السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-198-X
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٥
الميت (١).
ونقول :
يرجى من القارئ الكريم أخذ الأمور التالية بنظر الإعتبار :
النبي صلىاللهعليهوآله أكثر قريش مالا :
إن أول ما يستوقفنا هنا : قول أبي سفيان للنبي «صلىاللهعليهوآله» أصبحت أكثر قريش مالا. ولا شك في أن أبا سفيان يعني ما يقول ، ولم يكن بصدد مداعبة النبي «صلىاللهعليهوآله» بهذا القول .. لأن هذا هو منطق أبي سفيان ، وهذه هي نظرته ، وعلى أساسها يتخذ مواقفه ، ويصوغ
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٨ و ٣٩٥ ج ٩ ص ١٢٨ وراجع : كتاب الأم للشافعي ج ٧ ص ٣٦٤ والمجموع للنووي ج ١٩ ص ٣٧٠ والمبسوط للسرخسي ج ١٠ ص ٢٧ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٨٩ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣١٦ و ٣٢٦ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٤٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٠٤ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٣٧ و ٣٣٨ والآحاد والمثاني الضحاك ج ٣ ص ٤٣٢ و ٤٣٣ والمنتقى من السنن المسندة ص ٢٧١ وشرح معاني الآثار ج ٣ ص ٢٤١ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ١٩٣ ومسند الشاميين ج ٤ ص ٣٧٠ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٠ ص ٤٩ و ٥٠ وج ٢٣ ص ٤٢٩ وموارد الظمآن ج ٥ ص ٣٠٨ وكنز العمال ج ٤ ص ٣٧٢ و ٣٧٧ و ٥٤٤ وج ٥ ص ٧٥ وأحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٦٨ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣٢٤ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٥ وأضواء البيان للشنقيطي ج ٢ ص ٦٠ والتاريخ الكبير للبخاري ج ٨ ص ٥٧ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ٧٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ١٧٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٦.
تعامله ، فهو يرى أن النبي «صلىاللهعليهوآله» يتصرف كملك ، والملك يعتبر كل إنجازات جيوشه في حروبها ، وما يحصل عليه رعاياه ملكا له .. بل هو يعتبر الناس خولا وخدما ، ليس لهم أي حق إلا ما يمنحهم هو إياه.
وقد بقيت هذه النظرة لدى أبي سفيان زمنا طويلا بعد وفاة رسول الله «صلىاللهعليهوآله». وهو القائل مخاطبا عثمان حين استخلف : «فأدرها كالكرة ، واجعل أوتادها بني أمية ، فإنما هو الملك ، ولا أدري ما جنة ولا نار» (١).
وقد رأينا : أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يجب أبا سفيان بشيء ، بل اكتفى بالتبسم ، ربما لأن أبا سفيان قد صدق في اعتباره هذه الغنائم ملكا لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، لأنها إنما حصلت بصبر النبي «صلىاللهعليهوآله» وجهاد علي «عليهالسلام».
وإن كانت نظرة أبي سفيان إلى مقام النبوة والنبي خاطئة ومسيئة ، ولا بد من العمل على تصحيحها ، ولكن ذلك يحتاج إلى أن يفهمه بالعمل لا بالقول : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» ليس من طلاب الدنيا ، وأنه يبذل كل
__________________
(١) قاموس الرجال ج ١٠ ص ٨٩ و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١١ ص ٣٥٢ عن الإستيعاب ، وراجع : شرح الأخبار القاضي النعمان المغربي ج ٢ ص ٥٢٨ ومناقب أهل البيت «عليهمالسلام» للشيرواني ص ٤٠٧ والغدير ج ٨ ص ٢٧٨ و ٣٣١ وج ١٠ ص ٨٣ والإستيعاب ج ٤ ص ١٦٧٩ ومستدركات علم رجال الحديث ج ٨ ص ٣٩٨ والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥٩ والنصائح الكافية لمحمد بن عقيل ص ١١٠ وفصل الحاكم في النزاع والتخاصم لمعمر بن عقيل بن عبد الله بن يحيى ص ١٩٧ و ٢٢٨.
شيء في سبيل الله والمستضعفين في الأرض .. فكانت قسمته لتلك الغنائم بالذات هي الجواب العملي ، والبرهان القوي ، والجلي القاطع لكل عذر ، والمزيل لأية شبهة.
الشره والحرص :
إن المشهد الذي رسمته النصوص المتقدمة ، الذي يصور الناس ، وهم يلاحقون النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ويضايقونه حتى اضطروه إلى شجرة ، فعلق بها رداؤه ، وهم يسألونه أن يقسم الغنائم بينهم ، إن دل على شيء ، فهو يدل على شره وحرص غير عادي ، كان أولئك الناس يعانون منه.
