الكشف والبيان - ج ٧

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٧

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

١
٢

٣
٤

سورة الحج

مكيّة غير ست آيات نزلت بالمدينة وهي قوله «هذانِ خَصْمانِ

إلى قوله الْحَمِيدِ ، وهي خمسة آلاف وخمسة وتسعون

حرفا (١) وألف ومائتان وإحدى وسبعون (٢) كلمة وثمان وسبعون آية

أخبرنا أبو الحسن (٣) الجرجاني غير مرّة قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي وأبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصبهاني قالا : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد ابن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجّة حجّها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي» [١] (٤).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

__________________

(١) في النسخة الثانية (أصفهان) : سبعون.

(٢) في النسخة الثانية : تسعون.

(٣) في النسخة الثانية زيادة : محمد بن الحسن.

(٤) تفسير مجمع البيان : ٧ / ١٢٣.

٥

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) الزلزلة والزلزال : شدّة الحركة على الحال الهائلة ، من قوله : زلّت قدمه إذا زالت عن الجهة بسرعة ، ثم ضوعف.

(يَوْمَ تَرَوْنَها) يعني الساعة (تَذْهَلُ) أي تشغل ، عن ابن عباس ، وقال الضحّاك تسلو ، ابن حيان : تنسى ، يقال : ذهلت عن كذا أي تركته واشتغلت بغيره أذهل ذهولا ، وأذهلني الشيء إذهالا. قال الشاعر :

صحا قلبه يا عزّ أو كاد يذهل

(كُلُّ مُرْضِعَةٍ) يعني ذات ولد رضيع ، والمرضع المرأة التي لها (١) صبي ترضعه لغيرها ، هذا قول أهل الكوفة ، وقال أهل البصرة : يقال : امرأة مرضع إذا أريد به الصفة مثل مقرب ومشرق (٢) وحامل وحائض ، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء فقيل : مرضعة ، التي ترضع ولدها.

(وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي تسقط ولدها من هول ذلك اليوم.

(وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى).

قال الحسن (٣) : معناه : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) من الخوف ، (ما هُمْ بِسُكارى) من الشراب.

وقال أهل المعاني : مجازه : وترى الناس كأنّهم سكارى ، تدل عليه قراءة أبي زرعة بن عمرو بن جرير : وَتُرَى النَّاسُ بضم التاء أي تظن.

وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما : سكرى ما هم سكرى بغير ألف فيهما ، وهما لغتان لجمع السكران مثل كسلى وكسالى (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).

روى عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وغيرهما : إنّ هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق وهم حيّ من خزاعة والناس يسيرون ، فنادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة ، فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدرا والناس من بين باك أو حاسر (٤) حزين متفكّر ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) : «أبشروا وسدّدوا وقاربوا ، فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلّا كثّرتاه يأجوج ومأجوج».

__________________

(١) في النسخة الثانية : معها. (٢) في الثانية : ومشيدن.

(٣) في النسخة الثانية : الحسين.

(٤) في النسخة الثانية : جالس.

(٥) في النسخة الثانية زيادة : أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذلك يوم يقول الله عزوجل لآدم : قم فابعث بعث النار من ذريتك ، فيقول آدم : من كلّ كم كم؟ فيقول الله عزوجل : من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنّة. فكبر ذلك على المسلمين وبكوا وقالوا : فمن ينجو يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦

ثمّ قال : إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبّروا وحمدوا الله ، ثمّ قال : «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فكبّروا وحمدوا الله ، ثمّ قال : اني لأرجوا أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبّروا وحمدوا الله ، ثمّ قال : إنّى لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة وإنّ أهل الجنة ، مائة وعشرون صفا ، ثمانون منها أمّتي وما المسلمون في الكفّار إلّا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة ، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، ثمّ قال : ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب ، فقال عمر : سبعون ألفا؟ فقال : نعم ومع كلّ واحد سبعون ألفا ، فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله ان يجعلني منهم ، قال : أنت منهم ، فقال رجل من الأنصار فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سبقك بها عكاشة» [٢].

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) نزلت في النضر بن الحرث ، كان كثير الجدال فكان يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، ويزعم أنّ الله غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد (١) ترابا.

