الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقتين ، فكانت إحداهما فوق الجبل والأخرى أسفل من الجبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشهد» [١٥٣] (١) ، وقال أيضا : «اشهدوا» [١٥٤] (٢).

وأخبرنا عبد الله بن حامد ، قال : أخبرنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك القاضي قال : حدّثنا أحمد بن الحسين بن سعيد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا حصين عن الأعمش وعبدة الضبي عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : (انْشَقَّ الْقَمَرُ) على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأيت فلقتيه.

وأخبرنا عبد الله ، قال : أخبرنا مكي ، قال : حدّثنا أبو الأزهر قال : حدّثنا روح عن شعبة عن سليمان عن مجاهد عن ابن عمر نحو حديث ابن مسعود.

وأخبرنا عبد الله قال : أخبرنا محمد بن جعفر بن زيد الصيرفي قال : حدّثنا علي بن حرب ، قال : حدّثنا ابن فضيل ، قال : حدّثنا حصين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه ، قال : (انْشَقَّ الْقَمَرُ) ونحن مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة.

وأخبرنا عبد الله قال : أخبر عمر بن الحسن الشيباني قال : حدّثنا أحمد بن الحسن قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا حصين عن سعد عن عكرمة عن ابن عباس والحكم عن مجاهد عن ابن عباس ومقسم عن ابن عباس قال : (انْشَقَّ الْقَمَرُ) على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باثنين : شطره على السويداء ، وشطره على الجندمة.

وأخبرني عقيل بن محمد أن أبا الفرج القاضي حدّثهم عن محمد بن جرير قال : حدّثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدّثنا بشر بن المفضل. قال : حدّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقتين ، حتى رأوا الجبل (٣) بينهما.

وبه عن محمد بن جرير قال : حدّثنا علي بن سهل قال : حدّثنا حجاج بن محمد عن شعبة عن قتادة عن أنس قال : (انْشَقَّ الْقَمَرُ) على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّتين.

وبه عن محمد بن جرير قال : حدّثني يعقوب قال : حدّثنا ابن عليّة ، قال : حدّثنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : نزلنا المدائن فكنّا منها على فرسخ ، فجاءت الجمعة فحضر أبي فحضرنا معه فخطبنا حذيفة ، فقال : ألا إنّ الله سبحانه يقول : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ، ألا فإنّ الساعة قد اقتربت ، ألا وإنّ القمر قد انشقّ ، ألا وإنّ الدنيا قد أذنت بفراق ،.

__________________

(١) السنن الكبرى : ٦ / ٤٧٦ ح ١١٥٥.

(٢) السنن الكبرى : ٦ / ٤٧٦ ج ١١٥٥٣.

(٣) البداية والنهاية : ٦ / ٨٥.

١٦١

ألا وإنّ اليوم المضمار وغدا السباق ، فقلت لأبي أيستبق الناس غدا؟ فقال : يا بني إنك لجاهل ، إنّما هو السباق بالأعمال ، ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرنا فخطب حذيفة فقال : ألا إنّ الله يقول : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ألا وإنّ الساعة قد اقتربت ، ألا وإنّ القمر قد انشقّ ، ألا وإنّ الدنيا قد أذنت بفراق ، ألا وإنّ المضمار اليوم وغدا السباق ، ألا وإنّ الغاية النار والسابق من سبق إلى الجنة.

وبه عن ابن جرير قال : حدّثنا الحسن بن أبي يحيى المقدسي قال : حدّثنا يحيى بن حماد ، قال : حدّثنا أبو عوانة عن المغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال : (انْشَقَّ الْقَمَرُ) على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة سحركم ، فسألوا السفار فسألوهم ، فقالوا : نعم قد رأينا. فأنزل الله سبحانه (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم : مرّ الشيء واستمر إذا ذهب ، ونظيره : قرّ واستقر ، هذا قول مجاهد وقتادة والفرّاء والكسائي.

وقال أبو العالية والضحاك : محكم شديد قوي. سيان عن قتادة : غالب ، وهو من قولهم : مرّ الحبل إذا صلب واشتد وقوي ، وامررته أنا إذا أحكمت فتله. ربيع : نافذ. يمان : ماض. أبو عبيدة : باطل ، وقيل : يشبه بعضه بعضا.

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) يقول : وكل أمر من خير أو شر مستقر قراره ، ومتناه نهايته ، فالخير مستقر بأهله في الجنة ، والشر مستقر بأهله في النار.

قال قتادة : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) : أي بأهل الخير الخير ، وبأهل الشر الشر ، وقال مقاتل : لكل امرئ منتهى ، وقيل : لكل أمر حقيقته ، وقال الحسن بن الفضل : يعني يستقر قرار تكذيبهم وقرار تصديق المؤمنين حتى يعرفوا حقيقته في الثواب والعقاب ، وقيل : مجازه : كلّ ما قدّر كائن واقع لا محالة ، وقيل : لكل أمر من أموري التي أمضيتها في خلقي مستقر قراره لا يزول ، وحكى أبو حاتم عن شيبة ونافع مستقرّ بفتح القاف ، وذكر الفضل بن شاذان عن أبي جعفر بكسر الراء ، ولا وجه لهما.

قال مقاتل : (انْشَقَّ الْقَمَرُ) ثم التأم بعد ذلك.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ) يعني أهل مكة (مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) متناهي. قاله مجاهد. سفيان : منتهى ، وهو مفتعل من الزجر ، وأصله مزتجر. فقلبت التاء دالا.

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) تامة ليس فيها نقصان وهي القرآن (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) إذا كذّبوهم وخالفوهم.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) نسختها آية القتال (يَوْمَ) الى يوم (يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) منكر فظيع

١٦٢

عظيم وهو النار ، وقيل : القيامة ، وخفّف الحسن وابن كثير كافه. غير هما مثقّل ، وقرأ مجاهد (نُكِرَ) على الفعل المجهول أي أنكر.

