طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته أنفسهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا (كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، فقالوا : اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فأتركوهم ، وإن خالفوكم فاقتلوهم ، ثم قالوا : لا بل أرسلوا إلى فلان رجلا من علمائهم فاعرضوا عليه الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد.
فأرسلوا إليه ، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله عزوجل ثم جعلها في قرن ثم علّقها في عنقه ، ثم لبس عليه الثياب ، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا : أتؤمن بهذا؟ فأومأ إلى صدره فقال : آمنت بهذا ، ومالي لا أومن بهذا؟ يعني الكتاب الذي في القرن ، فخلّوا سبيله.
وكان له أصحاب يغشونه ، فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا فيه الكتاب ، فقالوا : ألا ترون قوله : آمنت بهذا ، ومالي لا أومن بهذا؟ إنما عني هذا الكتاب؟ فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة ، وخير مللهم أصحاب ذي القرن.
قال عبد الله : وإن من بقي منكم سيرى منكرا ، وبحسب أمرى يرى منكرا لا تستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره.
وقال مقاتل بن حيان : إنما يعني بذلك مؤمني أهل الكتاب قبل أن يبعث النبي صلىاللهعليهوسلم (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) يعني خروج النبي صلىاللهعليهوسلم (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع ، ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلىاللهعليهوسلم وآمنوا به ، ومنهم طائفة رجعت عن دينها وهم الذين فسّقهم (١) فكفروا بدين عيسى ولم يؤمنوا بمحمد عليهالسلام.
وقال محمد بن كعب : كانت الصحابة بمكة مجدبين ، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتروا عمّا كانوا فيه ، فقست قلوبهم ، فينبغي للمؤمنين أن يزدادوا إيمانا ويقينا وإخلاصا في طول صحبة الكتاب.
أنبأني عبد الله بن حامد ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس الضبّي ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الله النيّري ، حدّثنا أبو سعيد الأشج ، حدّثنا أبو خالد الأحمر ، عن ابن عجلان ، عن وائل بن بكر قال : قال عيسى عليهالسلام : «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون ، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب ، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى ، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية» [٢٢١].
__________________
(١) كذا في المخطوط.
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى ، حدّثنا أبو عبد الله المقرئ قال : سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : سمعت أبا عمار الحسين ابن حريث يقول : سمعت الفضل بن موسى السيناني يقول : كان سبب توبة الفضل بن عياض أنه عشق جارية فواعدته ليلا ، فبينما هو يرقى الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) فرجع القهقرى.
وهو يقول : بلى فلان بلى والله فلان. فأواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة ، وإذا بعضهم يقول لبعض بالفارسية : فضيل بدر أهست در ما راه برّذ.
فقال الفضيل في نفسه : الا أراني أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين يخافونني؟
اللهم إني قد تبت إليك ، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
ثم أقبل عليهم فقال لهم بالفارسية : منم فضيل كناه كار أز من ترسيديد اكنون مترسيد.
قال الفضل بن موسى : ثم خرج فجاور.
وحدّثنا أبو سعد بن أبي عثمان الزاهد ، أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أبي عمران بمكة ، حدّثنا أبو يعقوب البزاز ، حدّثنا محمد بن حاتم السمرقندي ، حدّثنا أحمد بن زيد ، حدّثنا حسين ابن الحسن قال : سئل ابن المبارك وأنا حاضر عن أول زهده فقال : إني كنت في بستان ، وأنا شاب مع جماعة من أترابي ، وذلك في وقت الفواكه ، فأكلنا وشربنا وكنت مولعا بضرب العود فقمت في بعض الليل ، فإذا غصن يتحرك عند رأسي فأخذت العود لأضرب به فإذا بالعود ينطق وهو يقول (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) قال : فضربت بالعود الأرض فكسرته وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي كنت عليها مما شغلت عن الله ، وجاء التوفيق من الله عزوجل فكان ما سهل لنا من الخير بفضل الله.
(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ
مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥))
(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ). قرأ ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر والمفضل بتخفيف الصادين من التصديق مجازه : إن المؤمنين والمؤمنات.
وقرأ الباقون : بتشديدهما بمعنى أن المتصدقين والمتصدقات ، فأدغم التاء في الصاد كالمزمل والمدثر ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا لقراءة أبي : (إن المتصدقين والمتصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا) بالصدقة والنفقة في سبيله.
قال الحسن : كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع وإنما عطف بالفعل على الاسم لأنه في تقدير الفعل ، مجازه : إن الذين صدقوا وأقرضوا يضاعف لهم أمثالها.
قراءة العامة : بالألف وفتح العين. وقرأ الأعمش : (يضاعِفه) بكسر العين وزيادة هاء.
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو جعفر (يضعّف) بالتشديد.
(وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) وهو الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) واحدهم : صديق وهو الكثير الصدق.
قال الضحاك : هم ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام : أبو بكر وعلي وزيد وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد وحمزة بن عبد المطلب ، تاسعهم عمر بن الخطاب ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نبيّه.
(وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اختلف العلماء في نظم هذه الآية وحكمها ، فقال قوم : تمام الكلام عند قوله : (الصِّدِّيقُونَ) ثم ابتدأ فقال : (وَالشُّهَداءُ) وأراد بهم شهداء المؤمنين خاصة ، والواو فيه واو الاستثناء ، وهذا قول ابن عباس ومسروق وجماعة من العلماء. وقال الآخرون : هي متصلة بما قبلها ، والواو فيه واو النسق.
ثم اختلفوا في معناها ، فقال الضحّاك : نزلت في قوم مخصوصين من المؤمنين ، وكانوا كلّهم شهداء ، وقد مرّ ذكرهم.
وقال غيره : نزلت في المؤمنين المخلصين كلّهم.
