الكشف والبيان - ج ٣

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٣

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

١
٢

٣
٤

سوره آل عمران

روي أنّها أربعة عشر ألف حرف ، وخمس مائة وخمسة وعشرون حرفا ، وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانين كلمة ، ومائتا آية.

فضلها :

روي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس» [١] (١).

زرّ بن حبيش عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكلّ آية منها أمانا على جسر جهنّم» [٢] (٢).

رويعن أبي إسحاق عن سليم بن حنظلة ، قال : قال عبد الله بن مسعود : «من قرأ آل عمران فهو غني».

يحيى بن نعيم عن أبيه عن أبي المعرش عن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «تعلّموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان ، وإنهما يأتيان يوم القيامة في صورة ملكين شفعاء له جزاء حتى يدخلاه الجنّة» [٣] (٣).

إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي الحرين عن أبي عبد الله الشاميّ ، قال : «من قرأ سورة البقرة وآل عمران في ليلة الجمعة يبدل له يوم القيامة جناحات يطير بهما على الصراط» [٤] (٤).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي

__________________

(١) مجمع الزوائد : ٢ / ١٦٨.

(٢) تفسير مجمع البيان : ٢ / ٢٣٢.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٣٦١ ، مجمع الزوائد : ٧ / ١٥٩ مع اختلاف في الحديث.

(٤) ميزان الاعتدال : ٢ / ٤٢٤ ، وفيه : جناحين منظومين بالدرّ والياقوت.

٥

الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر الزبير ، ومحمد بن مروان عن الكلبي ، وعبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع بن أنس ، قالوا : نزلت هذه في وفد نجران ، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وفي الاربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب ، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدّرون عن رأيه ، واسمه عبد المسيح. والسيّد [عالمهم] وصاحب رحلهم واسمه [الأيهم ويقال : شرحبيل] (١) وأبو حارثة بن علقمة الذي يعتبر حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان قد شرف فيهم ودرّس كهنتهم من حسن عمله في دينهم ، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه [وموّلوه وبنو له] الكنائس لعلمه واجتهاده.

فقدموا على رسول الله المدينة ودخلوا مسجده ـ حين صلى العصر ـ عليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحديد ، في جمال رجال بلحرث (٢) بن كعب ، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رأينا وفدا مثلهم! وقد حانت صلاتهم فقاموا وصلّوا في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلّوا الى المشرق.

فكلّم السيد والعاقب رسول الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أسلمنا. قالا : قد أسلمنا قبلك ، قال : كذبتما ؛ يمنعكما من الإسلام [ادّعاء كما] (٣) لله ولدا ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير.

قالا : إن لم يكن ولد لله فمن [أبيه] (٤) وخاصموه جميعا في عيسى عليه‌السلام ، فقال لهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّه لا يكون ولد إلّا وشبه أباه. قالوا : بلى ، قال : ألستم] تعلمون أن ربّنا حي لا يموت وإنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا : بلى. قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا : لا. قال : ألستم تعلمون (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ)؟ قالوا : بلى.

__________________

(١) تاريخ المدينة لابن شبه : ٢ / ٥٨١.

(٢) للتخفيف وهو بالأصل : بني الحرث.

(٣) في المخطوط : (دعاءكما)

(٤) هكذا في الأصل.

٦

قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علّم؟

قالوا : لا.

قال : فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث؟ قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون إنّ عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة حملها ، ثم غذي كما يغذى الصبي ، وكان يطعم ويشرب ويحدث ، قالوا : بلى. قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا.

فأنزل الله تعالى فيهم صدر سورة آل عمران الى بضع وثمانين آية منها.

فقال عزّ من قائل : (الم) قرأ ابن جعفر بن زبير القعقاع المدني ا ل م مفصولا ، ومثلها جميع حروف التهجّي المفتح بها السور.

وقرأ ابن جعفر الرواسي والأعشى والهرحمي : (الم اللهُ) مقطوعا والباقون موصولا مفتوح الميم. فمن فتح الميم ووصل فله وجهان :

قال البصريون : لالتقاء الساكنين حركت إلى أخف الحركات.

وقال الكوفيون : كانت ساكنة ؛ لأن حروف الهجاء مبنية على الوقف فلمّا تلقاها ألف الوصل وأدرجت الألف فقلبت حركتها وهي الفتحة الى الميم.