(خُشَّعاً) ذليلة (أَبْصارُهُمْ) وهو نصب على الحال مجازه يخرجون من الأجداث خشعا ، وقرأ ابن عباس ويعقوب وحمزة والكسائي وخلف (خاشعا) بالألف على الواحد ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا بقراءة عبد الله وأبي رجاء خاشعة أبصارهم ، وقرأ الباقون (خُشَّعاً) بلا ألف على الجمع.

قال الفرّاء وأبو عبيدة : إذا تأخرت الأسماء عن فعلها فلك فيه التوحيد والجمع والتأنيث والتذكير تقول من ذلك : مررت برجال حسن وجوههم ، وحسنة وجوههم وحسان وجوههم. قال الشاعر :

وشباب حسن أوجههم

من إياد بن نزار بن معد (١)

فمن وحّد فلأنّه في معنى الجمع ، ومن جمع فلأنّه صفات ، والصفات اسماء ، ومن أنّث فلتأنيث الجماعة ، وقال الآخر :

يرمي الفجاج بها الركبان معترضا

أعناق بزلها مزجى لها الجدل (٢)

قال الفرّاء : لو قال : معترضة أو معترضات أو مزجاة أو مزجيات كان كل ذلك جائزا.

(يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) حيارى ، وذكر المنتشر على لفظ الجراد ، نظيره (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ).

(مُهْطِعِينَ) مسرعين منقلبين عامدين (إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ).

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١))

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل أهل مكة (قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا عليه‌السلام (وَقالُوا مَجْنُونٌ) أي هو مجنون (وَازْدُجِرَ) أي زجروه عن دعوته ومقالته ، وقال مجاهد : استطر جنونا ، وقال ابن زيد : اتهموه وزجروه وواعدوه «(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) (... لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)».

__________________

(١) لسان العرب : ٨ / ٧١.

(٢) جامع البيان للطبري : ٢٧ / ١١٩.

١٦٣

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) مقهور (فَانْتَصِرْ) فانتقم لي منهم.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف ، قال : حدّثنا الراوندي ، قال : حدّثنا يوسف ابن موسى ، قال : حدّثنا وكيع عن الأعمش عن مجاهد عن عبد بن عمير ، قال : إن الرجل من قوم نوح ليلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا ، فيفيق حين يفيق وهو يقول : رب اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون.

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) منصبّ مندفق ولم يقلع ولم ينقطع أربعين يوما.

قال ابن عباس والقرظي : منفجر من الأرض. يمان : طبق ما بين السماء والأرض. أبو عبيدة : هايل. الكسائي : سائل. قال امرؤ القيس يصف غيثا :

راح تمريه الصبا ثم انتحى

فيه شؤبوب جنوب منهمر (١)

وقال سلامة بن جندل يصف فرسا :

والماء منهمر والشدّ منحدر

والقصب مضطمر واللون غربيب (٢)

(وَفَجَّرْنَا) شققنا (الْأَرْضَ) بالماء (عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ) يعني ماء السماء وماء الأرض ، وانما قال : التقى الماء ، والالتقاء لا يكون من واحد وانما يكون من اثنين فصاعدا ، لأن الماء جمعا وواحدا.

وقرأ عاصم الجحدري (فالتقى الماءان) ، وقرأ الحسن (فالتقى الماوان) بجعل إحدى الألفين واوا. (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) قضي عليهم في أم الكتاب.

قال محمد بن كعب القرظي : كانت الأقوات قبل الأجساد ، وكان القدر قبل البلاء ، وتلا هذه الآية.

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) ذكر النعت وترك الاسم ، مجازه : على سفينة ذات ألواح من الخشب (وَدُسُرٍ) مسامير ، واحدها دسار ، يقال منه : دسرت السفينة إذا شددتها بالمسامير ، وهذا قول القرظي وقتادة ، وابن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس وشهر بن حوشب : هي صدر السفينة سمّيت بذلك لأنها تدسر الماء بجؤجئها ، اي تدفع ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، قال : الدسر : كلكل السفينة ، وأصل الدسر الجر والدفع ، ومنه الحديث في العنبر «إنما هو شيء دسّره البحر» ، أي دفعه ورمى به ، وقال مجاهد : هي عوارض السفينة. الضحّاك : ألواح جانبها ، والدسر أصلها وطرفها. ليث بن أبي نجيح عن مجاهد : أضلاعها.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٣٢.

(٢) الصحاح : ١ / ٢٠٢.

١٦٤

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي بمرأى منّا. مقاتل بن حيان : بحفظنا ، ومنه قول الناس للدموع : عين الله عليك. مقاتل بن سليمان : بوحينا. سفيان : بأمرنا. (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) يعني فعلنا ذلك ثوابا لنوح ، ومجاز الآية : لمن جحد وأنكر وكفر بالله فيه ، وجعل بعضهم (من) هاهنا بمعنى (ما) ، وقال معناه : (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) من أيادي الله ونعمائه عند الذين غرقهم ، وإليه ذهب ابن زيد ، وقيل : معناه عاقبناهم لله ولأجل كفرهم به.

وقرأ مجاهد جَزاءً لِمَنْ كانَ كَفَرَ بفتح الكاف والفاء يعني كان الغرق جزاء لمن يكفر بالله ، وكذب رسوله فأهلكهم الله.

وما نجا من الكفّار من الغرق غير عوج بن عنق كان الماء إلى حجزته ، وكان السبب في نجاته على ما ذكر أن نوحا عليه‌السلام احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقلها ، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام. فشكر الله تعالى ذلك له ونجّاه من الغرق.

(وَلَقَدْ تَرَكْناها) يعني السفينة (آيَةً) عبرة.