أخبرني عبد الله بن حامد ـ إجازة ـ قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال : حدّثنا عبد الله ابن غنام النخعي قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا عبيد بن سعيد ، عن شعبة ، عن أبي
قيس ، عن الهرمل ، عن عبد الله قال : إنّ الرجل ليقاتل الناس ليرى مكانه ، وإنّ الرجل ليقاتل على الدنيا ، وإنّ الرجل ليقاتل ابتغاء وجه الله ، وإنّ الرجل ليموت على فراشه فيكون شهيدا ، ثم قرأ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن خالد قال : حدّثنا داود بن سليمان قال : حدّثنا عبد بن حميد قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا سفيان بن ليث ، عن مجاهد قال : كلّ مؤمن صدّيق شهيد ، ثم قرأ هذه الآية ، يعني موصولة.
وقال ابن عباس في بعض الروايات : أراد بالشهداء الأنبياء خاصّة.
(لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) في ظلمة القيامة. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ * اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) : (ما) صلة مجازه (اعْلَمُوا).
(لَعِبٌ) باطل لا حاصل له (وَلَهْوٌ) : فرح ثم ينقضي (وَزِينَةٌ) منظر يتزيّنون به ، (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) : يفخر به بعضكم على بعض ، (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي يتاه بكثرة الأموال والأولاد.
وقال بعض المتأوّلين من المتأخّرين : لعب كلعب الصبيان ، ولهو كلهو الفتيان ، وزينة كزينة النسوان ، وتفاخر كتفاخر الأقران ، وتكاثر كتكاثر الدهقان.
وقال عليّ بن ابي طالب لعمار بن ياسر : «لا تحزن على الدنيا ، فإن الدنيا ستّة أشياء : مطعوم ، ومشروب ، وملبوس ، ومشموم ، ومركوب ، ومنكوح. فأكبر طعامها العسل وهي بزقة ذبابة ، وأكبر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان ، وأكبر الملبوس الديباج وهي نسجة دود ، وأكبر المشموم المسك ، وهي دم فأرة ظبية ، وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال ، وأكبر المنكوح النساء وهو مبال في مبال. والله إن المرأة ليزيّن أحسنها يراد به أقبحها» (١).
ثم ضرب جلّ ذكره لها مثلا فقال عزّ من قائل : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) أي الزّرّاع (نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) فيبلى ويفنى (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ) ، يعني : أو مغفرة (مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ * سابِقُوا) : سارعوا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها) : سعتها كعرض السماوات والأرض لوصل بعضها ببعض.
وقال ابن كيسان : عنى به جنّة واحدة من الجنان.
(أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) بالجدب والقحط وذهاب الزرع والثمر (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) بالأوصاب والأسقام.
__________________
(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ٢٥٥.
وقال الشعبي : المصيبة : ما يكون من خير وشرّ وما يسيء ويسرّ.
ودليل هذا التأويل قوله سبحانه : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (١) فذكر الحالتين جميعا : (إِلَّا فِي كِتابٍ) يعني : اللوح المحفوظ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) : من قبل أن نخلق الأرض والأنفس.
وقال ابن عباس : يعني المصيبة.
وقال أبو العالية : يعني النسمة.
(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) إن خلق ذلك وحفظه على الله هيّن.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن مخلد قال : أخبرنا داود قال : حدّثنا عبيد قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا الربيع بن أبي صالح قال : دخلت على سعيد بن جبير في نفر فبكى رجل من القوم ، فقال : ما يبكيك؟ قال : أبكي لما أرى بك ولما يذهب بك إليه. قال : فلا تبك ، فإنّه كان في علم الله سبحانه أن يكون ، ألم تسمع إلى قول الله عزوجل : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية.
(لِكَيْلا تَأْسَوْا) : تحزنوا (عَلى ما فاتَكُمْ) من الدنيا ، (وَلا تَفْرَحُوا) : تبطروا (بِما آتاكُمْ). قراءة العامّة بمدّ الألف ، أي (أعطاكم) ، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو بقصر الألف أي : (جاءكم) ، واختاره أبو عبيد ، قال : لقوله سبحانه : (فاتَكُمْ) ولم يقل : (أفاتكم) فجعل له ، فكذلك (أتاكم) جعل الفعل له ليوافق الكلام بعضه بعضا.
قال عكرمة : ما من أحد إلّا وهو يفرح ويحزن فاجعلوا للفرح شكرا وللحزن صبرا.
(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) : متكبّر بما أوتي من الدنيا ، فخور به على الناس.
وقال ابن مسعود : لأن الحس جمرة أحرقت ما أحرقت ، وأبقت ما أبقت ، أحبّ إليّ من أن أقول لشيء كان : ليته لم يكن ، أو لشيء لم يكن : ليته كان.
وقال جعفر الصادق : «يا بن آدم ، ما لك تأسّف (٢) على مفقود لا يردّه إليك الفوت؟ وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟» (٣).
وقيل لبزرجمهر : ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت؟ فقال : لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة ، والآتي لا يستدام بالحبرة.
__________________
(١) سورة الحديد : ٢٣.
(٢) في المصدر : تأس.
(٣) تفسير القرطبي : ١٧ / ٢٥٨.
وقال الفضيل في هذا المعنى : الدنيا مفيد ومبيد فما أباد فلا رجعة له ، وما أفاد فقد أذن بالرحيل.
وقال الحسين بن الفضل : حمل الله سبحانه بهذه الآية المؤمنين على مضض الصبر على الفائت ، وترك الفرح بالآتي ، والرضا بقضائه في الحالتين جميعا.
