أو بغيره ..
فراجع : ما قدمناه لتقف على حقيقة الحال ..
الفصل الرابع :
جسد النبي صلىاللهعليهوآله في السماء
جسد النبي صلىاللهعليهوآله يرفع إلى السماء :
ثم إن رفع الأجساد إلى السماء ، ليس بالأمر الذي يصح التشكيك فيه ، بعد تصريح القرآن ، وتواتر الحديث به .. فإن معراج نبينا الأعظم بجسده وروحه ، ثابت بلا ريب ، وقد أشارت إليه آيات القرآن الكريم (١) ..
والأحاديث الشريفة المتواترة ..
وهذا دليل على الوقوع فضلا عن الإمكان ..
كما أن الله تعالى قد أشار إلى رفع النبي إدريس «عليهالسلام» ، إلى السماء فقال : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٢).
وقد صرحت الروايات : بأن الله تعالى قد قبض روحه هناك (٣) ..
__________________
(١) الآية ١ من سورة الإسراء ، والآيات ٥ ـ ١٨ سورة النجم.
(٢) الآية ٥٧ من سورة مريم.
(٣) راجع : تفسير البرهان ج ٣ ص ١٧ وراجع : جامع البيان للطبري ج ١٦ ص ١٢١ والجامع لأحكام القرآن ج ١١ ص ١١٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ١٣٣ وتفسير الرازي ج ٢١ ص ٢٣٣ والبحار ج ١١ ص ٢٧٠ والبداية والنهاية ج ١ ص ١١٢ وقصص الأنبياء لابن كثير ج ١ ص ٧٢ وقصص الأنبياء للجزائري ص ٧١.
كما أن النبي عيسى «عليهالسلام» ، قد رفعه الله إليه ، كما صرحت به الآيات الكريمة. قال تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) وقال : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) (١) والروايات قد أكدت ذلك أيضا (٢) ..
غير أن الكلام إنما هو في أن أجساد الأنبياء والأوصياء ، هل تبقى بعد موتهم في قبورهم؟!
أم أنها ترفع إلى السماء أيضا؟! ..
وعلى الثاني ، هل تبقى في السماء؟! أم أنها تعود بعد مدة إلى قبورهم في الأرض؟!
هذه هي الأسئلة المطروحة ..
وللإجابة عليها نقول :
قد نجد من يقول بأنها تبقى في القبور ، وإن كانت لا تفنى لأن الله سبحانه ، قد حرم لحومهم «عليهمالسلام» على الأرض (٣) ..
__________________
(١) الآية ٥٥ من سورة آل عمران ، والآية ١٥٨ سورة النساء.
(٢) راجع : تفسير البرهان ج ١ ص ٢٨٥ والخصال ص ٥٢٩ وعيون أخبار الرضا «عليهالسلام» ج ٢ ص ١٩٣ والبحار ج ١٤ ص ٣٣٨ وج ٢٥ ص ١١٨ ومسند الإمام الرضا «عليهالسلام» للعطاردي ج ١ ص ١٠٣ وتفسير الميزان ج ٣ ص ٢١٨ وقصص الأنبياء للجزائري ص ٤٧٤.
(٣) قد دلت الروايات على ذلك ، فراجع : بصائر الدرجات ص ٤٦٣ و ٤٦٤ والبحار ج ٢٢ ص ٥٥٠ وج ٢٧ ص ٢٩٩ وراجع : نيل الأوطار ج ٣ ص ٣٠٥ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٣٤٥ و ٥٢٤ وسنن أبي داود ج ١ ص ٢٣٦ وإمتاع الأسماع ج ١٠ ص ٢٩٦ وج ١١ ص ٦٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ١٣٣ وج ١٢ ص ٣٥٦
قال بعضهم : «وقد صح أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وقد حرم الله تعالى أجسادهم عليها» (١).
ولكن قد ذكر الشيخ المفيد ، والكراجكي ، والفيض الكاشاني ، وغيرهم : أن فقهاءنا وعلماءنا متفقون على أن أجساد الأنبياء والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم ، ترفع بعد دفنها إلى السماء .. وذلك استنادا إلى روايات رأوا أنها دالة على ذلك ..