وهذه لا شك حالة مرضية تحتاج إلى علاج بصير ، وحاذق خبير ، بمعالجة نفوس البشر ، وتطهير أرواحهم وقلوبهم ، فيا ساعد الله قلب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الذي ابتلي بهؤلاء الناس ، كم عانى من متاعب ، وواجه من مصاعب ومصائب ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون ..
ولعل مما زاد هذا الحرص لديهم على نيل الغنائم ، هو تخوفهم من أن تكون هناك نية لتفويتها عليهم كما فاتتهم السبايا .. رغم أنهم لا حق لهم في هذه ولا في تلك ، كما أشرنا إليه أكثر من مرة.
ماذا يظنون بالنبي صلىاللهعليهوآله؟! :
ولا ندري إن كان «صلىاللهعليهوآله» حين قال لهم : «والذي نفسي بيده ، لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعما ، لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتموني بخيلا ، ولا كاذبا ، ولا جبانا» ـ لا ندري ـ إن كان يشير بذلك إلى تهم أطلقوها ، أو أوهام راودتهم في أن يكون «صلىاللهعليهوآله» كذابا
ـ والعياذ بالله ـ لا يفي لهم بوعوده بقسمة الغنائم عليهم.
أو أنهم توهموا فيه : البخل وحب المال ، الذي سيدعوه إلى العدول عن رأيه في قسمة الأموال.
أو أنهم توهموا : أن ما دعاه إلى إعادة السبايا إلى أهلها هو خوفه من جيوش هوازن وحلفائها من أن يهاجموه على حين غرة ، وهو على غير استعداد .. وهم يخشون أن يدعوه خوفه وجبنه هذا إلى إعادة الأموال أيضا ..
فاحتاج من أجل أن يقنعهم بحتمية وفائه ، وبأنه ليس كذابا في وعده ، ولا بخيلا محبا للمال ، ولا جبانا خائفا من كثرة هوازن وأحلافها إلى التوسل بالقسم لهم بقوله : «والذي نفسي بيده». ولا شك ولا ريب في أنه كان في أصحابه وجيشه من يتهمه بالكذب ، وبعض ذلك ظهر في صلح الحديبية. وفي مناجاته ظلعلي «عليهالسلام» ، وهذا بعض ما ظهر لنا وما وصلنا ، ولعل ما خفي علينا أكبر ، ولا نظن أن ذلك منهم حادث عابر في زمن غابر ، بل كان ذلك منهم سعي وعمل دائب وجهد راتب.
ما لي إلا الخمس ، وهو مردود عليكم :
وقد طمأنهم «صلىاللهعليهوآله» إلى أن الفيء الذي يحصلون عليه بأسيافهم وبجهادهم وتضحياتهم فليس له فيه ولو بمقدار الوبرة التي أخذها بين أصبعيه ، وهذا دليل يجب أن يقنعهم بأنه لا بد أن يفي لهم بوعده ، وأنه لن يمنعه من ذلك بخل ولا حرص ، لإن الإنسان قد يبخل بماله ويحرص عليه ، أما مال غيره فلا شأن له فيه ، فلا معنى لهذا الإصرار والملاحقة له منهم؟!
ثم طمأنهم إلى أنه ليس فقط سوف يعطيهم ما يرون أنه من حقهم ، بل هو سوف يعطيهم حقه الذي أثبته الله تعالى في كتابه الكريم أيضا ، وهو الخمس ..
ويلاحظ : أنه «صلىاللهعليهوآله» أجرى كلامه بصورة مطلقة ، ولم يشر فيه إلى الغنائم من هوازن ، أي أنه تحدث عن حكم شرعي ثابت في موارده ، حسب البيان الإلهي ، وهو أن الفيء لأصحابه .. ثم وعدهم بأن يتخلى لهم عن حقه فيه أيضا ..
وهو يقصد بذلك جميع الموارد التي يكون الخمس ثابتا فيها ، وهذا معناه : أنه لا يقصد غنائم حنين ، لأنها كلها لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وليس خمسها فقط ..
فمحصل كلامه «صلىاللهعليهوآله» هو : أن هذا المال إن كان لهم ، فلن يأخذ منه ولو وبرة واحدة ، بل سوف يجود عليهم به ، ويعطيهم خمسه أيضا معه ..