قال الله سبحانه (وَيَتَّبِعُ) في قيله ذلك وجداله في الله بغير علم (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ) قضي عليه ، على الشيطان (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) اتّبعه (فَأَنَّهُ) يعني الشيطان (يُضِلُّهُ) يعني

__________________

(١) في النسخة الثانية : وصار.

٧

يضلّ من تولاه (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) وتأويل الآية : قضي على الشيطان أنّه يضلّ أتباعه ويدعوهم إلى النار.

ثمّ ألزم الحجّة منكري البعث فقال عزّ من قائل (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل ووالد البشر (مِنْ تُرابٍ ثُمَ) ذرّيته (مِنْ نُطْفَةٍ) وهو المنيّ وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وهي الدم العبيط الجامد وجمعها علق (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) وهي لحمة قليلة قدر ما تمضع (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ).

قال ابن عباس وقتادة : تامّة الخلق وغير تامة.

وقال مجاهد : مصوّرة وغير مصوّرة يعني السقط.

قال عبد الله بن مسعود : إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله عزوجل ملكا فقال : يا رب مخلّقة أو غير مخلقة؟ فإن قال : غير مخلّقة مجّتها الأرحام دما وإن قال : مخلّقة قال : يا ربّ فما صفة هذه النطفة؟ أذكر أم أنثى؟ ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟ فيقال له : انطلق إلى أمّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة ، فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.

(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريفنا أطوار خلقكم.

(وَنُقِرُّ) روي عن عاصم بفتح الراء على النسق ، غيره : بالرفع على معنى ونحن نقر (فِي الْأَرْحامِ) ما نَشاءُ) فلا تمجّه ولا تسقطه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقت خروجها من الرحم تامّ الخلق والمدّة (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) من بطون أمهاتكم (طِفْلاً) صغارا ولم يقل أطفالا لأنّ العرب تسمّي الجمع باسم الواحد.

قال الشاعر :

إنّ العواذل ليس لي بأمير

ولم يقل أمراء.

وقال ابن جريج (١) : تشبيها باسم المصدر مثل : عدل وزور ، وقيل : تشبيها بالخصم والضيف.

(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) كمال عقولكم ونهاية قواكم.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) قبل بلوغ الأشدّ (وَمِنْكُمْ مَنْ) يعمّر حتى (يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو الهرم والخرف (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً).

ثمّ بيّن دلالة أخرى للبعث فقال تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) يابسة دارسة الأثر من الزرع والنبات كهمود النار.

__________________

(١) في النسخة الثانية : ابن جرير.

٨

(فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) المطر (اهْتَزَّتْ) تحرّكت بالنبات (وَرَبَتْ) أي زادت وأضعفت النبات بمجيء الغيث ، وقرأ أبو جعفر : ربأت بالهمز ، ومثله في حم السجدة أي ارتفعت وعلت وانتفخت ، من قول العرب : ربا الرجل إذا صعد مكانا مشرفا ، ومنه قيل للطليعة رئبة.

(وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) صنف حسن (ذلِكَ) الذي ذكرت لتعلموا (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) والحق هو الكائن الثابت (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً) بيان وبرهان (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) نزلت في النضر بن الحرث (ثانِيَ عِطْفِهِ) نصب على الحال.

قال ابن عباس : مستكبرا في نفسه ، تقول العرب : جاء فلان ثاني عطفه أي متجبّرا لتكبّره وتجبّره ، والعطف : الجانب.

الضحّاك : شامخا بأنفه ، مجاهد وقتادة : لاويا (١) عنقه ، عطيّة وابن زيد : معرضا عمّا يدعى إليه من الكبر.

ابن جريج : أي يعرض عن الحقّ نظيرها قوله سبحانه (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) (٢) الآية ، وقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) الآية.

(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) عذاب وهوان وهو القتل ببدر.

(وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) فيقال له يومئذ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) وهذا وأضرابه مبالغة في إضافة الجرم إليه.

(وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فيعذّبهم بغير ذنب وهو سبحانه على أي وجه تصرّف في عبده فإنّه غير ظالم ، بل الظالم : المتعدّي المتحكّم في غير ملكه.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الآية.

نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة ، فإن صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته رضي به واطمأنّ إليه وقال : ما أصبت مذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا ، وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه وذهب ماله وتأخّرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلّا شرّا ، فينقلب عن دينه ، وذلك الفتنة ،

__________________

(١) في المخطوط : لاوي.

(٢) سورة لقمان : ٧.

٩

فأنزل الله سبحانه (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ)

أي طرف واحد وجانب في الدين لا يدخل فيها على الثبات والتمكين ، والحرف : منتهى الجسم ، وقال مجاهد : على شكّ.

وقال بعض أهل المعاني : يريد على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف مضطربا فيه.

وقال بعضهم : أراد على لون واحد في الأحوال كلّها يتّبع مراده ، ولو عبدوا الله في الشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء لما عبدوا الله على حرف (١).

وقال الحسن : هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه.

(فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) صحة في جسمه وسعة في معيشته (اطْمَأَنَّ بِهِ) أي رضي واطمأن إليه وأقام عليه.

(وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) بلاء في جسمه وضيق في معاشه وتعذّر المشتهى من حاله (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) ارتدّ فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) وقرأ حميد الأعرج ويعقوب : خاسر الدنيا بالألف على مثال فاعل ، وَالْآخِرَةِ خفضا ، على الحال.

(ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) الضرر الظاهر (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ) إن عصاه (وَما لا يَنْفَعُهُ) إن أطاعه بعد إسلامه راجعا إلى كفره (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) ذهب عن الحق ذهابا بعيدا.

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) اختلف النحاة في وجه هذه اللام فقال بعضهم : هي صلة مجازها : يدعو من ضرّه أقرب من نفعه ، وهكذا قرأها ابن مسعود ، وزعم الفرّاء والزجّاج أنّ اللام معناها التأخير تقديرها : يدعو والله لمن ضرّه أقرب من نفعه.

وقال بعضهم : هذا على التأكيد معناه : يدعوا لمن ضرّه أقرب من نفعه يدعو ثم حذفت يدعو الأخيرة اجتزاء بالأولى ، ولو قلت : تضرب لمن خيره أكثر من شرّه تضرب ، ثمّ يحذف الأخير جاز.

وحكي عن العرب سماعا : أعطيتك لما غيره خير منه ، وعنده لما غيره خير منه.

وقيل : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ) من قوله (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) ، وموضع (ذلِكَ) نصب بـ (يَدْعُوا) كأنّه قال : الذي هو الضلال البعيد يدعو ، ثم استأنف فقال : (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ، وتكون من في محل الرفع بالابتداء وخبره (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ).

وقيل : (يَدْعُوا) بمعنى يقول ، والخبر محذوف تقديره : (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) إلهه (لَبِئْسَ الْمَوْلى) الناصر ، (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) المعاشر ، والصاحب والخليط يعني الوثن.

__________________

(١) في النسخة الثانية : على خوفه.

١٠

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) اختلفوا في المعنى بالهاء التي في قوله (يَنْصُرَهُ) ، فقال أكثر المفسّرين : عنى بها نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال قتادة : يقول : من كان يظنّ أن لن ينصر الله نبيّه (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) بحبل (إِلَى السَّماءِ) إلى سقف البيت فليختنق به حتى يموت (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) الحبل بعد الاختناق (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) صنيعه وحيلته (ما يَغِيظُ) هذا قول أكثر أهل التأويل ، وإنّما معنى الآية : فليصوّر هذا الأمر في نفسه وليس يختم لأنّه إذا اختنق ومات لا يمكنه القطع والنظر.

قال الحسين بن الفضل : هذا كما تقول في الكلام للحاسد أو المعاند : إن لم ترض هذا فاختنق.

وقال ابن زيد : السماء في هذه الآية هي السماء المعروفة بعينها ، وقال : معنى الكلام : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيّه ويكايده في دينه وأمره ليقطعه عنه ، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه فإنّ أصله في السماء ، (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي الذي يأتيه من الله ، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه ، فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا العمل.

وذكر أنّ هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا : نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يؤووننا ، فقال الله لهم : من استعجل من الله نصر محمد فليختنق ، فلينظر استعجاله بذلك في نفسه هل هو مذهب غيظه ، فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدم نصره قبل حينه.