وقال قتيبة بن سعيد : دخلت بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء من الأرض مملوء من الإبل الموتى والجيف بحيث لا أحصي عددها ، فسألت عجوزا : لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلّ يغزل صوفا ، فقلت له : يا شيخ ألك كانت هذه الإبل؟ قال : كانت باسمي. قلت فما أصابها؟ قال : ارتجعها الذي أعطاها. قلت : وهل قلت في ذلك شيئا؟ قال : نعم :
لا والذي أخذ [...] (١) من خلائقه |
|
والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن |
ما سرّني أنّ إبلي في مباركها |
|
وما جرى في قضاء الله لم يكن (٢) |
وقال سلم الخوّاص : من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين ؛ ليضع الله سبحانه الدنيا والآخرة بين يديه. قيل : وما مذهبكم؟ قال : الرضا بالقضا ، ومخالفة الهوى.
وأنشد :
لا تطل الحزن على فائت |
|
فقلّما يجدي عليك الحزن |
سيّان محزون على ما مضى |
|
ومظهر حزنا لما لم يكن |
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) ، قيل : هو في محل الخفض على نعت (المختال) ، وقيل : هو رفع بالابتداء وخبره ما بعده. (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) قرأ أهل المدينة والشام بإسقاط (هو) وكذلك هو في مصاحفهم. الباقون بإثباته.
(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) يعني له يعدل. وقال ابن زيد : ما يوزن به. (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) : ليعمل الناس بينهم بالعدل (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) ، قال ابن عباس : نزل آدم من الجنّة معه خمسة أشياء من الحديد : السندان ، والكلبتان ، والمنقعة ، والمطرقة ، والإبرة.
وقال أهل المعاني : يعني أنه أخرج لهم الحديد من المعادن ، وعلمهم صنيعته بوحيه.
وقال قطرب : هذا من النزل كما تقول : أنزل الأمر على فلان نزلا حسنا ، فمعنى الآية أنه جعل ذلك نزلا لهم ، ومثله قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (٣).
__________________
(١) كلمة غير مقروءة.
(٢) زاد المسير لابن الجوزي : ٧ / ٣٠٨.
(٣) سورة الزمر : ٦.
ودليل تأويل السلف من المفسرين ما أخبرنا أبو سفيان الحسن بن عبد الله الدهقان قال : حدّثنا الحسن بن إسماعيل بن خلف الخيّاط قال : حدّثنا أبو بكر محمّد بن الفرج المعدّل قال : حدّثنا محمّد بن عبيد بن عبد الملك قال : حدّثنا سفيان بن محمّد أبو محمّد (ابن أخت سفيان الثوري) عن عبد الملك بن ملك التميمي عن عبد الله بن خليفة عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله عزوجل أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : فأنزل الحديد ، والنّار ، والماء والملح» (١) [٢٢٢].
(فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) ، قوّة شديدة ، يعني : السلاح والكراع ، (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ممّا يستعملونها في مصالحهم ومعايشهم ؛ إذ هو آلة لكلّ صنعة. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) ، يعني : أرسلنا رسلنا ، وأنزلنا معهم هذه الأشياء ؛ ليعامل الناس بالحقّ والعدل وليرى سبحانه (مَنْ يَنْصُرُهُ) أي دينه (وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) على دينه (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) والرأفة أشد الرقّة (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) من قبل أنفسهم (ما كَتَبْناها) فرضناها وأوجبناها (عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ) يعني : ولكنهم ابتغوا (رِضْوانِ اللهِ) بتلك الرهبانية (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) ، وهم أهل الرأفة والرحمة والرهبانية التي ابتدعوها طلبا لرضا الله (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) يعني الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها وكفروا بدين عيسى وتهوّدوا وتنصّروا. وبنحو ما فسّرنا ورد فيه الآثار.
وقال ابن مسعود : كنت رديف رسول الله صلىاللهعليهوسلم على حمار ، فقال لي : «يا ابن أمّ عبد ، هل تدري من أين اتّخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟». قلت : الله ورسوله أعلم.
__________________
(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٤٠١.
قال : «ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليهالسلام يعملون بمعاصي الله سبحانه ، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلّا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه ، فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى ـ يعنون محمّدا ـ فتفرّقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا الرهبانية ، فمنهم من تمسّك بدينه ومنهم من كفر» [٢٢٣]. ثم تلا هذه الآية (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) ـ الآية.
(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ) يعني : من ثبتوا عليها (أَجْرَهُمْ) ، ثم قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «يا ابن أم عبد ، أتدري ما رهبانية أمتي؟» قلت : الله ورسوله أعلم. قال : «الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع» (١) [٢٢٤].
وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال : حدّثنا محمّد بن عبد الله ابن سليمان قال : حدّثنا شيبان بن فرّوخ قال : حدّثنا الصعق بن حزن ، عن عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق ، عن سويد بن غفلة ، عن ابن مسعود قال : دخلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا ابن مسعود ، اختلف من كان قبلكم على ثنتين وسبعين فرقة ونجا منها ثلاث وهلك سائرهن ، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم تدعوهم إلى دين الله سبحانه ودين عيسى ، فساحوا في البلاد وترهّبوا وهم الذين قال الله سبحانه : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ)».
قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «من آمن بي وصدّقني واتّبعني فقد رعاها (حَقَّ رِعايَتِها) ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون» [٢٢٥] (٢).
وروى الضحّاك وعطّية عن ابن عباس قال : كتب الله سبحانه عليهم القتال قبل أن يبعث محمّدا صلىاللهعليهوسلم فلما استخرج أهل الإيمان ولم يبق منهم إلّا قليل وكثر أهل الشرك ، وذهبت الرسل وقهروا ، اعتزلوا في الغيران فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم ، وتركوا أمر الله ودينه ، وأخذوا بالبدعة وبالنصرانيّة وباليهودية ، ولم يرعوها حقّ رعايتها ، وثبتت طائفة على دين عيسى حتى جاءهم البيّنات ، وبعث الله سبحانه محمّدا صلىاللهعليهوسلم وهم كذلك. فذلك قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) إلى قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن جعفر قال : حدّثنا عليّ بن حرب قال : حدّثنا ابن فضيل قال : حدّثنا عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس.