وإن كان هذا المال له ، فسوف لا يبخل به عليهم ، بل هو سوف يعطيهم إياه أيضا تفضلا منه وكرما ..
من أين أخذ الوبرة؟! :
وقد ورد في رواية أخرى ، عن عبادة بن الصامت : أنه «صلىاللهعليهوآله» أخذ الوبرة بين أصبعيه ، وقال لهم : «أيها الناس ، إن هذه الوبرة من مغانمكم ، وليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس الخ ..».
ونلاحظ : أن هذه الرواية تريد أن تقول : إن تلك المغانم للناس ومن
جملتها تلك الوبرة .. ولكن ذلك موضع شك كبير ، لما قدمناه من أنها للنبي «صلىاللهعليهوآله» ، كما أن الرواية الأخرى قد صرحت : بأن البعير الذي أخذ منه الوبرة ليس من مغانمهم. بل هو بعير رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نفسه ..
وهذا يشير إلى : أن ثمة بعض التصرف في النص ، كما هو ظاهر ..
ما أرى أبرتك إلا ذهبت :
وقد نسبوا إلى عقيل : أنه غل إبرة ، وأعطاها لزوجته ، ثم أعادها إلى الغنيمة ، بعد أن قال لزوجته : ما أرى إبرتك إلا ذهبت ..
ونقول :
إننا لا ننكر أن يكون أمر كهذا قد حصل فعلا ، ولكن ذلك لا يدل على أي سلبية في شخصية عقيل ، فإن من الطبيعي أن يتناول الإنسان إبرة من الغنائم ، ظنا منه أنها أمر تافه وزهيد ، ولا ينظر إليه ، ولا يحسب له حساب ، أمام غيره من الغنائم الثمينة من الإبل أو البقر والغنم ، أو الذهب والفضة ، فيجوز تناوله لكل أحد ، إذا احتاج إليه ..
ثم إن إرجاع الإبرة إلى الغنيمة ، إن دل على شيء ، فإنما يدل على تقوى عقيل ، وشدة رعايته لأحكام الله تبارك وتعالى ..
ولكن ما يؤسف له هو أن تؤخذ قضية كهذه ، لو كانت قد حصلت فعلا ، مغمزا فيه ، وسببا للإنتقاص من عقيل ، بدلا من اعتبارها دليلا على التزامه وتقواه.
عقيل ثبت في حنين :
وقد صرحت نفس هذه القضية : أن سيف عقيل كان ملطخا دما ، وأن زوجته علمت أنه قاتل المشركين ، وهذا معناه : أن عقيلا كان من المجاهدين الثابتين في حرب حنين وقد عدوه في جملة من ثبت فيها أيضا (١).
فلا صحة لقول ابن سعد : إنه رجع من مؤتة ، فعرض له مرض ، فلم يسمع له بذكر في فتح مكة ، ولا الطائف ، ولا خيبر ، ولا حنين (٢).
نعم ، لقد ثبت عقيل في حين فرّ جميع المسلمين عن نبيهم ، وقد كان سيفه ينضح دما من رقاب أهل الشرك ، بينما كان جبين غيره ينضح بعرق الخجل ، ممن كان يخفي وجهه من الناس خجلا ، وإحساسا بالعار من ذلك الفرار المشؤوم ..
أما الذين لا يخجلون ، فلا نتحدث عنهم ، ولا يليق بعاقل أن يذكرهم بخير أبدا.
__________________
(١) أسد الغابة ج ٣ ص ٤٢٣ والإصابة ج ٣ ص ٤٩٤ عن الزبير بن بكار ، عن الحسن بن علي «عليهماالسلام» ، وتهذيب التهذيب ج ٧ ص ٢٥٤ و (ط دار الفكر) ص ٢٢٧ عن الحسين بن علي «عليهماالسلام» ، والبحار ج ٢١ ص ١٧٨ و ١٧٩ والأمالي للطوسي ص ٥٧٤ وعقيل بن أبي طالب للأحمدي الميانجي ص ٤٣ و ٤٩ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٤٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٢٩٩.
(٢) الطبقات لابن سعد ج ٤ ص ٤٣ والإصابة ج ٣ ص ٤٩٤ عنه ، وأسد الغابة ج ٣ ص ٤٢٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤١ ص ٩ وراجع : تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٢٢٧ والمنتخب من ذيل المذيل ص ٣٠ وتهذيب الأسماء واللغات ج ١ ص ٣٣٧ ولكنهم لم يذكروا خيبرا ، وراجع : مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٦٣٥.