وقال مجاهد : الهاء في ينصره راجعة إلى من ، ومعنى الكلام : من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى سماء البيت فليختنق ، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ وهو خنقه أن لا يرزق ، والنصر على هذا القول : الرزق ، كقول العرب : من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله.

قال أبو عبيد : تقول العرب : «أرض منصورة» أي ممطورة كأن الله سبحانه أعطاها المطر.

وقال الفقعسي (١) :

وإنّك لا تعطي امرأ فوق حقّه

ولا تملك الشقّ الذي الغيث ناصر (٢)

وفي قوله «ما يَغِيظُ» لأهل العربيّة قولان :

__________________

(١) في النسخة الثانية : وقال الشاعر.

(٢) تفسير القرطبي : ١٢ / ٢٢.

١١

أحدهما : أنّها بمعنى الذي مجازة هل يذهبن كيده الذي يغيظه فحذف الهاء ليكون أخفّ.

والثاني : أنّها مصدر ، مجازه : هل يذهبن كيده غيظه.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعني عبدة الأوثان ، وقال قتادة : الأديان خمسة : أربعة للشيطان وواحد للرحمن. (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ) يحكم (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) قال النحاة : «إِنَّ اللهَ» خبر لقوله «إِنَّ الَّذِينَ» كما تقول : إنّ زيدا ان الخير عنده لكثير ، كقول الشاعر :

إنّ الخليفة إن الله سربله

سربال ملك به ترجى الخواتيم (١)

(أَلَمْ تَرَ) بقلبك وعقلك (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ).

قال مجاهد : سجودها : تحوّل ظلالها ، وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلّا يقع لله ساجدا حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه.

وقال أهل الحقائق : سجود الجماد وما لا يعقل ما فيها من ذلّة الخضوع والتسخير وآثار الصنعة والتصوير الذي يدعو العاقلين إلى السجود لله سبحانه ، كما قال الشاعر :

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد (٢)

(وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) بكفره وهو مع ذلك يسجد لله ظلّه ، قال مجاهد : وقيل : يسجد لله أي يخضع له ويقرّ له بما يقتضيه عقله ويضطره إليه ، وإن كفر بغير ذلك من الأمور.

قالوا : وفي قوله (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) واو العطف.

وقال بعضهم : هو واو الاستئناف ، معناه : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) بكفره وإبائه السجود.

حكى لي أبو القاسم بن حبيب عن أبي بكر بن عياش أنّه قال : في الآية إضمار مجازها : وسجد (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، وَ) أبى (كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ).

(وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) أي يهنه الله (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) قرأه العامة بكسر الراء ، وقرأ إبراهيم بن

__________________

(١) لسان العرب : ١٢ / ١٦٤.

(٢) تاج العروس : ٩ / ٣٩٨.

١٢

أبي عيلة (١) : فَما لَهُ مِنْ مُكْرَمٍ بفتح الراء أي إكرام كقوله سبحانه (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) (٢) و (أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) (٣) أي إدخالا وإنزالا.

(إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ).

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦))

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي في دينه وأمره ، والخصم اسم شبيه بوصف المصدر فلذلك قال : (اخْتَصَمُوا) ، نظيرها (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٤).

واختلف المفسّرون في هذين الخصمين من هما؟ فروى قيس بن عبّاد أنّ أبا ذرّ الغفاري كان يقسم بالله سبحانه أنزلت هذه الآية في ستّة نفر من قريش تبادروا يوم بدر : حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة وعبيدة بن الحارث ، قال : وقال علي : إنّي لأوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى ، وإلى هذا القول ذهب هلال بن نساف وعطاء بن يسار. وقال ابن عباس : هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين : نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبيّنا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحقّ بالله ، آمنّا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمنّا بنبيّكم وبما أنزل الله سبحانه من كتاب ، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا ، وكان ذلك خصومتهم في ربّهم.

وقال مجاهد وعطاء أبن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي : هم المؤمنون والكافرون كلّهم من أىّ ملّة كانوا.

__________________

(١) في النسخة الثانية : ابن عيلة.

(٢) سورة الإسراء : ٨٠.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٣١٤.

(٤) ص : ٢١.