قال قتادة : أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية ، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة نظرا ، وكم من سفينة كانت بعدها قد صارت رمدا. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متّعظ معتبر وخائف مثل عقوبتهم.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي إنذاري. قال الفرّاء : الإنذار والنذر مصدران تقول العرب : أنذرت إنذارا ونذرا ، كقولك : أنفقت إنفاقا ونفقة ، وأيقنت إيقانا ويقينا.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا) سهّلنا وهوّنّا (الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) اي ليتذكر ويعتبر به ويتفكر فيه ، وقال سعيد ابن جبير : يسّرنا للحفظ ظاهرا ، وليس من كتب الله كتابا يقرأ كله ظاهرا إلّا القرآن. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متّعظ بمواعظه.

أخبرني الحسن بن محمد بن الحسين ، قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي ، قال : حدّثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن راهويه قال : حدّثنا أبو عمير بن النحاس ببيت المقدس ، قال : حدّثنا ضمرة بن ربيعة عن عبد الله بن شوذب عن مطر الوراق في قول الله سبحانه (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قال : هل من طالب علم فيعان عليه.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ) شؤم وشرّ (مُسْتَمِرٍّ) وكان يوم الأربعاء ، مستمر : شديد ماض على الصغير والكبير فلم تبق منهم أحدا إلّا أهلكته ، وقرأ هارون الأعور (نَحْسٍ) بكسر الحاء.

(تَنْزِعُ النَّاسَ) تقلع الناس ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدقّ رقابهم ، قال ابن إسحاق : لمّا هاجت الريح قام نفر من عاد سبعة يسمى لنا منهم ستّة من أشدّ عاد وأجسمها منهم : عمرو بن

١٦٥

الحلي ، والحرث بن شداد والهلقام وابنا تيقن ، وخلجان بن سعد فأولجوا العيال في شعب بين جبلين ، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردّوا الريح عمن في الشعب من العيال ، فجعلت الريح تخفقهم رجلا رجلا ، فقالت امرأة من عاد :

ذهب الدهر بعمر بن حلي والهنيات

ثم بالحرث والهلقام طلاع الثنيات

والذي سدّ مهب الريح أيام البليات (١)

وبإسناد أبي حمزة الثمالي قال : حدّثني محمد بن سفيان عن محمد بن قرظة بن كعب عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «انتزعت الريح الناس من قبورهم» [١٥٥] (٢).

(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ) قال ابن عباس : أصول ، وقال الضحّاك : أوراك. (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) منقلع من مكانه ، ساقط على الأرض ، وواحد الأعجاز عجز مثل عضد وأعضاد ، وإنّما قال : (أَعْجازُ نَخْلٍ) وهي أصولها التي تقطعت فروعها ، لأن الريح كانت ترمي رؤوسهم من أجسادهم ، فتبقى أجسام بلا رؤوس.

سمعت أبا القاسم الجنيني يقول : سمعت أبا علي الحسين بن أحمد القاضي البيهقي.

يقول : سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن القاسم بن سياب الأنباري يقول : سئل المبرّد بحضرة إسماعيل بن إسحاق القاضي عن ألف مسألة هذه من جملتها ، وهو أن السائل قال : ما الفرق بين قوله : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) و (لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) وقوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) و (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)؟ فقال : كل ما ورد عليك من هذا الباب فلك أن تردّه إلى اللفظ تذكيرا ، ولك أن ترده إلى المعنى تأنيثا.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ).

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢٧ / ١٣٠ وفيه : سد علينا الريح.

(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٣٦.

١٦٦

عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩))

(لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقالُوا أَبَشَراً) آدميّا واحدا منّا (نَتَّبِعُهُ) ونحن جماعة كثيرة وهو واحد ، وقرأ أبو السماك العدوي بالرفع ، وكلا الوجهين سائغ في عايد الذكر (إِنَّا إِذاً) إن فعلنا ذلك وتركنا دين آبائنا وتابعناه على دينه ، وهو واحد منا آدمي مثلنا (لَفِي ضَلالٍ) ذهاب عن الصواب (وَسُعُرٍ) قال ابن عباس : يعني وعذاب ، قال الحسن : شدة العذاب. قتادة : عناء. سفيان بن عيينة : هو جمع سعيرة. الفرّاء : جنون ، يقال : ناقة مسعورة إذا كانت خفيفة الرأس هايمة على وجهها. قال الشاعر يصف ناقة :

تخال بها سعرا إذا السفر هزها

ذميل وإيقاع من السير متعب (١)

وقال وهب : (وَسُعُرٍ) : أي بعد من الحق.

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ) أأنزل الوحي (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) ترح مرح بطر متكبر يريد أن يتعظّم علينا بادّعائه النبوّة.

وقال عبد الرّحمن بن أبي حماد : الأشر الذي لا يبالي ما قال ، وقرأ مجاهد أَشُرٌ بفتح الألف وضم الشين وهما لغتان مثل حذر وحذر ويقظ ويقظ وعجل وعجل ومجد ومجد الشجاع.

(سَيَعْلَمُونَ غَداً) بالتاء شامي ، والأعمش ويحيى وابن ثوبان وحمزة وغيره بالياء ، فمن قرأ بالتاء فهو من قول صالح لهم ، ومن قرأ بالياء فهو من قول الله سبحانه ، ومعنى الكلام : في الغد القريب على عادة الناس في قولهم للعواقب : إنّ مع اليوم غدا ، وإنّ مع اليوم أخاه غدا ، وأراد به وقت نزول العذاب بهم (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) قرأ أبو قلامة : مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشَرُّ بفتح الشين وتشديد الراء على وزن أفعل من الشر ، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة.

قال أبو حاتم : لا يكاد العربي يتكلم بالأشرّ والأخير إلا في ضرورة الشعر كقول رؤبة :

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٣٨.

١٦٧

بلال خير الناس وابن الأخير

إنّما يقولون : خير وشر. قال الله عزوجل (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) وقال سبحانه (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً).