وأما ما ذكره ابن سعد : من أنه لم يسمع له بذكر في خيبر ، فهو غير صحيح أيضا :
أولا : لأن المرض إذا كان عرض له في مؤتة ، فمؤتة كانت بعد خيبر ، فما معنى تغيبه عن خيبر بسبب مرض عرض له في مؤتة؟!
ثانيا : قال الطبراني وغيره : إن عقيلا حضر فتح خيبر ، وقسم له النبي «صلىاللهعليهوآله» من خيبر (١).
وورد اسمه في كتاب النبي «صلىاللهعليهوآله» لمقاسم أموال خيبر أيضا (٢). فراجع.
متى أخذ عقيل الإبرة؟! :
وإن رؤية سيف عقيل ملطخا بالدم إنما كانت في يوم حنين بالذات ، حيث كانت الحرب دائرة ، وسيفه يعمل فيها في رقاب المشركين ، وأما تقسيم الغنائم وإرجاع الإبرة ، فقد كان في الجعرانة ، بعد الإنتهاء من الطائف .. وهذا معناه : أن تلك الإبرة قد بقيت كل هذه الأيام عند امرأة عقيل ..
مع أن الرواية تصرح : بأنه قد جاء بالإبرة في نفس اليوم الذي حارب فيه المشركين ، ولطخ سيفه بدمهم.
فذلك يدل على : أن عقيلا لم يأخذ الإبرة من الغنائم المجموعة ، لتكون غلولا كما زعموا. بل أخذها من ساحات القتال مباشرة ، ثم أعادها إلى
__________________
(١) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٧٣ والمعجم الكبير ج ١٧ ص ١٩١ وراجع : تهذيب الأسماء واللغات ج ١ ص ٣٣٧ ، وعقيل بن أبي طالب ص ٤٤.
(٢) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٩٤ ومجموعة الوثائق السياسية ص ٩٤ / ١٧.
الغنائم المجموعة في الجعرانة.
الغلول : نار ، وعار ، وشنار :
١ ـ إن الإهتمام بأمر الغلول إلى هذا الحد الذي أظهرته كلمات الرسول «صلىاللهعليهوآله» ، لا بد أن يعطي الإنطباع للناس بلزوم التدقيق في الأمور ، وأن لا يستهين أحد منهم بشيء مهما كان بنظره صغيرا ، ولو بمقدار خيط ، ومخيط إبرة ، في مقابل آلاف من الإبل ، وسواها.
٢ ـ إن ذلك يؤكد على معنى الأمانة ، وعلى معيار القيمة لدى الناس ، فإنه إذا كان أخذ خيط ، أو إبرة مجلبة للعار ، والخزي ، والعيب ، والعذاب بالنار في الآخرة ، فما بالك بما سوى ذلك من أنواع الخيانات ، والتعديات ، والمخالفات؟!
٣ ـ إنه «صلىاللهعليهوآله» بهذا الإعلان يكون قد رسم حدا يمكن الإنطلاق منه والإنتهاء إليه في تحديد ما هو خطأ ، وما هو صواب ، وما هو حسن وقبيح ، ولم تعد القضية خاضعة لمزاجات الأشخاص ، واعتباراتهم وتسامحاتهم ، التي لو فسح لها المجال ، لربما أغمضت العين عن كثير من الشرور ، بحجة أنها مقبولة ، أو صغيرة ، وغير ذات أهمية.
٤ ـ إنه «صلىاللهعليهوآله» حين ذكر مساوئ الغلول قد مزج بين الضررين : الدنيوي والأخروي ، وبين المادي الجسدي ، والمعنوي الروحي. كما أنه لم يكتف بذكر العار الذي قد يمكن تحمل تبعاته ، بزعم أنه أثر لزلة ، أو خطيئة مضت وانقضت ، ويمكن أن يكون الإنسان قد تجاوز هذا الأمر ، وتخلص منه ..
بل أضاف الشنار إلى العار. والشنار هو أقبح العيب ، لكي يبين بذلك : أن الناس يرون منشأ العار لا يزال موجودا ، وملازما للشخص ، وليس أمرا قد مضى وانقضى .. وسيكون هذا أدعى للإنسان لكي يبادر للتخلص منه بكل ما يقدر عليه ..
كما أن جمع العار والشنار ، قد يفيد : أن تخلص الإنسان من العيب الحاضر ، لا يعني : أن عاره لا يلاحقه في مستقبل الأيام .. فلما ذا يلوث نفسه بما يكون من هذا القبيل؟!
أما حقي فهو لك :
وفي مجال التربية العملية المؤثرة ، نلاحظ : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد أجاب صاحب كبة خيط الشعر ، بقوله : أما حقي فيها فهو لك.