١٣

وقال عكرمة : هما الجنة والنار اختصمتا فقالت النار : خلقني الله سبحانه وتعالى لعقوبته ، وقالت الجنّة : خلقني الله عزوجل لرحمته ، فقد قصّ الله عليك سبحانه من خبرهما ما تسمع ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو سعيد بن حمدون رحمه‌الله بقراءتي عليه قال : أخبرنا أبو حامد ابن الشرقي قال : حدّثنا محمد بن يحيى الذهلي وعبد الرّحمن بن بشر العبدي وأحمد بن يوسف السلمي قالوا : حدّثنا عبد الرزاق بن همام الحميري قال : أخبرنا معمر بن راشد عن همام بن منبه قال : هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «تحاجّت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبّرين المتجبّرين ، وقالت الجنة : لا يدخلني إلّا ضعفاء الناس وسقاطهم ، فقال الله سبحانه للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذّب بك من أشاء من عبادي ، ولكلّ واحد منكما ملؤها ، فأما النار فإنّهم يلقون فيها وتقول : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؟ فلا تمتلئ حتى يضع الله سبحانه رجله فتقول : قط قط قط ، فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا» [٣] (١).

ثم بيّن مآل الخصمين وحال أهل الدارين فقال سبحانه وتعالى (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) (٢).

قال سعيد بن جبير : (ثِيابٌ) من نحاس (مِنْ نارٍ) ، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشدّ حرّا منه.

(يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) الماء الحار.

روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) أنّه قال : «إنّ الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جنبه فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه ، وهو الصهر ثم يعاد كما كان (يُصْهَرُ) يذاب ، يقال : صهرت الألية والشحم بالنار أذبتها ، أصهرها صهرا ، قال الشاعر :

تروي لقى ألقى في صفصف

تصهره الشمس ولا ينصهر

ومعنى الآية : يذاب بالحميم الذي يصبّ من فوق رؤوسهم (ما فِي بُطُونِهِمْ) من الشحوم والأحشاء وتنشوي جلودهم منه فتتساقط.

(وَلَهُمْ مَقامِعُ) سياط (مِنْ حَدِيدٍ) واحدتها مقمعة ، سمّيت بذلك لأنّها يقمع بها المضروب أي يذلّل.

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٣١٤.

(٢) مسند ابن المبارك : ٧٧.

(٣) كتاب العين : ٨ / ٣١٢.

١٤

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) ردّوا إليها.

روى الأعمش عن أبي ظبيان قال : ذكر أنّهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج منها فيعذبهم الخزّان فيها ويعيدونهم إليها بالمقامع ويقولون لهم (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي المحرق مثل الأليم والوجيع ، والذوق : حاسة يحصل منها إدراك الطعم ، وهو ها هنا توسّع ، والمراد به إدراكهم الآلام.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) وهي جمع سوار (وَلُؤْلُؤاً).

قرأ عاصم وأهل المدينة هاهنا وفي سورة الملائكة : (وَلُؤْلُؤاً) بالنصب على معنى ويحلّون لؤلؤا ، واستدلّوا بأنّها مكتوبة في جميع المصاحف بالألف هاهنا.

وقرأ الباقون بالخفض عطفا على الذهب ، ثمّ اختلفوا في وجه إثبات الألف فيه ، فقال أبو عمرو : أثبتت الألف فيه كما أثبتت في قالوا وكانوا ، وقال الكسائي : أثبتوها فيه للهمزة لأنّ الهمزة حرف من الحروف ، وأمّا يعقوب فإنّه قرأها هنا بالنصب وفي سورة فاطر بالخفض رجوعا إلى المصحف ؛ لأنّه كتب في جميع المصاحف ها هنا بالألف وهناك بغير ألف.

(وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) وهو شهادة أن لا إله إلّا الله ، وقال ابن زيد : لا إله إلّا الله والله أكبر والحمد لله ، نظيرها قوله سبحانه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) إلى دين الله.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) فعطف بالمستقبل على الماضي لأنّ الصدّ بمعنى دوام الصفة لهم ، ومعنى الآية : وهم يصدّون ومن شأنهم الصدّ ، نظيرها قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) (١) وقيل : لفظه مستقبل ، ومعناه الماضي ، أي : وصدّوا عن سبيل الله (وَالْمَسْجِدِ) يعني عن المسجد (الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ) خلقناه وبنيناه (لِلنَّاسِ) كلّهم لم نخصّ منهم بعضا دون بعض (سَواءً الْعاكِفُ) المقيم (فِيهِ وَالْبادِ) الطاري المنتاب إليه من غيره.