وحدّثت عن محمّد بن جرير ، قال : حدّثنا أبو عمّار الحسين بن حريث قال : حدّثنا الفضل
__________________
(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ٢٦٥.
(٢) مجمع الزوائد : ٧ / ٢٦٠.
ابن موسى عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت ملوك بعد عيسى عليهالسلام بدّلوا التوراة والإنجيل. وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله ويأمرونهم بتقوى الله سبحانه ، فقيل لملكهم : لو جمعت هؤلاء الذين شقّوا عليكم وآذوكم فقتلتموهم ، أقرّوا بما نقرّ به ، ودخلوا فيما نحن فيه. فدعاهم ملكهم وجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل. إلّا ما بدّلوا فيها ، فقالوا : ما تريد منّا؟ نحن نكفيكم أنفسنا. فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نردّ عليكم. وقالت طائفة أخرى : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونسرب كما تسرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا. وقالت طائفة منهم : ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمرّ بكم. وليس أحد من أولئك إلّا له حميم منهم ، ففعلوا ذلك بهم فمضى أولئك على منهاج عيسى ، وخلف قوم من بعدهم ممّن قد غيّر الكتاب ، فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبّد كما تعبّد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ، ونتّخذ دورا كما اتّخذ فلان ، وهم على شركهم ، ولا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله سبحانه : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ). قال : ابتدعها هؤلاء الصالحون (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) ، يعني الآخرين الذين جاءوا من بعدهم ، و (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) يعني الذين : ابتدعوها (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) : الذين جاءوا من بعدهم.
قال : فلمّا بعث النبيّ صلىاللهعليهوسلم عليهالسلام ولم يبق منهم إلّا قليل ، انحطّ رجل من صومعته ، وجاء السائح من سياحته وصاحب الدير من ديره ، وآمنوا به وصدّقوه فقال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمّد عليهالسلام (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال : أجرين ؛ لإيمانهم بعيسى والإنجيل وإيمانهم بمحمّد والقرآن ، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يعني : القرآن (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) الذين يتشبّهون بهم (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) إلى آخرها.
وقال قوم : انقطع الكلام عند قوله : (وَرَحْمَةً) ثم قال : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) ؛ وذلك أنّهم تركوا الحقّ ، وأكلوا لحم الخنزير ، وشربوا الخمر ، ولم يتوضّؤوا ولم يغتسلوا من جنابة ، وتركوا الختان ، (فَما رَعَوْها) يعني : الطاعة والملّة (حَقَّ رِعايَتِها). كناية عن غير مذكور. (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) ، وهم أهل الرأفة والرحمة (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) ، وهم أهل الرهبانية والبدعة ، وإليه ذهب مجاهد.
ومعنى قوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) : وما أمرناهم إلّا بذلك وما أمرناهم إلّا بالترهّب ، أو يكون وجهه : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) بزعمهم وعندهم ، والله أعلم.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمّد عليهالسلام (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) : نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) ؛ لإيمانكم بالأوّل وإيمانكم بالآخر.
وقال أبو موسى الأشعري : (كِفْلَيْنِ) : ضعفين بلسان الحبشة.
قال ابن جبير : وأصله ما يكتفل به الراكب من الثياب والمتاع فيحبسه ويحفظه من السقوط ، يقول : يحصنكم هذا الكفل من العذاب كما يحصن الراكب الكفل من السقوط. ومنه الكفالة ؛ لأنّها تحصن الحقّ.
(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) في الناس ، وعلى الصراط أحسن.
وقال ابن عباس : النور القرآن.
وقال مجاهد : الهدى والبيان ، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
قال سعيد بن جبير : بعث النبي صلىاللهعليهوسلم جعفرا رضياللهعنه في سبعين راكبا للنجاشي يدعوه ، فقدم عليه فدعاه فاستجاب له وآمن به ، فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا : ايذن لنا فنأتي هذا النبيّ صلىاللهعليهوسلم فنلمّ به ونجدّف بهؤلاء في البحر ؛ فإنا أعلم بالبحر منهم. فقدموا مع جعفر على النبيّ صلىاللهعليهوسلم وقد تهيأ النبيّ صلىاللهعليهوسلم عليهالسلام لوقعة أحد ، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة وشدّة الحال استأذنوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم عليهالسلام فقالوا : يا رسول الله إنّ لنا أموالا ، ونحن نرى ما بالمسلمين من خصاصة ، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها. فأذن لهم فانصرفوا وأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين ، فأنزل الله سبحانه فيهم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) إلى قوله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (١) فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن قوله : (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) (٢) ، فجروا على المسلمين فقالوا : يا معشر المسلمين ، أما من آمن منّا بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟ فأنزل الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة
ثم قال : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) ، وهكذا قرأها سعيد بن جبير (أَلَّا يَقْدِرُونَ) الآية.
وروى حنان عن الكلبي قال : كان هؤلاء أربعة وعشرين رجلا قدموا من اليمن على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو بمكّة ، لم يكونوا يهودا ولا نصارى ، وكانوا على دين الأنبياء فأسلموا ، فقال لهم أبو جهل : بئس القوم أنتم والوفد لقومكم. فردّوا عليه : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) ، فجعل الله سبحانه لهم ولمؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه أجرين اثنين ، فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقالوا : نحن أفضل منكم لنا أجران ولكم أجر واحد ، فأنزل الله سبحانه : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) الآية.
__________________
(١) سورة القصص : ٥٤.
(٢) سورة القصص : ٥٤.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن سفيان ، عن صالح ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من كانت له أمة فعلّمها فأحسن تعليمها ، وأدّبها فأحسن تأديبها ، وأعتقها وتزوّجها فله أجران ، وعبد أدّى حقّ الله وحقّ مواليه ، ورجل (١) من أهل الكتاب آمن بما جاء به موسى أو ما جاء به عيسى وما جاء به محمّد صلىاللهعليهوسلم فله أجران» [٢٢٦] (٢).