وهذا معناه : أن لسائر الناس حقوقا فيها أيضا ، فعليه أن يؤديها لهم ، فسماح النبي «صلىاللهعليهوآله» له بحقه لا يعفيه من لزوم الحصول على سماح الآخرين له بحقوقهم.
فالنبي «صلىاللهعليهوآله» لم يرد طلبه ، ولم يستجب له ، بل جمع بين الأمرين ، وبيّن له عدم إمكان إجابة طلبه بصورة تامة.
التكبير على الأموات :
وإذ قد ظهر أن لدى إحدى القبائل عقد جزع غلولا ، وقد تمالأت تلك القبيلة على هذا الأمر ، وتسترت عليه ، فإن ذلك يدل على : أن الوجدان الإنساني لديها لم يكن مؤثرا في منعها عن هذا الفعل الشنيع ، الذي يدل على : أنها ترضى بحرمان الآخرين من حقوقهم ، والإستئثار بأموالهم ، فكان أن ألقى
عليها درسا عمليا ، من خلال فعل يرمز إلى أنها تعاني من موت في الوجدان ، وفي الضمير الإنساني ، فلا بد من إجراء المراسم التي تجري عادة للأموات ..
وذلك يرمز إلى أن وجدان وضمير الإنسان ، المرتبط بالفطرة السليمة ، والعقل القويم ، هو العنصر الأهم في الكيان الإنساني. فإذا مات الضمير والوجدان ماتت المعاني الإنسانية في الإنسان.
وكما يكون بقاء الميت بين الأحياء ، مضرا ، وموجبا لنشوء الأمراض ، ويتسبب بمزيد من الضيق والأذى ، والإحساس بلزوم التخلص منه .. فإن من يموت ضميره ، ويتلاشى وجدانه يكون بقاؤه أعظم ضررا ، وأشد خطرا .. فلا بد من المبادرة للتخلص منه ، كما يتخلص الناس من موتاهم ..
من قتل قتيلا فله سلبه :
عن أنس قال : قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «من قتل قتيلا فله سلبه».
قال : فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم (١).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٦ عن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن حبان. وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٦ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١٢ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٢ و (ط دار المعرفة) ص ٧١ وراجع : المستدرك للحاكم ج ٢ ص ١٣٠ ومغني المحتاج للشربيني ج ٣ ص ٩٩ والمغني لابن قدامه ج ١٠ ص ٤٢١ والشرح الكبير لابن قدامه ج ١٠ ص ٤٤٩ وكشاف القناع ج ٣ ص ٨٠ والمحلى لابن حزم ج ٧ ص ٣٣٥ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٩١ ومسند أحمد ج ٣ ص ١٩٠ و ٢٧٩ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٢٢٩ وسنن أبي داود ج ١ ـ
وقال أبو قتادة : يا رسول الله ، إني ضربت رجلا على حبل عاتقه ، وعليه درع فأجهضت عنه ، فانظر في أخذها ، فقام رجل ـ قال محمد بن عمر : اسمه أسود بن خزاعي الأسلمي ، حليف بني سلمة. كذا قال. وفي الصحيح كما سيأتي : أنه قرشي ـ فقال : يا رسول الله ، أنا أخذتها ، فارضه منها وأعطنيها.
قال : وكان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لا يسأل شيئا إلا أعطاه ، أو سكت.
فسكت رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
فقال عمر : والله لا يغنها الله تعالى على أسد من أسد الله تعالى ويعطيكها.
__________________
ـ ص ٦١٧ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ١٣٠ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٣ وعمدة القاري ج ٨ ص ٧٦ وعون المعبود ج ٧ ص ٢٧٧ ومسند أبي داود الطيالسي ص ٢٧٧ والآحاد والمثاني ج ٤ ص ٢٤٢ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ١٦٧ و ١٦٩ ومعرفة السنن والآثار ج ٥ ص ١١٨ والإستيعاب ج ٤ ص ١٦٩٨ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٣ ص ٢٤٥ و ٢٥٢ ونصب الراية ج ٤ ص ٢٩٦ وموارد الظمآن ج ٥ ص ٢٧٣ و ٣٤٩ وأضواء البيان للشنقيطي ج ٢ ص ٨٢ والإكمال في أسماء الرجال ص ١١٨ والكامل لابن عدي ج ٢ ص ٢٦٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٩ ص ٤١١ وأسد الغابة ج ٥ ص ٢٣٥ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٣٢ وج ١٨ ص ٤٢٨ والمعارف لابن قتيبة ص ٢٧١ وفتوح الشام للواقدي ج ١ ص ٢١٦ والكامل في التاريخ لابن الأثير ج ١٠ ص ٥٧ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٨٥ ج ٣ ص ٤٢٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٤ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٤ ص ٢٦٧ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٢٢٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٦.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «صدق عمر» (١).
وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي قال : خرجنا مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عام حنين ، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة. فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين.
وفي رواية : نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين ، وآخر من المشركين يختله ، فضربته من ورائه على حبل عاتقة بالسيف ، فقطعت الدرع ، وأقبل علي فضمني ضمة ، وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت ، فأرسلني ، فلحقت.
وفي رواية : فلقيت عمر بن الخطاب في الناس الذين لم يهزموا ، فقلت : ما بال الناس؟
قال : أمر الله تعالى.
فرجعوا وجلس رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال : «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه».
فقمت ، فقلت : من يشهد لي؟ ثم جلست.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مثله.
فقمت فقلت : من يشهد لي؟ ثم جلست.
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٦ وقال في هامشه : أخرجه عبد الرزاق في المصنف (٣٩٧٣) وأحمد ج ١ ص ٢٤٥ وابن أبي شيبة ج ٢ ص ١٢٥ وج ١٤ ص ٥٣١ وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (١٦٧١) والبيهقي ج ٦ ص ٣٠٦ والطبراني في الكبير ج ١٢ ص ٢١٦ والصغير ج ١ ص ١٢٤ وراجع المصادر في الهامش السابق.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مثله ، فقال : «مالك يا أبا قتادة»؟ فأخبرته (١).
وذكر محمد بن عمر : أن عبد الله بن أنيس شهد له ، فقال رجل : صدق سلبه عندي ، فارضه مني ـ أو قال منيه.
فقال أبو بكر : لاها الله إذا ، لا تعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله تعالى ورسوله فيعطيك سلبه!
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٦ عن البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وأبي داود ، وابن ماجة ، وقال في هامشه : أخرجه البخاري ج ٧ ص ٦٣٠ (٤٣٢١) ومسلم ج ٣ ص ١٣٧٠ (٤١ / ١٧٥١) ، وأبو داود في الجهاد باب (١٤٦) ، والبيهقي في السنن ج ٦ ص ٣٠٦ والدلائل ج ٥ ص ١٤٨ والشافعي في المسند (٢٢٣) ، ومالك في الموطأ (٤٥٤) ، وكتاب الموطأ ج ٢ ص ٤٥٤ وشرح معاني الآثار ج ٣ ص ٢٢٦ ومعرفة السنن والآثار ج ٥ ص ١١٧ والإستذكار ج ٥ ص ٥٩ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٣ ص ٢٤٢ وكتاب الأم ج ٤ ص ١٤٩ وج ٧ ص ٢٣٩ والمجموع للنووي ج ١٨ ص ٣٢ و ٣٣ وج ١٩ ص ٣١٧ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٩٠ وعمدة القاري ج ١٥ ص ٦٨ والمنتقى من السنن المسندة ص ٢٧٠ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ١٣١ و ١٦٨ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٥ ص ١٦٥١ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٢٥٠ وأضواء البيان ج ٢ ص ٨٢ وشرح السير الكبير ج ٢ ص ٦٠١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ١٤٧ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٨٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٣.
وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٦ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٢.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «صدق فأعطه إياه» ، فأعطانيه (١).
وعند محمد بن عمر : فقال لي حاطب بن أبي بلتعة : يا أبا قتادة ، أتبيع السلاح؟!