وأما أحاديث تحريم لحومهم على الأرض ، فلا تنافي هذه الروايات ، لأنها ساكتة عن أمر الرفع وعدمه ، فيمكن أن يكون عدم أكل الأرض للحومهم «عليهمالسلام» ، بسبب عدم بقائهم فيها ، ويمكن أن يكون ذلك مع بقائهم ، وعدم فنائهم ..
وقد حاولنا تتبع هذه الروايات وجمعها ، فوجدنا منها طائفة صرح
__________________
و ٣٦٨ و ٤٤٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٢٩ والجامع لأحكام القرآن ج ١٧ ص ٤ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٨٦ و ٢٩٦ وميزان الإعتدال للذهبي ج ٢ ص ٩٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٥٢٢ وكشف الخفاء ج ١ ص ١٦٧ وفيض القدير ج ٢ ص ١١١ والجامع الصغير ج ١ ص ٣٨٠ وعون المعبود ج ٣ ص ٢٦١ وفضل الصلاة على النبي «صلىاللهعليهوآله» للجهضمي ص ١٦.
(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٣٥٥ عن جمال الدين الأردبيلي الشافعي في كتابه : الأنوار في أعمال الأبرار ، وعن التذكرة للقرطبي ، وعن عبد القاهر بن طاهر البغدادي في فتاويه .. وراجع : منهج الرشاد لمن أراد السداد للشيخ جعفر كاشف الغطاء ص ٥٦٥ عن القرطبي ، وتنوير الحلك للسيوطي ص ١٥.
العلماء بالاستناد إليها ، بالإضافة إلى بضع روايات أخرى يمكن أن يستدل بها على ذلك أيضا ..
ثم وجدنا طائفة أخرى من الروايات تدل على خلاف ذلك ، وهي كثيرة أيضا ..
ونحن نذكر هنا ما عثرنا عليه من هذه الطائفة وتلك ، ثم نعقب عليها بما يقتضيه المقام .. فنقول :
الطائفة الأولى :
إن الروايات التي تدل على أن أجساد الأنبياء تكون في قبورهم ، وهي كثيرة ، كاد بعضهم أن يصرح بتواترها ، ونذكر منها ما يلي :
١ ـ روي : أن الناس قحطوا في سر من رأى ، فأمر الخليفة بصلاة الإستسقاء ، فخرجوا ثلاثة أيام متتالية يستسقون ، فما سقوا ..
فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء ، ومعه النصارى والرهبان ، وكان فيهم راهب ، فلما مد يده إلى السماء ، هطلت السماء بالمطر ، وفعل مثل ذلك في اليوم الثاني ..
فشك أكثر الناس ، وتعجبوا ، ومالوا إلى النصرانية ، فبعث الخليفة إلى الإمام الحسن العسكري ـ وكان محبوسا ـ فاستخرجه من حبسه ، وطلب منه حسم الأمر ..
فخرج الجاثليق في اليوم الثالث ، والرهبان معه ، وخرج الإمام «عليهالسلام» في نفر من أصحابه ..
«فلما بصر بالراهب ، وقد مد يده ، أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده
اليمنى ، ويأخذ ما بين أصبعيه.
ففعل ، وأخذ من بين سبابته والوسطى عظما أسود. فأخذه الحسن «عليهالسلام» بيده ، ثم قال له : استسق الآن ، فاستسقى ـ وكانت السماء متغيمة ـ فانقشعت ، وطلعت الشمس بيضاء ..
فقال الخليفة : ما هذا العظم يا أبا محمد؟! ..
فقال «عليهالسلام» : هذا رجل مر بقبر نبي من أنبياء الله ، فوقع بيده هذا العظم ، وما كشف عن عظم نبي إلا هطلت السماء بالمطر ..» (١).
٢ ـ وروي أن الإمام الصادق «عليهالسلام» ، قال للمفضل بن عمر : «إذا أردت زيارة أمير المؤمنين ، فاعلم أنك زائر عظام آدم ، وبدن نوح ، وجسم علي بن أبي طالب ..».