وقال قتادة : حسد أهل الكتاب المسلمين ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مجاهد : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل ، فلمّا خرج من العرب كفروا ، فأنزل الله سبحانه (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي ليعلم (لا) صلة (أَلَّا يَقْدِرُونَ) يعني أنّهم لا يقدرون ، كقوله : (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) (٣) وأنشد الفرّاء :
إنّي كفيتك ما توثق |
|
إن نجوت إلى الصباح |
وسلمت من عرض الجنون |
|
من الغدوّ إلى الرواح |
إن تهبطنّ بلاد قومي |
|
يرتعون من الطلاح |
أي : إنّك تهبطن.
(عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) الآية.
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثني أبو بكر بن خرجة قال : حدّثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال : حدّثنا الحسن بن السكن البغدادي ، قال : حدّثنا أبو زيد النحوي ، عن قيس بن الربيع عن الأعمش ، عن عطيّة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله عزوجل قسّم الأجر وقسّم العمل ، فقيل لليهود : اعملوا ، فعملوا إلى نصف النهار ، فقيل : لكم نصف قيراط. وقيل للنصارى : اعملوا ، فعملوا من نصف النهار إلى العصر ، فقيل : لكم قيراط.
وقيل للمسلمين : اعملوا ، فعملوا من صلاة العصر إلى غروب الشمس بقيراطين. فتكلّم اليهود والنصارى في ذلك ، فأنزل الله سبحانه : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)» [٢٢٧] (٤).
__________________
(١) في المصدر : أيما رجل من أهل الكتاب ... مع تقديم وتأخير فيه.
(٢) مسند أحمد : ٤ / ٣٩٥.
(٣) سورة طه : ٨٩.
(٤) الدر المنثور : ٦ / ١٧٩.
سورة المجادلة
مدنيّة ، وهي ألف وسبعمائة واثنان وتسعون حرفا ،
وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة ، واثنتان وعشرون آية
أخبرنا أبو الحسين عليّ بن محمّد بن الحسن المقرئ ، عن مرّة قال : حدّثنا أبو بكر أحمد ابن إبراهيم الجرجاني وأبو الشيخ عبد الله بن محمّد الأصبهاني قالا : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم ابن شريك الكوفي قال : حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال : حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة ، عن أبىّ بن كعب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة» [٢٢٨] (١).
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧))
(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ) : تخاصمك وتحاورك وتراجعك (فِي زَوْجِها) وهي امرأة من الأنصار ثمّ من الخزرج ، واختلفوا في اسمها ونسبها ، فقال ابن عباس : هي خولة بنت
__________________
(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٤٠٧.
خولد. وقال أبو العالية : خويلة بنت الدليم. وقال قتادة : خويلة بنت ثعلبة. وقال المقاتلان : خولة بنت ثعلبة ابن مالك بن خزامة الخزرجية من بني عمرو بن عوف.
عطية عن ابن عباس : خولة بنت الصامت.
وروى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضياللهعنها أنّ اسمها جميلة (١) ، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وذلك أنّها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها فنظر إلى عجزها ، فلمّا انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها ، وكان امرئا فيه سرعة ولمم.
فقال لها : أنت عليّ كظهر أمّي. ثم ندم على ما قال ، وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية. فقال لها : ما أظنك إلّا قد حرمت عليّ. قالت : لا تقل ذلك ، ائت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسله. فقال : إني أجدني استحي منه أن أسأله عن هذا. قالت : فدعني أسأله. قال : سليه.
فأتت النبي صلىاللهعليهوسلم وعائشة تغسل شقّ رأسه ، فقالت : يا رسول الله ، إنّ زوجي أوس بن الصامت تزوّجني ، وكنت شابّة جميلة ذات مال وأهل ، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرّق وكبرت سنّي ظاهر منّي وقد ندم ، فهل من شيء يجمعني وإيّاه ينعشني؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «حرمت عليه». فقالت : يا رسول الله ، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا ، وإنّه أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «حرمت عليه». فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ، قد طالت صحبتي ونقصت (٢) له بطني. فقال رسول الله عليهالسلام : «ما أراك إلّا وقد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء» [٢٢٩] (٣).
فجعلت تراجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإذا قال لها رسول الله عليهالسلام : «حرمت عليه» هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي ، اللهمّ ، فأنزل على لسان نبيّك.
وكان هذا أول ظهار في الإسلام. فقامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر فقالت : انظر في أمري ، جعلني الله فداك يا نبيّ الله. فقالت عائشة : اقصري حديثك ومحادثتك ، أما ترين وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا أنزل عليه أخذه مثل السبات؟ فلمّا قضى الوحي قال : «ادعي زوجك» [٢٣٠]. فجاء ، فقرأ ما نزل عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ثم بيّن حكم الظهار ، وجعل فيه الكفّارة ، فقال سبحانه : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ) إلى آخرها ، قالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلّها ، إنّ المرأة لتحاور رسول الله وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى عليّ بعضه ، إذ أنزل سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ) الآيات.
__________________
(١) في المصدر : خولة بنت ثعلبة.
(٢) كذا في المخطوط وفي المصدر : نثرت.
(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٦٦٦ ح ٢٠٦٣ ، والسنن الكبرى : ٧ / ٣٨٢ ، ومستدرك الحاكم : ٢ / ٤٨١.
فلمّا نزلت هذه الآيات وتلاها عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : «هل تستطيع أن تعتق رقبة؟».
قال : إذن يذهب مالي كلّه. الرقبة غالية وأنا قليل المال. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فهل تستطيع أن تصوم (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ)؟». قال : والله يا رسول الله ، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات كلّ بصري وخشيت أن تعشو عيني. قال : «فهل تستطيع أن تطعم (سِتِّينَ مِسْكِيناً)؟». قال : لا والله ، إلّا أن تعينني على ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّي معينك بخمسة عشر صاعا ، وأنا داع لك بالبركة» [٢٣١] (١).