ومن قطع فله وجهان :

أحدهما : نية الوقف ثم قطع الهمزة للابتداء ، كقول الشاعر :

لتسمعنّ وشيكا في ديارهم

الله أكبر يا ثارات عثمانا (١)

والثاني : أن يكون أجراه على لغة من يقطع ألف الوصل.

كقول الشاعر :

إذا جاوز الاثنين سرّ

فإنه بنت وتكثير الوشاة قمين (٢)

ومن فصل وقطع فللتفخيم والتعظيم تعالى (اللهُ) ابتداء وما بعده خبر ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) نعت له ، (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) قرأ إبراهيم بن أبي عبلة : نَزَلَ بتخفيف (الزاي) ، الْكِتابُ : برفع الباء ، وقرأ الباقون : بتشديد الزاي ونصب الباء على التكثير ؛ لأنّ القرآن كان ينزل نجوما شيئا بعد شيء والتنزيل يكون مرّة بعد مرّة ، وقال : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ؛ لأنهما نزلتا

__________________

(١) البداية والنهاية : ٧ / ٢١٩ وتاج العروس : ٣ / ٧٠.

(٢) الصحاح : ١ / ٢٩٤.

٧

دفعة (نَزَّلَ عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) القرآن (بِالْحَقِ) : بالعدل ، والصدق ، (مُصَدِّقاً) : موافقا (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) : لما قبله من الكتب في التوحيد ، والنبوّات ، والأخبار ، وبعض الشرائع.

(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) قال البصريون : أصلها ووريه دوجله وحرقله فحوّلت الواو الاولى تاء وجعلت الياء المفتوحة ألفا فصارت توراة ، ثم كتبت بالياء على أصل الكلمة ، وقال الكوفيون : هي تفعله والعلة فيه ما ذكرنا مثل (توصية) ، و (توفية) فقلبت الياء ألفا كما يفعل طيئ ، فيقول للجارية : جاراة ، وللناصية : ناصاة ، وأصلها من قولهم : «وري الزند» إذا أخرجت ناره وأولته أنا ، قال الله عزوجل : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (١) ، وقال : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) (٢) فتسمى تورية ؛ لأنه نور وضياء دلّ عليه قوله تعالى : (وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) (٣) قاله الفراء ، وأكثر العلماء ، وقال [المؤرج :] هي من التورية وهي كتمان الشيء والتعريض لغيره.

ومن الحديث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أراد شيئا وري بغيره» [٥].

وكان أكثر التورية معارض وتلويحا من غير إيضاح وتصريح ، وقيل : هي بالعبرانية «نوروثو» ومعناه : الشريعة.

والإنجيل أفضل من [النجل] وهو الخروج ، ومنه سمّي الولد «نجلا» لخروجه.

قال الأعشى :

أنجب أزمان والداه به

إذ نجّلاه فنعم ما نجلا (٤)

فسمي بذلك ؛ لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا.

ويقال : هو من المتنجل ، وهو سعة الجن ، يقال : قطعته نجلا أي : واسعة فسمي بذلك ؛ لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم نورا وضياء ، وقيل : هو بالسريانية «انقليون» ومعناه : الشريعة : وقرأ الحسن الْأَنْجِيلَ بفتح الهمزة ، يصححه الباقون بالكسر مثل : الإكليل.

(مِنْ قَبْلُ) رفع على الغاية والغاية هاهنا قطع الكتاب عنه كقوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) وقال زهير :

وما كان من خير أتوه

فإنّما توارثه آباء آبائهم قبل (٥)

__________________

(١) سورة الواقعة : ٧١.

(٢) سورة العاديات : ٢.

(٣) سورة الأنبياء : ٤٨.

(٤) الصحاح : ١ / ٢٢٢.

(٥) تفسير القرطبي : ٣ / ١٧٣.

٨

(هُدىً لِلنَّاسِ) هاد لمن تبعه ، ولم ينته ؛ لأنّه مصدر وهو في محل النصب على الحال والقطع.

(وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) الفرق بين الحق والباطل ، قال السدي : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للمتقين.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ).