فبعته بسبع أواق ، فابتعت به مخرفا ـ وفي رواية : خرافا في بني سلمة ـ فإنه لأول مال تأثلته ـ وفي رواية : اعتقبته ـ في الإسلام (٢).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٧ عن الواقدي. وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٢ و (ط دار المعرفة) ص ٧٢ وراجع :
المجموع للنووي ج ١٨ ص ٣٥ والمغني ج ١٠ ص ٤١٩ والشرح الكبير لابن قدامة ج ١٠ ص ٤٤٧ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٠٦ والآحاد والمثاني ج ٣ ص ٤٣٥ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٦٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٦ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٩٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٣.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٧ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ١٤٨ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٥٥ وتاج العروس ج ١٢ ص ١٥٩ وكتاب الأم ج ٤ ص ١٤٩ وج ٧ ص ٢٣٩ ومختصر المزني ص ١٤٩ والمجموع للنووي ج ١٨ ص ٣٣ و ٩٩ وج ١٩ ص ٣١٧ وموطأ مالك ج ٢ ص ٤٥٥ وراجع : نيل الأوطار ج ٨ ص ٩١ وصحيح البخاري ج ٣ ص ١٦ وج ٤ ص ٥٨ وج ٥ ص ١٠١ وج ٨ ص ١١٣ وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٤٨ وسنن أبي داود ج ١ ص ٦١٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٦ ص ٣٠٦ وج ٩ ص ٥٠ وعمدة القاري ج ١١ ص ٢١٩ وج ١٥ ص ٦٨ وج ١٧ ص ٢٩٩ وج ١٧ ص ٣٠٢ وج ٢٤ ص ٢٤٨ والمنتقى من السنن المسندة ص ٢٧٠ وشرح معاني ج ٣ ص ٢٢٦ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ١٣٢ و ١٦٨ ومعرفة السنن والآثار ج ٥ ص ١١٨ والإستذكار ج ٥ ص ٥٩ و ٨٧ والتمهيد ج ٢ ص ٥.
زاد محمد بن عمر : يقال له : الرديني.
قال في البداية في الرواية السابقة عن أنس : إن عمر قال ذلك. وهو مستغرب.
والمشهور : أن قائل ذلك أبو بكر ، كما في حديث أبي قتادة (١).
وقال الحافظ : الراجح : أن الذي قال ذلك أبو بكر ، كما رواه أبو قتادة ، وهو صاحب القصة ، فهو أتقن لما وقع فيها من غيره (٢).
قالا : فلعل عمر قال ذلك متابعة لأبي بكر ومساعدة له ، وموافقة ، فاشتبه على الراوي (٣).
قال العلماء : لو لم يكن من فضيلة أبي بكر الصديق إلا هذا لكفى ، فإنه بثاقب علمه ، وشدة صرامته ، وقوة إنصافه ، وصحة توفيقه ، وصدق تحقيقه ، بادر إلى القول بالحق ، فزجر ، وأفتى ، وحكم ، وأمضى ، وأخبر في الشريعة عن المصطفى بحضرته وبين يديه ، وبما صدقه ، فيه وأجراه على قوله (٤).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٧ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٠.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٧ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٣ وراجع : عمدة القاري ج ١٧ ص ٣٠٠.
(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٧ وراجع : عمدة القاري ج ١٧ ص ٣٠٠ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٣. والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٤.
(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٧ وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ هامش ص ١٤٧ عن أبي عبد الله الحميدي في الجمع بين الصحيحين.
ونقول :
إن لنا ملاحظات على ما تقدم ، هي التالية :
بطولات أبي طلحة :
زعمت الرواية المتقدمة : أن أبا طلحة قتل من المشركين عشرين رجلا ، وأخذ أسلابهم .. ولكن لنا أن نتساءل : متى قتل أبو طلحة هؤلاء؟ هل قتلهم قبل الهزيمة؟ أم بعدها؟!
فإن كان ذلك قبل الهزيمة ، فقد تقدم : أن الهزيمة وقعت بمجرد ورود خالد بمقدمة الجيش إلى وادي حنين ، وكانت المقدمة تتكون من بني سيلم وأهل مكة ، فخرج عليهم المشركون من الشعاب والمضايق ، فوقعت الهزيمة على المقدمة وتبعها الجيش كله ، ولم يفعل أبو طلحة ولا غيره شيئا. ولم يبق عند رسول الله «صلىاللهعليهوآله» غير علي «عليهالسلام» يقاتل ويناضل ، وبضعة نفر من بني هاشم كانوا حول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
وأما بعد وقوع الهزيمة ، فقد صرحوا : بأن راجعة المسلمين رجعت فوجدت الأسرى مكتفين حول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وصرحوا : بأنه لم يطعن أحد من المسلمين برمح ، ولا ضرب بسيف ، ولا رمى بسهم .. باستثناء عقيل ، الذي يشهد لقتاله قصة الإبرة المزعومة التي أرجعها إلى الغنيمة.
ومعنى ذلك : أن أبا طلحة لم يقتل أحدا بعد عودته من هزيمته أيضا ..
ومهما يكن من أمر : فإن لأبي طلحة مكانة عند هؤلاء الناس ، لأن عمر بن الخطاب أمره في يوم الشورى أن يضرب أعناق ستة من أهل الشورى ،
ومنهم علي «عليهالسلام» إن خالفوا ، وإن لم يتفقوا على ما يريد عمر ، وما خطط له.
وروى المعتزلي : أن أبا طلحة قال لهم : لا ، والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي وقتت لكم ، فاصنعوا ما بدا لكم (١).