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا (فِتْنَةً) محنة (لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ) وانتظرهم وننظر ما هم صانعون (وَاصْطَبِرْ) واصبر على ظلمهم وأذاهم ، ولا تعجل حتى يأتيهم أمري ، (وَاصْطَبِرْ) : افتعل من الصبر ، وأصل (الطاء) فيه (تاء) فحوّلت (طاء) لأجل (الصاد).

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) وبين الناقة بالسويّة لها يوم ولهم يوم ، وإنّما قال : (بَيْنَهُمْ) ؛ لأن العرب إذا أخبرت عن بني آدم وعن البهائم غلّبوا بني آدم على البهائم. (كُلُّ شِرْبٍ) نصيب من الماء (مُحْتَضَرٌ) يحضره من كانت نوبته ، فإذا كان يوم الناقة حضرت شربها ، وإذا كان يومهم حضروا شربهم ، وقال مجاهد : يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة ، وإذا جاءت حضروا اللبن.

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) قدار بن سالف وكان أشقر ؛ ولذلك قيل له : أشقر ثمود (فَعَقَرَ) فتناول الناقة بسيفه فعقرها ، ولذلك سمّيت العرب الجزار قدارا تشبيها به ، وقال الشاعر :

إنّا لنضرب بالسيوف رؤوسهم

ضرب القدار نقيعة القدام (١)

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) ثم بيّن عذابهم فقال عز من قائل : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) قرأ الحسن وقتادة بفتح (الظاء) أراد الحظيرة ، وقرأ الباقون بكسر (الظاء) أرادوا صاحب الحظيرة.

قال ابن عباس : هو أن الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك دون السباع ، فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم ، وقال قتادة : يعني كالعظام النخرة المحترقة وهي رواية العوفي عن ابن عباس ورواية أبي ظبيان عنه أيضا ، كحشيش يأكله الغنم ، وقال سعيد بن جبير : هو التراب الذي يتناثر من الحائط. ابن زيد : هو الشجر البالي الذي تهشّم حتى ذرّته الريح ، والعرب تسمّي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا) هوّنا عليهم (الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) ريحا ترميهم بالحصباء ، وهي الحصى ، وقال بعضهم : هو الحجر نفسه.

قال الضحّاك : يعني صغار الحصى ، والحاصب والحصب والحصباء هي الحجر الذي

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٣٩.

١٦٨

دون ملء الكف ، والمحصب الموضع الذي يرمى فيه الجمار ، وقال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه يقول لأهل المدينة : حصّبوا المسجد ، أي صبّوا فيه الحجارة.

ثم استنثى فقال : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) أي أتباعه على دينه من أهله وأمته (نَجَّيْناهُمْ) من العذاب (بِسَحَرٍ) قال الأخفش : إنّما أجراه ، لأنه نكرة ، ومجازه : بسحر من الأسحار ، ولو أراد بسحر يوم بعينه لقال : سحر غير مجرى ، ونظيره قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً).

(نِعْمَةً) يعني كان ذلك أو جعلناه نعمة (مِنْ عِنْدِنا) عليهم حيث أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم (كَذلِكَ) كما جزيناهم ، لوطا وآله (نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) فآمن بالله وأطاعه.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) لوط (بَطْشَتَنا) أخذنا لهم بالعقوبة قبل حلولها بهم (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) فكذبوا بإنذاره شكا منهم فيه وهو تفاعل من المرية.

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) طالبوه وسألوه أن يخلّي بينهم وبينهم. يقول العرب : راده تروده وارتاده وراوده يراوده نظيرها (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ).

(فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أي أعميناهم ، وصيّرناها كسائر الوجه لا يرى لها شق ، وذلك أنّهم لما قصدوا دار لوط عليه‌السلام وعالجوا بابه ليدخلوا ، قالت الرسل للوط : خلّ بينهم وبين الدخول فـ (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) ، فدخلوا الدار فاستأذن جبريل ربّه عزوجل في عقوبتهم فأذن له فصفقهم بجناحه ، فتركهم عميا يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب ، وأخرجهم لوط عميا لا يبصرون. هذا قول عامة المفسّرين ، وقال الضحّاك : طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل وقالوا : قد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا؟ ، فلم يروهم ورجعوا (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ).

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ) جاءهم العذاب وقت الصبح (بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) دائم عام استقر فيهم حتى يقضى بهم الى عذاب الآخرة.

(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) يعني موسى وهارون عليه‌السلام.

(كَذَّبُوا بِآياتِنا) التسع (كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ) بالعذاب (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) قادر لا يعجزه ما أراد ، ثم خوّف أهل مكة فقال عز من قائل : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) الذين أحللت بهم نقمتي من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ) من العذاب (فِي الزُّبُرِ) الكتب تأمنون.

(أَمْ يَقُولُونَ) يعني كفار مكة (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي جماعة لا ترام ولا تضام ، ولا يقصدنا أحد بسوء ، ولا يريد حربنا وتفريق جمعنا إلا انتقمنا منهم ، وكان حقّه : منتصرون فتبع رؤوس الآي.

١٦٩

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) قراءة العامة على غير تسمية الفاعل ، وقرأ يعقوب بالنون والنصب وكسر الزاي ، وفتح العين على التعظيم (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي الأدبار ، فوحّد والمراد الجمع لأجل رؤوس الآي ، كما يقال : ضربنا منهم الرؤوس ، وضربنا منهم الرأس ، إذا كان الواحد يؤدي عن معنى جميعه ، فصدق الله سبحانه وتعالى وعده وهزمهم يوم بدر.

قال مقاتل : ضرب أبو جهل فرسه فتقدم يوم بدر في الصف وقال : نحن منتصر اليوم من محمد وأصحابه.

قال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب لمّا نزلت (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) : كنت لا أدري أي جمع نهزم ، فلمّا كان يوم بدر رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبت في درعه ويقول :(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) جميعا (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أعظم بليّة وأشدّ مرارة من عذاب يوم بدر.

أخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم بن زياد ، قال حدّثنا أبو مصعب قال : حدّثنا مجرد بن هارون عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بادروا بالأعمال ـ سبعا ـ ما ينتظرون هل هو إلّا فقر منسي أو غنى مطغ (١) أو مرض مفسد أو كبر معند أو موت مجهز ، والدجال شر مستطر ، والساعة (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ)» [١٥٦].

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) المشركين (فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) قال الضحاك : يعني نارا ستعرض عليهم.

قال الحسين بن الفضل : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ) في الدنيا ونار في الآخرة ، وقال ابن كيسان : بعد من الحق ، وقيل : جنون ، وقال قتادة في عناء وعذاب ، ثم بيّن عذابهم ، فقال : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ) يجرّون (فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) ويقال لهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) وإنّما هو كقولك : ذق المر السياط.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ) بالنصب قراءة العامة ، وقرأ أبو السماك العدوي (٢) بالرفع (خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) قال الحسن : قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له ، وقال الربيع : هو كقوله : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي أجلا لا يتقدم ولا يتأخر ، وقال ابن عباس : إنّا كل شيء جعلنا له شكلا يوافقه ويصلح له ، فالمرأة للرجل ، والأتان للحمار ، والرمكة للفرس ، وثياب الرجال للرجال لا تصلح للنساء ، وثياب النساء لا تصلح للرجال وكذلك ما شاكلها على هذا.

__________________

(١) الصحاح : ٣ / ١٢٩٣.

(٢) سنن الترمذي : ٣ / ٣٧٨ بتفاوت.

١٧٠

وروى علي بن أبي طلحة عنه قال : خلق الله سبحانه الخلق كلّهم بقدر ، وخلق لهم الخير والشر فخير الخير السعادة ، وشر الشر الشقاوة.

(وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) وحقّه واحد ، قال أبو عبيدة هو نعت للمعنى دون اللفظ مجازها : (وَما أَمْرُنا إِلَّا) مرة (واحِدَةٌ) ، يعني الساعة وقيل : معناه وما أمرنا الشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة (كُنْ فَيَكُونُ) لا مراجعة فيها. (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) وذكر أن هذه الآيات نزلت في القدرية.

أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن بقراءتي عليه في داري قال : حدّثنا الفضل ابن الفضل الكندي ، قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن النعمان قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن حفص قال : حدّثنا الحسن بن حفص قال : حدّثنا سفيان عن زياد ابن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت هذه الآية (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) الى آخر السورة.

وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا القرماني قال : حدّثنا عبد الأعلى بن حماد قال : حدّثنا المعتمر بن سليمان قال حدّثني أبو مخزوم عن سيار أبي الحكم قال : بلغنا أنّ وفد نجران قالوا : أمّا الأرزاق والأقدار فبقدر الله ، وأما الأعمال فليس بقدر ، فأنزل الله سبحانه فيهم (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) الى آخر الآية.

وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال : حدّثنا ابن أبي العوام قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا الصباح بن سهل البصري أبو سهل قال : حدّثنا جعفر بن سليمان عن خالد بن سلمة عن سعيد بن عمر عن عمر بن زرارة عن أبيه قال : كنت جالسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) الى آخر السورة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزلت هذه الآيات في ناس يكونون في آخر أمتي يكذبون بقدر الله» [١٥٧] (١).

وأخبرنا أحمد بن محمد بن يعقوب بن محمويه الفقيه بالقصر قال : حدّثنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل قال : حدّثنا الحسين بن عرفه العبدي قال : حدّثنا مروان بن شجاع الجزري عن عبد الملك بن جريج عن عطاء بن أبي رياح قال : أتيت ابن عباس وهو ينزع

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٧ / ١١٧.

١٧١

في زمزم قد ابتلّت أسافل ثيابه ، فقلت له : قد تكلّم في القدر ، فقال : أو قد فعلوها؟ ، قلت : نعم ، قال : فو الله ما نزلت هذه الآية إلّا فيهم (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) ، أولئك شرار هذه الأمة ، لا تعودوا مرضاهم ولا تصلّوا على موتاهم. إن أريتني أحدا منهم فقأت عينيه بإصبعيّ هاتين.

وأخبرني عقيل بن محمد الفقيه أن أبا الفرج البغدادي أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدّثنا هشيم قال : أخبرنا حصين عن سعيد بن عبيده عن أبي عبد الرّحمن السلمي قال : لمّا نزلت هذه الآية (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) قال رجل : يا رسول الله ففيم العمل في شيء يستأنفه أو في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعملوا فكل ميسّر ، سنيسره (لِلْيُسْرى) وسنيسره (لِلْعُسْرى)» [١٥٨] (١).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن الحسين بن صقلاب قال : حدّثنا أبو الحسن احمد بن محمد بن عبيد الطوابيقي قال : حدّثنا علي بن حرب الطائي قال : حدّثنا أبو مسعود يعني الزجاج. قال : حدّثنا أبو سعد عن طلق بن حبيب عن كعب قال : نجد في التوراة أن القدرية (يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثني موسى بن محمد بن علي قال : حدّثنا عبد الله بن محمد ابن سنان قال : حدّثنا عمرو بن منصور أبو عثمان العيسي قال : حدّثني أبو أسيد الثقفي ، قال : حدّثني ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : تمارينا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل شيء بقدر حتى هذه» وأشار بإصبعه السبابة حتى ضرب على ذراعه الأيسر» [١٥٩] (٢).

وأخبرني ابن السري النحوي في (درب حاجب) قال : أخبرنا محمد بن عبد الله بن محمد العماني قال : أخبرنا عبد الله بن احمد بن عامر قال : حدّثنا أبي قال : حدّثني علي بن موسى الرضا قال : حدّثني أبي موسى بن جعفر قال : حدّثني أبي جعفر بن محمد قال : حدّثني أبي محمد بن علي قال : حدّثني أبي علي بن الحسين قال : حدّثني أبي الحسين بن علي قال : حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله عزوجل قدّر المقادير ودبر التدبر قبل أن يخلق آدم بألفي عام» [١٦٠] (٣).