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) ذكرا وأنثى ، قصيرا وطويلا ، أسودا وأبيضا ، حسنا وقبيحا ، سعيدا وشقيا.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) متقنات مبينات مفصلات.

(هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام ويجمع الحلال والحرام ويفرّغ لأهل الإسلام ، وهنّ آيات التوراة والإنجيل والقرآن ، وفي كل كتاب يرضى به أهل كل دين ، ولا يختلف فيه أهل كل بلد.

والعرب تسمي كلّ شيء فاضل جامع يكون مرجعا لقوم ، كما قيل للّوح المحفوظ : أم الكتاب ، والفاتحة : أمّ القرآن ، ولمكّة : أمّ القرى وللدماغ : أمّ الرأس ، وللوالدة : أم ، وللراية : أم ، وللرجل الذي يقوم بأمر العيال : أم ، وللبقرة والناقة أو الشاة التي يعيش بها أهل الدار : أم ، وكان عيسى عليه‌السلام يقول للماء : «هذا أبي» ، وللخبز : «هذه أمّي» ؛ لأنّ قوام الأبدان بهما.

وإنّما قال (أُمُّ الْكِتابِ) ولم يقل أمّهات الكتب ؛ لأنّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله واحد.

وقيل : معناه كلمة واحدة فـ (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) كما قال : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (١) أي كل واحد منهما آية.

(وَأُخَرُ) : جمع أخرى ولم يصرف ؛ لأنّه معدول عن أواخر ، مثل عمر ، وزفر وهو قاله الكسائي.

وقيل : ترك أخراه ؛ لأنّه نعت مثل جمع ، وكسع لم يصرفا ؛ لأنّهما نعتان.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٥٠.

٩

وقيل : لأنّه مبني على واحدة في ترك الصرف وواحدة اخرى غير مصروف.

(مُتَشابِهاتٌ) : تشبه بعضها بعضا ، واختلف العلماء في المحكم والمتشابه كليهما فقال قتادة والربيع والضحاك والسدي : «المحكم : الناسخ الذي يعمل له».

«والمتشابه : المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به ، هي رواية عطية عن ابن عباس».

روى علي ابن أبي طلحة عنه قال : «محكمات القرآن ناسخة ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده ، وفرائضه ، وما يؤمر به ويعمل به».

والمتشابهات : منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله واقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به.

زهير بن معاوية عن أبي إسحاق قال : قال ابن عباس : قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) قال : هي الثلاث الآيات في سورة الأنعام (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) (١) إلى آخر الآيات الثلاث ، نظيرها في سورة بني إسرائيل (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٢) الآيات.

وقال مجاهد ، وعكرمة : «المحكم : ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه [يصدّق] بعضها بعضا».

قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : المحكم : ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد.

والمتشابه : ما أحتمل من التأويل أوجها.

وقال ابن زبير : من المحكم ما ذكر الله تعالى في كتابه من قصص الأنبياء عليهم‌السلام ، وفصلت وتنته لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّته ، كما ذكر قصة نوح في أربع وعشرين آية منها ، وقصة هود في عشر آيات ، وقصّة صالح في ثمان آيات ، وقصة إبراهيم في ثمان آيات ، وقصة لوط في ثمان آيات ، وقصة شعيب في عشر آيات ، وقصة موسى في آيات كثيرة.

وذكر [آيات] حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أربع وعشرين آية.

والمتشابه : هو ما أختلف به الألفاظ من قصصهم عند التكرير ، كما قال في موضع من قصة نوح : (قُلْنَا احْمِلْ) (٣) وقال وفي موضع آخر : (فَاسْلُكْ) (٤).

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٥١.

(٢) سورة الإسراء : ٢٣.

(٣) سورة هود : ٤٠.

(٤) سورة المؤمنون : ٢٧.

١٠

وقال في ذكر عصا موسى : (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (١) ، وقال في موضع آخر : (ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٢) ونحوها.

وإن بعضهم قال : «المحكم : ما عرف العلماء تأويله ، وفهموا معناه».

«والمتشابه : ما ليس لأحد الى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه» وذلك نحو الخبر عن وقت خروج الدجّال ، ونزول عيسى ، وطلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناء الدّنيا ، ومحوها.

وقال أبو فاختة : «المحكمات التي (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) فواتح السور منها يستخرج القرآن (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (٣) منها استخرجت البقرة ، و (الم اللهُ) (٤) استخرجت آل عمران.