فأعانه رسول الله صلىاللهعليهوسلم بخمسة عشر صاعا واجتمع لهما أمرهما.
فذلك قوله : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) ، قد ذكرنا اختلاف القرّاء في هذا الحرف في سورة الأحزاب.
(ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) قرأ العامّة بخفض التاء ومحلّه نصب ، كقوله سبحانه : (ما هذا بَشَراً) (٢). وقيل : (بأمهاتهم). وقرأ المفضّل بضمّ التاء. (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أي كذبا ، والمنكر : الذي لا تعرف صحّته. (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) ، اعلم أنّ الألفاظ التي يصير المرء بها مظاهرا على ضربين : صريح ، وكناية. فالصريح هو أن يقول : أنت عليّ كظهر أمّي ، وكذلك إذا قال : أنت عليّ كبطن أمّي أو كرأس أمّي أو كفرج أمّي ، وهكذا إذا قال : فرجك أو رأسك أو ظهرك أو صدرك أو بطنك أو يدك أو رجلك عليّ كظهر أمّي ، فإنّه يصير مظاهرا ، وكلّ ذلك محلّ قوله : يدك أو رجلك أو رأسك أو بطنك طالق فإنّه تطلق ، والخلاف في هذه المسألة بين الفريقين كالخلاف في الطلاق.
ومتى ما شبّهها بأمّه أو بإحدى جدّاته من قبل أبيه وأمّه كان ذلك ظهارا بلا خلاف. وإن شبّهها بغير الأمّ والجدّة من ذوات المحارم التي لا تحلّ له بحال كالابنة والأخت والعمّة والخالة ونحوها ، كان مظاهرا على الصحيح من المذاهب. فصريح الظهار هو أن يشبّه زوجته أو عضوا من أعضائها بعضو من أعضاء أمّه ، أو أعضاء واحدة من ذوات محارمه.
والكناية أن يقول : أنت عليّ كأمّي ، أو مثل أمّي أو نحوها ، فإنّه يعتبر فيه نيّته. فإن أراد ظهارا كان مظاهرا وإن لم ينو الظهار لا يصر مظاهرا. وكلّ زوج صحّ طلاقه صحّ ظهاره ، سواء كان عبدا أو حرا أو ذمّيا أو دخل بالمرأة أو لم يدخل بها ، أو كان قادرا على جماعها أو عاجزا عنه. وكذلك يصحّ الظهار من كلّ زوجة ، صغيرة كانت أو كبيرة ، أو عاقلة أو مجنونة ، أو رتقاء أو سليمة ، أو صائمة أو محرمة ، أو ذمّية ، أو مسلمة ، أو في عدّة يملك رجعتها.
__________________
(١) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٤٠٩ بتفاوت يسير.
(٢) سورة يوسف : ٣١.
وقال أبو حنيفة : لا يصحّ ظهار الذمّيّ. وقال مالك : لا يصحّ ظهار العبد ، قال بعض العلماء : لا يصحّ ظهار غير المدخول بها. وقال المزني : إذا طلّق الرجل امرأته طلقة رجعيّة ثم ظاهر فإنّه لا يصحّ.
(ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) اعلم أنّ الكفارة تلزم بالظهار وبالعود جميعا ، ولا تلزم بأحدهما دون الآخر. كما أنّ الكفارة في باب اليمين تجب باليمين والحنث جميعا معا ، فإذا عاد في ظهاره لزمته الكفّارة.
واختلف العلماء والفقهاء في معنى العود ؛ فقال الشافعي : العود الموجب للكفّارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار وتمضي مدّة يمكنه أن يطلّقها فلم يطلّقها.
وقال قتادة : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) يريد أن يغشاها ويطأها بعد ما حرّمها. وإليه ذهب أبو حنيفة ، قال : إن عزم على وطئها ونوى أن يغشاها كان عودا.
وقال مالك : إن وطئها كان عودا ، وإن لم يطأها لم يكن عودا.
وقال أصحاب الظاهر : إن كرّر اللفظ كان عودا وإن لم يكرّر لم يكن عودا. وهو قول أبي العالية ، وظاهر الآية يشهد له ، وهو قوله : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أي إلى ما قالوا ، (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (١) (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ؛ لأنّ الله سبحانه قيّد الرقبة بالإيمان في كفّارة القتل وأطلق في هذا الموضع ، ومن حكم المطلق أن يحمل على القيد. وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي يتجامعا ، فالجماع نفسه محرّم على المظاهر حتى يكفّر ، فإن وطئ قبل التكفير فقد فعل محرّما ، ولا تسقط عنه الكفّارة بل يأتي بها على وجه القضاء ، كما لو أخّر الصلاة عن وقتها ، فإنّه لا يسقط عنه إتيانها بل يلزمه قضاؤها. وسواء كفّر بالإعتاق أو الصيام أو الإطعام فإنّه يجب عليه تقديم الكفّارة ، ولا يجوز له أن يطأها قبل الكفّارة.
وقال أبو حنيفة : إن كفّر بالإطعام جاز له أن يطأ ثم يطعم ولم يخالف في العتق والصيام.
فهذا حكم وطء المظاهر قبل التكفير.
وأمّا غير الوطء من التقبيل والتلذّذ فإنّه لا يحرم في قول أكثر العلماء. وهو قول الحسن وسفيان ، والصحيح من مذهب الشافعي. وقال بعضهم : عنى به جميع معاني المسيس ؛ لأنّه عامّ وهو أحد قولي الشافعي رضياللهعنه.
(ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) : تؤمرون به ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الرقبة ولا
__________________
(١) كذا في المخطوط ، والظاهر أنّ هنا سقطا من كلام المصنّف وهو كلمة (مؤمنة) الشارحة للرقبة كي يستقيم التعليل.