وقرأ عاصم برواية حفص ويعقوب برواية روح : (سَواءً) بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأنّ الجعل يتعدّى إلى مفعولين.

وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبره. وتمام الكلام عند قوله (لِلنَّاسِ).

واختلف العلماء في معنى الآية : فقال قوم : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وحقّ الله الواجب عليهما فيه ، وإليه ذهب مجاهد.

__________________

(١) سورة الرعد : ٢٨.

١٥

وقال آخرون : هما سواء في النزول به فليس أحدهما بأحقّ يكون فيه من الآخر. وحرّموا بهذه الآية كراء دور مكّة وكرهوا إجارتها في أيام الموسم.

قال عبد الله بن عمر : سواء أكلت محرما أو كراء دار مكة.

وقال عبد الرّحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحقّ بمنزله منهم فكان الرجل إذا وجد سعة نزل ، ففشا فيهم السرق ، وكلّ إنسان يسرق من ناحيته فاصطنع رجل بابا فأرسل إليه عمر : اتخذت بابا من حجاج بيت الله؟ فقال : لا ، إنّما جعلته ليحترز متاعهم وهو قوله (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ).

قال : البادي فيه كالمقيم ليس أحد أحقّ بمنزله من أحد إلّا أن يكون سبق إلى منزل ، وإلى هذا القول ذهب ابن عباس وابن جبير وابن زيد وباذان قالوا : هما سواء في البيوت والمنازل ، والقول الأول أقرب إلى الصواب.

أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسن بقراءتي عليه قال : حدّثنا صفوان بن الحسين قال : حدّثنا أبو محمد بن أبي حاتم قال : سمعت أبا إسماعيل الترمذي بمكة سنة ستين ومائتين قال : سمعت إسحاق بن راهويه يقول : جالست الشافعي بمكة فتذاكرنا في كراء بيوت مكة ، وكان يرخّص فيه ، وكنت لا أرخّص فيه ، فذكر الشافعي حديثا وسكت ، وأخذت أنا في الباب ، أسرد فلمّا فرغت منه قلت لصاحب لي من أهل مرو بالفارسية : مرد كما لأني هست قرية بمرو ، فعلم أني راطنت صاحبي بشيء هجّنته فيه ، فقال لي : أتناظر؟ قلت : وللمناظرة جئت ، فقال : قال الله سبحانه وتعالى (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) (١) نسب الديار إلى مالكيها أو غير مالكيها.؟

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) يوم فتح مكة : «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وهل ترك عقيل لنا من رباع» [٤]؟ نسب الدار إلى أربابها أو غير أربابها وقال لي : اشترى عمر ابن الخطاب رضى الله عنه دار السجن من مالك أو غير مالك؟ فلمّا علمت أنّ الحجة لزمتني قمت.

(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) أي في المسجد الحرام (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) يعني إلحادا بظلم وهو الميل إلى الظلم ، والباء فيه زائدة كقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي تنبت الدهن.

قال الفرّاء : وسمعت أعرابيا من ربيعة وسألته عن شيء فقال : أرجو بذلك يريد أرجو ذلك.

وقال الشاعر :

بواد يمان ينبت الشت صدره

وأسفله بالمرخ والشبهان (٣)

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٩٥.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ٢٩٢.

(٣) لسان العرب : ٢ / ١٥٨.

١٦

أي المرخ. وقال الأعشى :

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

بين المراجل والصريح الأجرد

بمعنى ضمنت رزق عيالنا أرماحنا وقال آخر :

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد (١)

واختلفوا في معنى الآية ، فقال مجاهد وقتادة (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) هو الشرك أن يعبد فيه غير الله سبحانه وتعالى.

وقال آخرون : هو استحلال الحرام وركوب الآثام فيه.

قال ابن مسعود : ما من رجل يهمّ بسيّئة فيكتب عليه ، ولو أنّ رجلا بعدن أو ببلد آخر يهمّ أن يقتل رجلا بمكّة ، أو يهمّ فيها بسيّئة ولم يعملها إلّا أذاقه الله العذاب الأليم.

وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه ما لا يقتلك ، أو تظلم من لا يظلمك ، وهذا القول معنى قول الضحاك وابن زيد.

أخبرنا أحمد بن أبي قال : أخبرنا المغيرة بن عمرو قال : حدّثنا المفضل بن محمد قال : حدّثنا محمد بن يوسف قال : حدّثنا أبو قرّة قال : ذكر سفيان عن ليث عن مجاهد أنّه قال : تضاعف السيئات بمكّة كما تضاعف الحسنات.

ابن جريج : هو استحلال الحرام متعمّدا ، عن حبيب بن أبي ثابت : احتكار الطعام بمكة ، بعضهم : هو كل شيء كان منهيّا عنه من القول والفعل حتى قول القائل : لا والله ، وبلى والله.

وروى شعبة : عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر أنّه كان له فسطاطان أحدهما في الحلّ والآخر في الحرم ، فإن أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر ، فسئل عن ذلك فقال : كنّا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : كلّا والله وبلى والله.

(وَإِذْ بَوَّأْنا) وطّأنا. قال ابن عباس : جعلنا ، الحسن : أنزلنا ، مقاتل بن سليمان : دللناه عليه ، ابن حبان : هيأنا ، نظيره (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) (٣) وقوله (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) (٤).

(لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) والمكان جوهر يمكن أن يثبت عليه غيره ، كما أن الزمان عرض يمكن أن يحدث فيه غيره ، وأراد بالبيت الكعبة.

__________________

(١) لسان العرب : ٥ / ٧٥.

(٢) سورة آل عمران : ١٢١.

(٣) سورة الأعراف : ٧٤.

(٤) سورة العنكبوت : ٥٨.

١٧

(أَنْ لا تُشْرِكْ) يعني أمرناه وعهدنا إليه أن لا تشرك (بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ) يعني المصلّين (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

(وَأَذِّنْ) يعني وعهدنا إلى إبراهيم ايضا أن أذّن أي أعلم وناد (فِي النَّاسِ بِالْحَجِ).

فقال إبراهيم : يا رب وما يبلغ صوتي؟ فقال : عليك الأذان وعليّ البلاغ ، فقام إبراهيم على المقام وقيل : على جبل أبي قبيس ونادى : يا أيها الناس ألا إنّ ربّكم قد بنى بيتا فحجّوه ، فأسمع الله ذلك من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، وما بين المشرق والمغرب والبر والبحر ممن سبق في علم الله سبحانه أن يحجّ إلى يوم القيامة ، فأجابه : لبيك اللهم لبيك.

وقال ابن عباس : عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة وزعم الحسن أنّ قوله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) كلام مستأنف ، وأن المأمور بهذا التأذين محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمر أن يفعل ذلك في حجّة الوداع.

(يَأْتُوكَ رِجالاً) مشاة على أرجلهم جمع راجل مثل قائم وقيام وصائم وصيام.

(وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي وركبانا ، والضامر البعير المهزول ، وإنما جمع (يَأْتِينَ) لمكان كلّ ، أراد النوق (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) طريق بعيد.

سمعت أبا الحسن محمد بن القاسم الفقيه يقول : سمعت أبا القاسم بشر بن محمد بن

١٨

ياسين القاضي يقول : رأيت في الطواف كهلا قد أجهدته العبادة واصفرّ لونه وبيده عصا وهو يطوف معتمدا عليها ، فتقدّمت إليه وجعلت أسائله فقال لي : من أين أنت؟ قلت : من خراسان قال : في أي ناحية تكون خراسان؟ ـ كأنّه جهلها.؟ قلت : ناحية من نواحي المشرق ، فقال : في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت : في شهرين وثلاثة أشهر ، قال : أفلا تحجّون كل عام فأنتم من جيران هذا البيت؟ فقلت له : وكم بينكم وبين هذا البيت؟ فقال : مسيرة خمس سنين ، خرجت من بلدي ولم يكن في رأسي ولحيتي شيب ، فقلت : هذا والله الجهد البيّن والطاعة الجميلة والمحبة الصادقة ، فضحك في وجهي وأنشأ يقول :

زر من هويت وإن شطّت بك الدار

وحال من دونه حجب وأستار

لا يمنعك بعد من زيارته

إنّ المحبّ لمن يهواه زوار (١)

(لِيَشْهَدُوا) ليحضروا (مَنافِعَ لَهُمْ) يعني التجارة عن سعيد بن جبير ، وهي رواية ابن رزين عن ابن عباس قال : هي الأسواق.