وقال ابن كيسان : «المحكمات حجتها واضحة ، ودلائلها لائحة ، لا حاجة بمن سمعها الى طلب معانيها في المتشابه الذي شك علمه ، بالنظر فيه يعرف العوّام تفصيل الحق فيه من الباطل».

وقال بعضهم : «المحكم ما أجمع على تأويله ، والمتشابه ما ليس معناه واضح».

وقال أبو عثمان : المحكم فاتحة الكتاب.

وقال الشعبي : رأيت في بعض التفاسير (٥) أنّ المتشابه هو [ما خفي لفظه والمحكم ما كان لفظه واضح وعلى هذا القرآن كلّه] (٦) محكم من وجه على معنى [بشدّة] [.....] (٧) ، قال الله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) (٨).

والمتشابه من وجه فهو إنّه يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا.

وقال ابن عبّاس في رواية شاذان : المتشابه حروف التهجّي في أوائل السّور ، وذلك بأنّ حكام اليهود هم حيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ونظراءهما أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له حيي :

__________________

(١) سورة طه : ٢٠.

(٢) سورة الأعراف : ١٠٧.

(٣) سورة البقرة : ١. ٢.

(٤) سورة آل عمران : ١. ٢.

(٥) راجع تفسير مجمع البيان : ٢ / ٢٤٢ ، عن تفسير الماوردي ، وتفسير القرطبي : ٤ / ١٠.

(٦) زيادة منّا لتقويم المعنى.

(٧) كلمة غير مقروءة.

(٨) سورة هود : ١.

١١

بلغنا أنّه أنزل عليك (الم) أأنزلت عليك؟ قال : نعم ، فإن كان ذلك حقّا فإنّي أعلم من هلك بأمّتك وهو إحدى وسبعون سنة فهل أنزلت عليك غيرها؟ قال : نعم والى (المص) (١) ، قال : هذه أكبر من تلك هي إحدى وستون ومائة سنة فربما غيرها؟ قال : نعم (الر) (٢) قال : هذه أكثر من مائة وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليلة؟ ونحن ممّن لا يؤمن بهذا ، فأنزل تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) : أي ميل عن الحق ، وقيل : شك.

(فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) : اختلفوا في معنى هذه الآية ، فقال الربيع : هم وفد نجران خاصموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : ألست تعلم أنّه كلمة الله (وَرُوحٌ مِنْهُ)؟ قال : بلى ، قالوا : فحسبنا ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال الكلبي : هم اليهود [أجهل] هذه الأمّة باستخراجه بحساب الجمل. وقال ابن جري : هم المنافقون.

[قال] الحسن : هم الخوارج.

وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) قال : إن لم يكونوا آخرون فالسبابيّة ولا أدري من هم.

وقال بعضهم : هم جميع المحدثة.

وروي حمّاد بن سلمة وأبو الوليد يزيد بن أبي ميثم وأبوه جميعا عن عبد الله بن أبي مليكة الفتح عن عائشة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا رأيتم الّذين يسألون عمّا (تَشابَهَ مِنْهُ) ويجادلون فيه الّذين عنى الله عزوجل فاحذروهم ولا تخالطوهم [٦] (٣).

(ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) : طلب الشرك قاله الربيع ، والسدي ، وابن الزبير ، ومجاهد : ابتغاء الشبهات واللبس ليضلّوا بها جهّالهم.

(وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) : تفسيره وعلمه دليله قوله تعالى : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٤).

وقيل : ابتغاء عاقبته ، وطلب مدة أجل محمّد ، وأمته من حساب الجمل ، دليله قوله تعالى

__________________

(١) سورة الأعراف : ١.

(٢) سورة يونس : ١.

(٣) تفسير القرطبي : ٤ / ٩ بتفاوت ، وتفسير الدرّ المنثور : ٢ / ٥ ، من طرق كلّها متفاوتة.

(٤) سورة الكهف : ٧٨.

١٢

(ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (١) أي عاقبته ، وأصله من قول العرب : تأول الفتى إذا انتهى.

قال : الأعشى :

على أنّها كانت تأوّل حبها

تأوّل ربعي السقاب فأصحبا (٢)

يقول : هذا السجي لها فانقرت لها وابتغتها ، قال الله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) واختلف العلماء في نظم هذه الآية وحكمها.