ثمنها ، أو يكون مالكا للرقبة إلّا إنّه محتاج إليها لخدمته ، أو يكون مالكا للثمن ولكن يحتاج إليه لنفقته أو كان له مسكن يسكنه ، فله الانتقال إلى الصوم.
وقال أبو حنيفة : ليس له أن يصوم وعليه أن يعتق الرقبة وإن كان محتاجا إليها وإلى ثمنها ، فإن عجر عن الرقبة (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فإن أفطر في أثنائها بغير عذر قطع التتابع وعليه أن يستأنف شهرين متتابعين. وإن أفطر بعذر المرض أو السفر ، فاختلف الفقهاء فيه ، فقال قوم : لا ينقطع التتابع وله أن يبني ويقضي الباقي ، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي ، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال آخرون : ليس له أن يبني بل يلزمه أن يستأنف ويبتدئ ، وهو قول النخعي وأصحابه ، والأصحّ من قولي الشافعي.
وإن تخلّل صوم الشهرين زمان لا يصحّ فيه الصوم عن الكفّارة كالعيدين وأيام التشريق وأيام شهر رمضان ، فإنّ التتابع ينقطع بذلك ويجب الاستئناف.
ولو وطئ المظاهر في الشهرين ، نظر ؛ فإن وطئها نهارا بطل التتابع وعليه الابتداء ، وإن وطئها ليلا لم يبطل التتابع. وقال أبو حنيفة : سواء وطئ ليلا أو نهارا فإنّه يبطل التتابع وعليه أن يستأنف صوم شهرين متتابعين.
(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) الصيام ، وعدم الاستطاعة مثل أن يخاف من الصوم لعلة أو لحوق ومشقّة شديدة ومضرّة ظاهرة ، (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) لكلّ مسكين مدّ من غالب قوت بلده ، والخلاف فيه بين الفريقين كالاختلاف في زكاة الفطرة. (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ).
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ) : يخالفون ويعادون (اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا) : أهلكوا وأخّروا وأحربوا (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ) قراءة العامّة بالياء لأجل الحائل ، وقرأ أبو جعفر القارئ (تكون) ـ بالتاء ـ لتأنيث النجوى ، والأول أفصح وأصحّ (مِنْ نَجْوى) متناجين (ثَلاثَةٍ) ، قال الفراء : إن شئت خفضت الثلاثة على نعت النجوى وإن شئت أضفت النجوى إليها ، ولو نصبت على أنّها [حال] (١) لكان صوابا. (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) بالعلم يسمع نجواهم ويعلم فحواهم ، (وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ) ، قراءة العامّة بالنصب في محلّ الخفض عطفا. وقرأ يعقوب وأبو حاتم أكثر بالرفع على محلّ الكلام قبل دخول (من) ، وقرأ
__________________
(١) في المخطوط : فعل.
الزهري أكبر بالباء (١) ، (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) ـ الآية ـ قال ابن عباس : نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنّهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين ، وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا : ما نراهم إلّا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم وأقرباؤهم. فلمّا طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأمرهم ألّا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك ، وعادوا إلى مناجاتهم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتلان (٢) : أنزلت في اليهود ، وكانت بينهم وبين النبي صلىاللهعليهوسلم موادعة ، فإذا مرّ بهم رجل من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم عليهالسلام جلسوا يتناجون فيما بينهم حتى ينظر المؤمن أنّهم يتناجون بقتله أو بما يكره ، فينزل الطريق عليهم من المخافة ، فبلغ ذلك النبي عليهالسلام فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال ابن زيد : كان الرجل يأتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسأله الحاجة ليري الناس أنّه قد ناجى فيقول لهم : إنّما يتناجون في حرب حضرت ، أو جمع قد جمع لكم ، أو أمر مهمّ قد وقع ، فأنزل الله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) أي المناجاة.
(ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها (وَيَتَناجَوْنَ) ، قرأ يحيى والأعمش وحمزة (ينتجون) على وزن (يفتعلون) ، وقرأ الباقون (يَتَناجَوْنَ) على وزن (يتفاعلون) ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : (إِذا تَناجَيْتُمْ) و (تَناجَوْا) ولم يقل (انتجيتم) و (انتجوا). (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) وقرأ الضحّاك : (ومعصيات الرسول) فيهما بالجمع (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وذلك أنّ اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيقولون : السام عليك. فيرد عليهم رسول الله : «وعليكم». ولا يدري ما يقولون ، والسام الموت ، فإذا خرجوا قالوا : لو كان نبيّا لعذّبنا واستجيب فينا وعرف قولنا. فدخلوا عليه ذات يوم وقالوا : السام عليك. ففطنت عائشة رضياللهعنها إلى قولهم وقالت : وعليكم السام والذام
__________________
(١) أي أكبر.
(٢) كذا في المخطوط ، والأولى : المقاتلان.
والداء واللعنة. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مه يا عائشة ، إنّ الله ـ عزوجل ـ يحبّ الرفق في الأمر كلّه ولا يحبّ الفحش والتفحّش».
فقالت : يا رسول الله ، ألم تسمع ما قالوا؟ ، فقال رسول الله عليهالسلام : «ألم تسمعي ما رددت عليهم؟». فأنزل الله هذه الآية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم» [٢٣٢] (١).
ثم نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا) ، قراءة العامّة بالألف ، وروى أويس (٢) عن يعقوب : (فلا تتنجوا) من الانتجاء. (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) كفعل المنافقين واليهود (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ) التناجي (بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن جعفر قال : حدّثنا حمّاد بن الحسن قال : حدّثنا عبيد الله قال : حدّثنا الأعمش ، عن سفيان عن عبد الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون [صاحبهما] (٣) ؛ فإنّ ذلك يحزنه» [٢٣٣] (٤).
أخبرنا محمّد بن حمدون قال : أخبرنا مكّي قال : أخبرنا عبد الله بن بشر قال : حدّثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يتناج اثنان دون الثالث» [٢٣٤] (٥).