مجاهد : التجارة وما يرضي الله سبحانه من أمر الدنيا والآخرة.

سعيد بن المسيب وعطية العوفي ومحمد بن علىّ الباقر : العفو والمغفرة.

(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) يعني ذي الحجّة في قول أكثر المفسّرين ، والمعدودات أيام التشريق ، وإنّما قيل لها (مَعْدُوداتٍ) لأنّها قليلة ، وقيل للعشر : (مَعْلُوماتٍ) للحرص على علمها بحسابها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها.

وقال مقاتل : المعلومات أيام التشريق.

محمد بن كعب : المعدودات والمعلومات واحدة.

(عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) يعني الهدايا والضحايا من الإبل والبقر والغنم.

(فَكُلُوا مِنْها) أمر إباحة وليس بواجب. قال المفسرون : وإنّما قال ذلك لأنّ أهل الجاهلية كانوا ينحرون ويذبحون ولا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا.

(وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ) يعني الزمن (الْفَقِيرَ) الذي لا شيء له (ثُمَّ لْيَقْضُوا) واختلف القرّاء في هذه اللامات فكسرها بعضهم فرقا بين ثم والواو والفراء لأن ثمّ مفضول من الكلام ، والواو والفاء كأنهما من نفس الكلمة ، وجزمها الآخرون لأنّها كلّها لامات الأمر (تَفَثَهُمْ) والتفث : مناسك الحج كلّها عن ابن عمر وابن عباس.

__________________

(١) العهود المحمّدية ـ الشعراني. : ٤٣٧.

١٩

وقال القرظي ومجاهد : هو مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقصّ الأظفار.

عكرمة : التفث : الشعر والظفر.

الوالبي عن ابن عباس : هو وضع الإحرام من حلق الرأس وقصّ الأظفار ولبس الثياب ونحوها. وأصل التفث في اللغة الوسخ ، تقول العرب للرجل تستقذره : ما أتفثك أي ما أوسخك! وأقذرك! قال أمية بن الصلت :

ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا

وينزعوا عنهم قملا وصئبانا (١)

(وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال مجاهد : نذر الحج والهدي وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج.

(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة الذي يطاف بعد التعريف أمّا يوم النحر وأمّا بعده. واختلف العلماء في معنى العتيق ، فقال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وقتادة : سمّي عتيقا لأنّ الله سبحانه أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه ، فلم يظهر عليه جبار قطّ ، ولم يسلّط عليه إلّا من يعظّمه ويحترمه.

قال سعيد بن جبير : أقبل تبّع يريد هدم البيت حتى إذا كان بقديد أصابه الفالج فدعا الأحبار فقالوا : إنّ لهذا البيت ربّا ما قصده قاصد بسوء إلّا حجبه عنه بمكروه فإن كنت تريد النجاة ممّا عرض لك فلا تتعرّض له بسوء.

قال : فأهدى إلى البيت كسوة وأنطاعا فألبست ، وكان أوّل ما ألبست ، ونحر عنده ألف ناقة وعفا عن أهله وبرّهم ووصلهم ، فسمّيت المطابخ لمطبخة القوم ، وكانت خيله جيادا فسمّيت جياد لخيل تبّع ، وسمّيت قعيقعان لقعقعة السلاح حين أقبل من المدينة.

وقال سفيان بن عيينة : سمّي بذلك لأنه لم يملك قط ، وهي رواية عبيد عن مجاهد قال : إنما سمّي البيت العتيق لأنّه ليس لأحد فيه شيء.

ابن زيد : لأنه قديم وهو أول بيت وضع للناس ، يقال : سيف عتيق ودينار عتيق أي قديم ، وقيل : لأنه كريم على الله سبحانه ، يقول العرب : فرس عتيق.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) فيجتنب معاصيه (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ).

قال ابن زيد : الحرمات : المشعر الحرام والبيت الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام ، وقيل : هي المناسك.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٢ / ٥٠.

٢٠