فقال قوم : الواو في قوله (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) واو العطف ، يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم يقولون : (آمَنَّا بِهِ).

وهو قول مجاهد والربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، واختيار القتيبي قالوا : معناها يعلمونه و (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) فيكون قوله : (يَقُولُونَ) ، حالا والمعنى : الراسخون في العلم قائلين آمنّا به.

قال ابن المفرغ الحميري :

أضربت حبك من امامه

من بعد أيام برامه

الريح تبكي شجوها

والبرق يلمع في الغمامة (٣)

أراد والبرق لا معا في غمامه وتبكي شجوه أيضا ، ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعانه معنى.

ودليل هذا التأويل قوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٤). ثم قال : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) (٥) الآية.

ثم قال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) (٦) : أي والذين تبؤوا الدار ، ثم قال : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ). ثم أخبر عنهم أنّهم (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) (٧) الآية.

ولا شك في أنّ قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) عطف على قوله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ)

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

(٢) الربعي : نتاج الربيع ، وأصحب الرجل : إذا بلغ ابنه ، والبيت في تفسير الطبري : ٣ / ٢٥٠.

(٣) تفسير القرطبي : ٤ / ١٧ ، واحكام القرآن للجصّاص : ٢ / ٧.

(٤) سورة البقرة : ١٧٧.

(٥) سورة الحشر : ٨.

(٦) سورة الحشر : ٩.

(٧) سورة الحشر : ١٠.

١٣

، وانّهم يشاركون للفقراء المهاجرين والأنصار في الفيء و (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) من جملة (الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ). فمعنى الآية (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) وهم مع استحقاقهم الفيء (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) (١) أي قائلين على الحال. فكذلك هاهنا في (يَقُولُونَ رَبَّنا) أي و (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ).

ومما يؤيد هذا القول أنّ الله تعالى لم ينزل كتابه إلّا لينتفع له مبارك ، ويدل عليه على المعنى الذي اراده فقال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) (٢) ، وقال : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٣).

والمبين الظاهر ، وقال : (بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) (٤). فوصف جميعه بالتفصيل والتبيين وقال : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (٥).

ولا يجوز أن تبيّن ما لا يعلم ، وإذا جاز أن يعرفه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قوله لا يعلمه إلّا الله ، جاز أن يعرفه الربانيون من أصحابه.

وقال : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (٦) ولا تؤمر باتّباع ما لا يعلم ؛ ولأنّه لو لم يكن للراسخين في العلم هذا لم يكن لهم على المعلمين والجهال فضل ؛ لأنهم ايضا (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) : ولأنّا لم نر من المفسرين على هذه الغاية [قوما] يوفقوا عن شيء من تفسير القرآن وقالوا : هذا متشابه لا يعلمه إلّا الله ، بل أعزوه كله وفسروه حتى حروف التهجي وغيرها.

وكان ابن عباس يقول : في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم.

وقرأ مجاهد هذه الآية وقال : أنا ممّن يعلم تأويله.

وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : كل القرآن أعلم ولا أعلم أربعة : (غِسْلِينٍ) ، و (حَناناً) ، والأوّاه ، والترقيم. وهذا إنّما قال ابن عباس في وقت ثم علمها بعد ذلك وفسّرها.

وقال آخرون : الواو في قوله (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) واو الاستئناف وتم الكلام ، وانقطع عند قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ). ثم ابتدأ وقال : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌ

__________________

(١) سورة الحشر : ١٠.

(٢) سورة ص : ٢٩.

(٣) سورة الشعراء : ١٩٥.

(٤) سورة الأعراف : ٥٢.

(٥) سورة النحل : ٤٤.

(٦) سورة الأعراف : ٣.

١٤

مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ... وَالرَّاسِخُونَ) أبتداء وخبره في (يَقُولُونَ) ، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير ، ورواية طاوس عن ابن عباس ، واختيار الكسائي والفراء والمفضّل بن سلمة ومحمد بن جرير قالوا : إنّ الراسخين لا يعلمون تأويله ، ولكنهم يؤمنون به. والآية راجعة على هذا التأويل الى العلم بما في أجل هذه الأمة ووقت قيام الساعة ، وفناء الدنيا ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى عليه‌السلام ، وخروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، وعلم الروح ونحوها مما استأثر الله لعلمه ولم يطلع عليه أحد من خلقه.