ثم يذكر أن الله تعالى أوحى إلى نوح «عليهالسلام» ، أن استخرج من الماء تابوتا فيه عظام آدم ، وأن نوحا قد فعل ، وأن عظام آدم كانت مع نوح
__________________
(١) الخرائج والجرائح ج ١ ص ٤٤١ و ٤٤٢ وأشار في هامشه إلى المصادر التالية : كشف الغمة ج ٢ ص ٤٢٩ وإثبات الهداة ج ٦ ص ٣١٩ والبحار ج ٥٠ ص ٢٧٠ وحلية الأبرار ج ٢ ص ٥٠٢ ومناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ٥٢٦ ومدينة المعاجز (ط حجرية) ص ٥٧٤ والصراط المستقيم ج ٢ ص ٢٠٧ و ٢٠٨ والفصول المهمة ص ٢٦٩ ونور الأبصار ص ١٨٤ والصواعق المحرقة ص ١٢٤ ومفتاح النجا ص ١٨٩ ورشفة الصادي ص ١٩٦ وجواهر العقدين ص ٣٩٦. وراجع : إحقاق الحق ج ١٢ ص ٢٦٤ ـ ٢٦٦ عن بعض المصادر المتقدمة .. وراجع : الثاقب في المناقب ص ٥٧٥ وينابيع المودة ج ٣ ص ١٣١ و ١٩٠ و ٣٠٦ ووفيات الأئمة ص ٤٠٥.
في السفينة ، فلما خرج منها صير قبره تحت المنارة التي بمسجد الكوفة ..
إلى أن قال : «.. فإذا أردت جانب النجف ، فزر عظام آدم ، وبدن نوح ، وجسم علي بن أبي طالب» (١) ..
٣ ـ الحديث الذي يدل على نقل عظام النبي يوسف «عليهالسلام» ، حيث روي أن الله سبحانه أوحى إلى النبي موسى بن عمران «عليهالسلام» ، أن أخرج عظام يوسف بن يعقوب من مصر ، فأخرجه في صندوق من مرمر إلى الشام .. (٢).
__________________
(١) المزار للمفيد ص ٣٢ و ٣٣ وكامل الزيارات ص ٣٨ و ٩٠ وفرحة الغري ص ٧٣ و ٧٤ و ١٠١ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ٢٣ ووسائل الشيعة ج ١٤ ص ٣٨٥ (ط مؤسسة آل البيت) ، والغارات ج ٢ ص ٨٥٤ والأنوار العلوية ص ٤٣٠ ، والجواهر السنية ص ٤٦ والبحار ج ١١ ص ٢٦٨ و ٣٣٣ وج ١٣ ص ١٢٧ و ١٢٩ و ١٣٠ وج ٢٢ ص ٢٩٣ وج ٥٥ ص ١٧١ وج ٥٧ ص ٢٠٨ وج ٧٩ ص ٦٦ و ٦٧ وج ٩٧ ص ١٣١ و ٢٥٨ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ١٠٢ ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٦٣ و ٦٤ ومستند الشيعة ج ٣ ص ٢٨٦ جواهر الكلام ج ٤ ص ٣٤٤ ، ومستدرك وسائل الشيعة ج ٢ ص ٣١٠ وتفسير العياشي ج ٢ ص ١٤٥ و ١٤٦ وقصص الأنبياء للجزائري ص ٩٣.
(٢) الخصال ص ٢٠٥ وعلل الشرائع للصدوق ج ١ ص ٢٩٦ وقصص الأنبياء للراوندي ص ١٣٨ وقصص الأنبياء للجزائري ص ٢٩١ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ١٦٢ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٨٣٤ والبحار ج ١٣ ص ١٢٧ وج ٥٥ ص ١٧٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ١٠٢ وجامع أحاديث الشيعة ج ٣ ص ٣٩٤ والذكرى ص ٦٥ وأمل الآمل ج ١ ص ١٢ وجامع المقاصد ج ١ ص ٤٠١ وروض الجنان ص ٢٢٠ ومجمع الفائدة والبرهان ج ٣ ص ٥٠٤ والمزار ص ٢٢١ ـ