هنات في حديث أبي قتادة :
ونفس هذا الكلام نقوله بالنسبة لما ادّعاه أبو قتادة أيضا في روايته الأولى ، والذي صور لنا فيها : أن معركة حامية جرت ، حتى أجهضه زحام المقاتلين عن سلب قتيله.
وادّعى في الرواية الثانية : أن الرجل الذي قتله ، أراد بقتله إياه أن يدفع عن مسلم آخر كان يواجه مأزقا بين المقاتلين من أهل الشرك.
غير أننا نقول :
إن ذلك لا يتوافق مع أجواء الهزيمة في البداية ، ولا مع ما حدث بعد العودة في النهاية.
ولو أغمضنا النظر عن ذلك ، وقبلنا : أن حدوث ذلك أكثر احتمالا من مزاعمهم عن بطولات أبي طلحة ، فإن الترجيح إنما يكون للرواية الأولى دون الثانية ، لأن الثانية تضمنت :
أولا : الزعم : بأن فريقا من المسلمين لم ينهزموا ، وأن عمر بن الخطاب كان من جملة هؤلاء .. مع أنه قد تقدم : أن ذلك غير صحيح ، وأن عليا
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٩٢ وتاريخ المدينة لابن شبة ج ٣ ص ٩٢٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٩٥ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ٦٨.
«عليهالسلام» فقط هو الذي ثبت في ساحات الجهاد ، بالإضافة إلى نفر من بني هاشم أحاطوا برسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وقد تقدمت أسماؤهم. وليس من بينهم عمر بن الخطاب ولا غيره من الجماعة التي يشير إليها.
ثانيا : هناك اختلاف وتدافع ظاهر بين روايات قتل أبي قتادة لذلك المشرك ، فهل هو قتل المشرك الذي علا رجلا من المسلمين؟! أم قتل الذي كان يختل المسلم ، حيث كان المسلم منشغلا بقتال مشرك آخر؟!
كما أننا نجد الإختلاف في الذي اعترض على أخذ ذلك الرجل للسلب ، وصدقه النبي «صلىاللهعليهوآله» ، هل هو أبو بكر ، أم عمر؟!
ثالثا : إذا كان أبو قتادة يطالب بالسلب ، ويشهد له به عبد الله بن أنيس ، فلما ذا يقحم شخص آخر نفسه في حديث يكون بين رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وبين غيره؟!
وكيف يصدر ذلك الشخص حكما جازما ـ سواء أصاب فيه أم أخطأ ـ في أمر يطلب من الرسول نفسه أن يصدر حكمه فيه؟! أليس هذا من أوضح الموارد التي نهت الآية الشريفة عنها ، حيث تقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).
فكيف أصبح الأمر المنهي عنه بنص القرآن الكريم فضيلة وكرامة يتبجح بها المتبجحون ، حتى يقول من يسمونهم بالعلماء : «لو لم يكن من فضيلة أبي بكر الصديق إلا هذا لكفى ..»؟!
ولعلك تقول : ما دام أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد سكت عن
__________________
(١) الآية ١ من سورة الحجرات.
الجواب ، فلا ضير في مبادرة غيره لحسم الأمر ، وإعطاء الضابطة ..
ونجيب بما يلي :
ألف : إن سكوت النبي «صلىاللهعليهوآله» لا يبرر الإقدام على أي شيء من دون اسئذان منه.
ب : إن كلام أبي بكر أو عمر معناه : أن إعطاء سلب من يقاتل عن الله ورسوله لغيره ظلم وعدوان ..
وهذا يعني : أنه لا مبرر لسكوت النبي «صلىاللهعليهوآله» عن بيان هذه الحقيقة ، والدفاع عن المظلوم.
ج : إن النبي «صلىاللهعليهوآله» إنما يسكت لو كان يطلب منه ما يمكنه أن يعطيه ، مما قد يكون هناك مصلحة تمنع من إعطائه ، ولكن لا يمكن أن يسكت إذا طلب منه أن يأخذ مال زيد ، ويعطيه لعمرو مثلا.
د : إن الرجل لم يطلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» شيئا يوجب هذه الصولة عليه من عمر ، أو من أبي بكر ، لأنه إنما طلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يرضي أبا قتادة ولو بالمال ، ولم يطلب اغتصاب السلب منه ليخصّه به. فلما ذا يكون ذلك مرجوحا ، وما معنى إخبار أبي بكر بالشريعة عن المصطفى؟! ولماذا زجر؟! وبماذا حكم وأفتى؟!