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا) الآية ، قال قتادة : كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلىاللهعليهوسلم عليهالسلام ، وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال [المقاتلان] (٦) : كان النبي عليهالسلام في الصفّة وفي المكان ضيق وذلك يوم الجمعة ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء أناس من أهل بدر وفيهم ثابت بن قيس بن شماس ، وقد سبقوا في المجلس ، فقاموا حيال النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : السلام عليكم ـ أيّها النبيّ ورحمة الله. فردّ عليهم النبي عليهالسلام ثم سلّموا على القوم بعد ذلك ،
__________________
(١) كنز العمال : ٩ / ١٢٠ ح هامش رقم ٢ ، ومسند احمد : ٣ / ٩٩.
(٢) كذا في المخطوط ، والظاهر أنه رويس.
(٣) في المخطوط (صاحبه). وما أثبتناه أصح.
(٤) مسند احمد : ١ / ٣٧٥.
(٥) مسند أحمد بن حنبل ١ : ٣٧٥ ، ٤٢٥ ، ٤٣١ ، ٤٣٢ ، ٤٣٨ ، ٤٦٢ ، ٤٦٤.
(٦) في المخطوط : مقاتلان.
فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبي عليهالسلام ما يحملهم على القيام فلم يفسحوا لهم ، فشقّ ذلك على النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار والتابعين من غير أهل بدر : «قم يا فلان وأنت يا فلان» [٢٣٥] (١).
فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر ، فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيّ صلىاللهعليهوسلم عليهالسلام الكراهية في وجوههم ، فقال المنافقون للمسلمين : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس؟ فو الله ما عدل على هؤلاء ، أنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مقامهم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال الكلبي : نزلت في ثابت بن قيس بن الشماس ـ وقد ذكرت هذه القصّة في سورة الحجرات ـ فأنزل الله عزوجل في الرجل الذي لم يتفّسح له (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا) : توسّعوا ، ومنه قولهم : مكان فسيح إذا كان واسعا في المجلس.
قرأ السلمي والحسن وعاصم (فِي الْمَجالِسِ) ـ بالألف ـ على الجمع ، وقرأ قتادة : (تفاسحوا) بالألف فيهما ، وقرأ الآخرون (تَفَسَّحُوا) (في المجلس) يعنون مجلس النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد قال : لأنّه قراءة العامّة ، مع أن المجلس يؤدي معناه عن المجالس كلّها من مجلس النبيّ صلىاللهعليهوسلم عليهالسلام وغيره.
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عبد الملك بن عمرو قال : حدّثنا فليح ، عن أيوب بن عبد الرحمن بن صعصعة [الأنصاري ، عن يعقوب] (٢) بن أبي يعقوب ، عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يقم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن افسحوا (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ)» [٢٣٦] (٣).
وقال أبو العالية والقرظي : هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال ، كان الرجل يأتي القوم في الصّف فيقول لهم : توسّعوا ، فيأبون عليه لحرصهم على القتال ، فأمرهم الله سبحانه أن يفسح بعضهم لبعض. وهذه رواية العوفي عن ابن عباس.
قال الحسن : بلغني أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا قاتل المشركين وصفّ أصحابه للقتال تشاحّوا على الصف الأوّل ليكونوا في أوّل غارة القوم ، فكان الرجل منهم يجيء إلى الصّف الأوّل فيقول لإخوانه : توسّعوا لي ؛ ليلقى العدوّ ويصيب الشهادة ، فلا يوسّعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
__________________
(١) زاد المسير : ٧ / ٣٢٣.
(٢) بياض في مصوّرة المخطوط ، وتمام السند من مسند أحمد بن حنبل.
(٣) مسند أحمد بن حنبل ٥ : ٤٨٣.
(وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) قرأ عاصم وأهل المدينة والشام بضم الشينين ، وقرأ الآخرون بكسرهما. وهما لغتان ، يعني وإذا قيل لكم : قوموا وتحرّكوا وارتفعوا وتوسّعوا لإخوانكم فافعلوا.
وقال أكثر المفسّرين : معناه : وإذا قيل لكم : انهضوا إلى الصلاة والجهاد والذكر وعمل الخير أي حق كان (فَانْشُزُوا) ولا تقصّروا.
قال عكرمة والضحاك : يعني إذا نودي للصلاة فقوموا لها ، وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة إذا نودي لها ، فأنزل
الله سبحانه هذه الآية.
وقال ابن زيد : هذا في بيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وذلك أن كلّ رجل منهم كان يحبّ أن يكون آخر عهده رسول الله ، فقال الله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأنّ له حوائج (فَانْشُزُوا) ولا تطلبوا المكث عنده (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بطاعتهم رسول الله وقيامهم من مجالسهم وتفسّحهم لإخوانهم (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) منهم بفضل علمهم وسابقتهم (دَرَجاتٍ) فأخبر الله سبحانه أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم مصيب فيما أمر وأنّ أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا ، وأنّ النفر من أهل بدر مستحقّون لما عوملوا من الإكرام (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عامر البلخي قال : حدّثنا القاسم ابن عبّاد قال : حدّثنا صالح بن محمّد الترمذي قال : حدّثنا المسيّب بن شريح ، عن أبي بكر الهذلي ، عن الحسن قال : قرأ ابن مسعود هذه الآية (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) فقال : أيّها الناس ، افهموا هذه الآية ولترغّبكم في العلم فإن الله سبحانه يقول : يرفع الله المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات (١).
وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه قال : أخبرنا صالح ابن مقاتل ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة ، وفضل النبيّ صلىاللهعليهوسلم على العالم درجة ، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم» [٢٣٧] (٢).
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة» [٢٣٨] (٣).
__________________
(١) زاد المسير : ٧ / ٣٢٤.
(٢) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٤١٨.
(٣) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٤١٨.