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا عمر بن احمد بن القاسم النهاوندي قال : حدّثني أحمد بن حماد بن سفيان قال : حدّثنا السري بن عاصم الهمداني قال : حدّثنا محمد بن مصعب القرقساني

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٣٠ / ٢٨٢.

(٢) في المصادر : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ، مسند أحمد : ٢ / ١١٠ ، وصحيح مسلم : ٨ / ٥٢.

(٣) مسند زيد : ٤٩٦.

١٧٢

عن الأوزاعي عن عبده بن أبي لبابة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحزن» [١٦١] (١).

وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا زكريا بن يحيى الساجي قال : حدّثنا محمد بن المثنى قال : حدّثني إبراهيم بن أبي الوزير قال : حدّثنا مروان بن معاوية الفزاري عن سيف (٢) الكوفي عن أبي فزارة قال : قال ابن عباس : إذا كثرت القدرية بالبصرة ائتفكت بأهلها ، وإذا كثرت السبائية بالكوفة (٣) ائتفكت بأهلها (٤).

وبه عن الساجي قال : حدّثنا الحسن بن حميد قال : حدّثني عبد الله بن الحسن بن عبد الملك بن حسان الكلبي قال : حدّثني سعيد بن محمد الغساني قال : لما أخذ أبو شاكر الديصاني بالبصرة فأقرّ أنه ديصاني ، وكان يجهر القول بالرفض والقدر ، فقيل له : لم اخترت القول بالقدر والرفض؟ ، قال : اخترت القول بالقدر لأخرج أفعال العباد من قدرة الله ، وأنه ليس بخالقها ، فإذا جاز أن يخرج من قدرته شيء جاز أن تخرج الأشياء من قدرته كلها ، واخترت القول بالرفض لأتصول بالطعن الى نقلة هذا الدين ، فإذا بطل النقلة بطل المنقول.

وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا عبد الله بن عبد الرّحمن الدقاق قال : حدّثنا محمد ابن عبد العزيز قال : حدّثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال : حدّثنا الدراوردي قال : قال لي أبو سهيل : إذا سلم عليك القدرية فردّ عليهم كما ترد على اليهود قل : وعليك.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) من خير أو شرع يعني الأشياع (فِي الزُّبُرِ) في كتب الحفظة ، وقيل : في اللوح المحفوظ.

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) منهم ومن أعمالهم (مُسْتَطَرٌ) مكتوب محفوظ عليهم. يقال : كتبت واكتتبت وسطرت واستطرت ، وقرأ واقترأت.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) بساتين (وَنَهَرٍ) أنهار ، ووحّده لأجل رؤوس الآي. كقوله سبحانه : (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٥) ، وقال الضحاك : يعني في ضياء وسعة ، ومنه النهار قال الشاعر :

ملكت بها كفي وانهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها (٦)

__________________

(١) كنز العمال : ١ / ١٠٦ ح ٤٨١.

(٢) هو سيف بن عمر الأسدي الكوفي.

(٣) في المصدر : السبئية بكار.

(٤) الكامل لابن عدي : ٦ / ١١٦ يرويه عن مجاهد عن ابن عباس.

(٥) سورة القمر : ٤٥.

(٦) تاج العروس : ٧ / ١٨٤.

١٧٣

أي وسعت خرقها.

وقرأ الأعرج وطلحة (وَنُهُرٍ) بضمتين كأنها جمع نهار يعني لا ليل لهم.

قال الفراء : أنشدني بعض العرب :

إن تك ليليا فإني نهر

متى أتى الصبح فلا أنتظر (١)

أي صاحب نهار ، وقال الآخر :

لو لا الثريدان هلكنا بالضمر

ثريد ليل وثريد بالنهر (٢)

(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) في مجلس حق لا لغو فيه ولا مأثم وهو الجنة (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) ملك قادر و (عِنْدَ) إشارة إلى القربة والرتبة.

قال الصادق : مدح الله المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلّا أهل الصدق.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن علويه قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا المسيب بن إبراهيم البكري عن صالح بن حيان عن عبد الله بن بريده أنّه قال في قوله سبحانه وتعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) : إنّ أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى فيقرءون عليه القرآن ، وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو يجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بأعمالهم ، فلم تقرّ أعينهم بشيء قط كما تقرّ أعينهم بذلك ، ولم يسمعوا شيئا أعظم ولا أحسن منه ، ثم ينصرفون الى رحالهم ناعمين ، قريرة أعينهم الى مثلها من الغد.

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا سعد بن محمد بن أبي إسحاق الصيرفي قال : حدّثنا محمد ابن عثمان بن أبي شيبة قال : حدّثنا زكريا بن يحيى قال : حدّثنا عمرو بن ثابت عن أبيه عن عاصم بن ضمرة عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما في مسجد المدينة ، فذكر بعض أصحابه الجنة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله لواء من نور وعمودا من زبرجد خلقهما قبل أن يخلق السماوات بألفي عام ، مكتوب على رداء ذلك اللواء : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، محمد رسول الله ، محمد خير البرية ، صاحب اللواء أمام القوم» فقال علي : الحمد لله الذي هدانا بك وكرّمنا وشرفنا ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا علي أما علمت أن من أحبنا وانتحل محبتنا أسكنه الله تعالى معنا» [١٦٢] (٣) وتلا هذه الآية (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا الحسن بن أيوب. قال : حدّثنا

__________________

(١) لسان العرب : ٥ / ٢٣٨.

(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٥٠ ، لسان العرب : ٥ / ٢٣٨ وفيه : لمتنا ، بدل : هلكنا.

(٣) شواهد التنزيل : ٢ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠ عن المصنف.

١٧٤

عبد الله بن أبي زياد. قال : حدّثنا سيار قال : حدّثنا رياح القيسي عن ثور قال : بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون : يا أولياء الله انطلقوا ، فيقولون : إلى أين؟ فيقولون : إلى الجنة ، فيقولون : إنكم لتذهبون بنا الى غير بغيتنا ، فيقال لهم : وما بغيتكم؟ فيقولون : المقعد مع الحبيب.

وسمعت أبا القاسم يقول : سمعت أبا محمد أحمد بن محمد بن إبراهيم البلاذري يقول : سمعت بكر بن عبد الرّحمن يقول : كان ذو النون المصري يحضّ أصحابه على التهجّد وقيام الليل. فإذا أحسّ منهم فتره قال : كدّوا يا أولياء الله ، فإن للأولياء [في الجنة] مقعد صدق يكشف حجب يوم يرون الجليل حقّا.

١٧٥

سورة الرّحمن

مكية ، وهي ألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا ،

وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة ، وثمان وسبعون آية

أخبرنا الأستاذ أبو الحسين الجباري قال : حدّثت عن أحمد بن الحسن المقري قال : حدّثنا محمد بن يحيى الكيساني قال : حدّثنا هشام البربري قال : حدّثنا علي بن حمزة الكسائي قال : حدّثنا موسى بن جعفر عن أبيه جعفر عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لكلّ شيء عروس ، وعروس القرآن سورة الرّحمن جلّ ذكره» [١٦٣] (١).

وأخبرني أبو الحسين أحمد بن إبراهيم العبدي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد الحبري قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل الكوفي قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الرّحمن رحم الله ضعفه ، وأدّى شكر ما أنعم الله عليه» [١٦٤] (٢).

روى هشام بن عروة عن أبيه قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله ابن مسعود ، وذلك أن أصحاب رسول الله اجتمعوا فقالوا : ما سمعت قريش القرآن يجهر به ، فمن رجل يسمعهم؟ فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : إنّا نخشى عليك منهم ، وإنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فقال : دعوني فإنّ الله سيمنعني ، ثم قام عند المقام فقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ، رافعا بها صوته ، وقريش في أنديتها فتأمّلوا وقالوا : ما يقول ابن أم عبد؟ ثم قاموا إليه فجعلوا يضربونه وهو يقرأ حتى يبلغ منها ما شاء ، ثم انصرف إلى أصحابه ، وقد أثّروا في وجهه ، فقالوا : هذا الذي خشينا عليك.

__________________

(١) كنز العمال : ١ / ٥٨٢ ج ٢٦٣٨.

(٢) تفسير مجمع البيان : ٩ / ٣٢٦.

١٧٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣))

(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) نزلت حين (قالُوا : وَمَا الرَّحْمنُ)؟ ، وقيل : هو جواب لأهل مكة حين قالوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ).

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) قال ابن عباس وقتادة : يعني آدم عليه‌السلام.

(عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أسماء كل شيء ، وقيل : علّمه اللغات كلّها ، وكان آدم عليه‌السلام يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية ، وقال آخرون : أراد جميع الناس ؛ لأن الإنسان اسم الجنس ثم اختلفوا في معنى البيان ، فروي عن قتادة أنّه قال : علّمه بيان الحلال والحرام ، وبيّن له الخير والشر ، وما يأتي وما يذر ؛ ليحتج بذلك عليه.

وقال أبو العالية ومرّة الهمذاني وابن زيد : يعني الكلام. الحسن : النطق والتمييز. محمد ابن كعب : ما يقول وما يقال له. السدي : علّم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. يمان : الكتابة والخط بالقلم. نظيره (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ). ابن كيسان : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) يعني بيان ما كان وما يكون ؛ لأنه كان يبيّن عن الأولين والآخرين وعن يوم الدين.

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي بحساب ومنازل لا تعدّونها ، قاله ابن عباس وقتادة وأبو ملك.

قال ابن زيد وابن كيسان : يعني بهما بحسب الأوقات والأعمار والآجال ، لو لا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف نحسب شيئا ، لو كان الدهر كلّه ليلا كيف نحسب؟ أو كلّه نهارا كيف نحسب؟ وقال الضحاك : يجريان بعدد. مجاهد : كحسبان الرحى يدوران في مثل قطب الرحا. السدي : بأجل كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا. نظيره (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى). يمان : يجريان بأهل الدنيا وقضائها وفنائها.

والحسبان قد يكون مصدر حسبت حسابا وحسبانا مثل الغفران والكفران والرجحان والنقصان ، وقد تكون جمع الحساب كالشهبان والرهبان والقضبان والركبان.

وارتفاع الشمس والقمر بإضمار فعل مجازه (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) يجريان (بِحُسْبانٍ) ، وقيل : مبتدأ وخبره فيما بعده.

١٧٧

ونظم الآية (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) وقدر الشمس والقمر ، وقيل : هو مردود على البيان ، أي (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) ، إن الشمس والقمر بحسبان.

ويقال : سعة الشمس ستة آلاف فرسخ وأربعمائة فرسخ في مثلها ، وسعة القمر ألف فرسخ في ألف فرسخ.

مكتوب في وجه الشمس : لا إله إلّا الله ، محمد رسول الله ، خلق الشمس بقدرته ، وأجراها بأمره ، وفي بطنها مكتوب : لا إله إلّا الله ، رضاه كلام ، وغضبه كلام ، ورحمته كلام ، وعذابه كلام ، وفي وجه القمر مكتوب : لا إله إلّا الله ، محمد رسول الله ، خلق الله القمر ، وخلق الظلمات والنور ، وفي بطنه مكتوب : لا إله إلّا الله خلق الخير والشر بقدرته ، يبتلي بهما من يشاء من خلقه ، فطوبى لمن أجرى الله الخير على يديه ، والويل لمن أجرى الله الشر على يديه.

(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ). قيل : هو ما ليس له ساق من الأشجار ، وينبسط على وجه الأرض ، وقال السدّي : هو جمع النبات سمّي نجما لطلوعه من الأرض ، وسجودها سجود ظلها ، وقال مجاهد وقتادة : هو الكوكب ، وسجوده طلوعه.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) قال مجاهد : العدل ، وقال الحسن والضحاك وقتادة : هو الذي يوزن به ليوصل به الإنصاف والانتصاف ، وقال الحسين بن الفضل : هو القرآن ، وأصل الوزن التقدير.

(أَلَّا تَطْغَوْا) يعني لئلّا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق (فِي الْمِيزانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) بالعدل ، وقال أبو الدرداء : أقيموا لسان الميزان بالقسط ، وقال ابن عيينة : الإقامة باليد والقسط بالقلب (وَلا تُخْسِرُوا) ولا تنقصوا (الْمِيزانَ) ولا تطففوا في الكيل والوزن.

قال قتادة في هذه الآية : اعدل يا بن آدم كما تحب أن يعدل عليك ، وأوف كما تحب أن يوفى لك ، فإن العدل صلاح الناس.

وقراءة العامة (تُخْسِرُوا) بضم التاء وكسر السين ، وقرأ بلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين وهما لغتان.

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) للخلق ، وقال الحسن : للجن والإنس ، وقال ابن عباس والشعبي : لكلّ ذي روح.

(فِيها فاكِهَةٌ) يعني [ألوان] الفواكه ، وقال ابن كيسان : يعني ما يفكههم به من النعم التي لا تحصى ، وكل النعم يتفكه بها (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أوعية التمر ، واحدها : كم ، وكل ما يسترنا فهو كم وكمة ، ومنه كمّ القميص ، ويقال : للقلنسوة : كمّة ، قال الشاعر :

١٧٨

فقلت لهم كيلوا بكمّة بعضكم

دراهمكم إني كذاك أكيل (١)

قال الضحاك : (ذاتُ الْأَكْمامِ) أي ذات الغلف. الحسن : أكمامها : ليفها. قتادة : رقابها. ابن زيد : الطلع قبل أن يتفتق.

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) قال مجاهد : هو ورق الزرع ، قال ابن السكّيت : يقول العرب لورق الزرع : العصف والعصيفة والجل بكسر الجيم ، قال علقمة بن عبدة :

تسقي مذانب قد مالت عصيفتها

حدورها من أتيّ الماء مطموم (٢)

العصف : ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس. نظيره (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).

(وَالرَّيْحانُ) قال مجاهد : هو الرزق ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس قال : كل ريحان في القرآن فهو رزق.

قال مقاتل بن حيان : (الرَّيْحانُ) : الرزق بلغة حمير. قال الشاعر :

سلام الإله وريحانه

ورحمته وسماء درر (٣)

سعيد بن جبير عن ابن عباس : (الرَّيْحانُ) : الريع. الضحّاك : هو الطعام. قال : فالعصف هو التين (وَالرَّيْحانُ) ثمرته. الحسن وابن زيد : هو ريحانكم هذا الذي يشم. الوالبي عن ابن عباس : هو خضرة الزرع. سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق.

وقراءة العامة (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) كلّها مرفوعا بالرد على الفاكهة ، ونصبها كلّها ابن عامر على معنى خلق هذا الإنسان وخلق هذه الأشياء ، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصم (وَالرَّيْحانِ) بالجر عطفا على العصف.

(فَبِأَيِّ آلاءِ) نعم (رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أيها الثقلان.

يدل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن مسلم الحنبلي قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن عبد الخالق قال : حدّثنا عبد الوهاب الوراق قال : حدّثنا أبو إبراهيم الترجماني قال : حدّثنا هشام بن عمار الدمشقي ، قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا وهب ابن محمد عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قرأ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الرّحمن حتى ختمها. ثم قال : «ما لي أراكم سكوتا؟ للجن أحسن منكم ردّا ، ما قرأت عليهم هذه الآية مرة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلّا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذب» [١٦٥] (٤).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٥٦.

(٢) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٥٧ ، لسان العرب : ٤ / ١٢١ وفيه :

تسقي مذانب قد طالت عصيفتها

جدورها من أتى الماء مطموم.

(٣) الصحاح ١ / ٣٧١.

(٤) كنز العمال : ٢ / ٣٢٥ ج ٤١٤٦.

١٧٩

وقيل : خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب ، وقد مضت هذه المسألة في قوله سبحانه : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ).

وأما الحكمة من تكرارها فقال القتيبي : إن الله سبحانه وتعالى عدّد في هذه السورة نعماه ، وذكّر خلقه آلاءه. ثم أتبع ذكر كلّ كلمة وضعها ، ونعمة ذكرها بهذه الآية ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقرّرهم بها ، وهو كقولك لرجل (١) : أحسنت إليه وتابعت بالأيادي ، وهو في كل ذلك ينكرك ويكفرك : ألم تكن فقيرا فأغنيتك؟ أفتنكر؟ ألم تكن عريانا فكسوتك؟ ، أفتنكر هذا؟ ألم أحملك وأنت راحل؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملا فعززتك؟ ، أفتنكر هذا؟ ألم تكن صرورة فحججت بك؟ أفتنكر هذا؟

والتكرار سائغ في كلام العرب ، حسن في مثل هذا الموضع. قال الشاعر :

المم سلومه المم (٢) المم

وقال الآخر :

كم نعمة كانت لكم

كم كم وكم (٣)

وقال آخر :

فكادت فرارة تصلى بنا

فاولى فرارة أولى فرارا

وقال آخر :

لا تقطعن الصديق ما طرفت

عيناك من قول كاشح أشر (٤)

ولا تملّنّ من زيارته

زره وزره وزر وزر وزر

وقال الحسين بن الفضل : التكرار لطرد الغفلة وتأكيد الحجة.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠))

__________________

(١) في المخطوط : كقول الرجل.

(٢) كذا في المخطوط.

(٣) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٦٠.

(٤) تفسير القرطبي : ١٧ / ١٦٠.

١٨٠