وقال بعضهم : [اعلم أنّ المتشابه من الكتاب قد] (١) أستأثر الله بعلمه دوننا ، ونفسّره نحن ، ولم نتعبد بذلك. بل ألزمنا العمل بأوامره واجتناب نواهيه ، ومما يصدّق هذا القول قراءة عبد (٢) الله أنّ تأويله لا يعلم إلّا عند الله ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به.

وفي حرف [ ] (٣) الراسخون في العلم آمنّا به.

ودليله أيضا ما روي عن عمر بن عبد العزيز ، إنّه قرأ هذه الآية ثم قال : انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن الى أن قالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (٤).

وقال أبو نهيك الأسدي : إنّكم تصلون هذه الآية وإنّها مقطوعة وهذا القول أقيس العربيّة وأشبه مظاهر الآية والقصة والله أعلم.

و (الرَّاسِخُونَ) : الداخلون في العلم الذين أتقنوا علمهم ، واستنبطوه فلا يدخلهم في معرفتهم شك ، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته وأوجب فيه يقال : (رسخ الإيمان في القلب فلان) فهو يرسخ رسخا ورسوخا وكذلك في كل شيء ورسخ رصخ ، وهذا كما يقال : مسلوخ ومصلوخ قال الشاعر :

لقد رسخت في القلب منك مودة

للنبي أبت آياتها أن تغيرا (٥)

وقال بعض المفسّرين من العلماء : الراسخون علما : مؤمني أهل الكتاب ، مثل عبد الله بن سلام و [ابن صوريا وكعب].

[قيل :] (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) هم بعض الدارسين علم التوراة.

وروي عن أنس بن مالك [وأبي الدرداء وأبي أمامة] : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل من

__________________

(١) عن تفسير القرطبي : ٤ / ١٨.

(٢) في معاني القرآن للنحاس أنّها قراءة ابن عباس (١ / ٣٥١)

(٣) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

(٤) تفسير الطبري : ٣ / ٢٤٩.

(٥) تفسير القرطبي : ٤ / ١٩ وفيه : الصدر ، بدل القلب.

١٥

(الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)؟ فقال : «من برّت يمينه ، وصدق لسانه واستقام قلبه ، وعف بطنه وفرجه ، فذلك الراسخ في العلم» [٧] (١).

وقال وهيب : سمعت مالك بن أنس يسأل عن تفسير قوله (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) من هم؟ قال : العالم العامل بما علم تبع له.

وقال نافع بن يزيد : كما أن يقال (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) المؤمنون بالله ، المتذللون في طلب مرضاته ، لا يتعاظمون على من فوقهم ، ولا [يحقّرون] من دونهم (٢).

وقال بعضهم : (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) : من وجد في عمله أربعة أشياء :

التقوى بينه وبين الله تعالى ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه (٣).

وقال ابن عباس ومجاهد والسدي بقولهم : (آمَنَّا بِهِ) سمّاهم الله تعالى : الراسخين في العلم ؛ فرسوخهم في العلم قولهم : (آمَنَّا بِهِ) أي بالمتشابه (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، ما علمناه وما لم نعلمه.

قال المبرد : زعم بعض الناس أن (عِنْدِ) هاهنا صلة ومعناه كل من ربّنا. (وَما يَذَّكَّرُ) : يتعظ بما في القرآن.

(إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) : ذووا العقول ولبّ كل شيء خالصه [فلذلك قيل للعقل لب].

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤))

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) : أي ويقول الراسخون كقوله في آخر السورة : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ

__________________

(١) المعجم الكبير : ٨ / ١٥٢ ، وتفسير الطبري : ٣ / ٢٥١.

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٣٥٦.

(٣) فغني المحتاج : ٣ / ٦٠.

١٦

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا) (١) أي ويقولون ربنا (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) لا تملها عن الحق والهدى ، كما ازغت قلوب اليهود والنصارى ، و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ).

يقال : زاغ ـ يزيغ ـ ازاغة إذا مال.

وزاغ ـ تزيغ ـ زيغا ـ وزيوغا ـ وزيغانا إذا حال.

(بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) : وفقنا لدينك ، والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك.

(وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) : وآتنا من لدنك رحمة وتوفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الهدى والإيمان.

وقال الضحاك : تجاوزا ومغفرة الصّدق [.....] (٢) على شرط السنة.

(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) : تعطي. وفي الآية ردّ على القدرية.

وروي عن أسماء بنت يزيد : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكثر في دعائه : «اللهم [يا] مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» [٨] (٣).

قالت : فقلت : يا رسول الله وإنّ القلوب لتقلب؟. قال : نعم ما خلق الله من بني آدم من بشر إلّا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله عزوجل فإن شاء أزاغه ، وإن شاء أقامه على الحق ، فنسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنّه هو الوهاب (٤).

قالت : قلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟

قال : بلى قولي : «اللهم ربّ محمّد النبي ، اغفر لي ذنبي ، واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلّات الفتن ما أحييتني» [٩] (٥).

وعن أبي موسى الأشعري قال : وإنما مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض (٦).

خالد بن معدان عن أبي عبيدة بن الجراح : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ قلب ابن آدم مثل العصفور يتقلب في اليوم سبع مرات (٧).

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٩١.

(٢) كلمة غير مقروءة.

(٣) مسند أحمد : ٦ / ٣٠٢.

(٤) إلى هنا الحديث في تفسير ابن كثير : ١ / ٣٥٦.

(٥) مسند أحمد : ٦ / ٣٠٢.

(٦) الدرّ المنثور : ٢ / ٨.

(٧) المصدر السابق.

١٧

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) : [بالبعث ليوم القيامة] (١) وقيل : اللام بمعنى في أيّ يوم.

(لا رَيْبَ فِيهِ) : لا شك فيه وهو يوم القيامة [...] (٢) عند ما قرأ الآية [...] (٣) ولذلك انصرف عن الخطر الى الخبر.

(إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) وهو مفعال من الوعد.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ) قرأ السلمي (يغني) بالياء المتقدمة من الفعل ودخول [الحائل] بين الاسم والفعل.

وقرأ الحسن (لن يغني) بالياء وسكون الياء الأخيرة (٤) كقول الشاعر :

كفى باليأس من أسماء كافي

وليس لسقمها إذا طال شافي

وكان حقّه أن يقول : كافيا ، فأرسل الياء ، وأنشد الفرّاء في مثله :

كأن أيديهنّ بالقاع القرق

أيدي جوار يعاطين الورق

القرق والقرقة لغتان في القاع (٥).

ومعنى قوله (لن يغني) : أي لن ينفع ، ولن يدفع وإنما سمى المال غنى ؛ لأنه ينفع الناس ويدفع عنهم الفقر والنوائب.

(عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً).

قال الكسائي وقال أبو عبيدة : معناه عند الله شيئا ، من بمعنى الحال.

(أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) نظم الآية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) : عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون ، وكفّار الأمم الخالية عاقبناهم فـ (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ).

وأما معنى (كَدَأْبِ) : فقال [ابن عباس] وعكرمة ومجاهد والضّحاك وأبو روق والسدّي وابن زيد : كمثل آل فرعون [مع موسى] يقول كعب اليهود : لكفر آل فرعون (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

ربيع والكسائي وأبو عبيدة : كسنّة آل فرعون. الأخفش : كأمر آل فرعون.

قال امرؤ القيس :

__________________

(١) عن تفسير الثعالبي : ٢ / ١٣.

(٢) كلمتان غير مقروءتان.

(٣) كلمتان غير مقروءتان.

(٤) فتح القدير : ١ / ٣٢٠ ، وتفسير القرطبي : ٤ / ٢١.

(٥) عن تفسير القرطبي : ٤ / ٢٢.

١٨

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وجارتها أم الرباب بمأسل (١)

وهذا أصل الحرف يقال : دائب في الأمر أو أبة دأبا ودائب [ويدأ ودءوبا] إذا أدمنت العمل ونعيته.

وأدأب السير أدآبا ، فإنّما يرجع معناه الى النّساب والحاك والعادة.

قال الشاعر (٢) :

لأرتحلن بالفجر ثمّ لادئبنّ

قال سيبويه : موضع الكاف رفع ؛ لأن الكاف للتشبيه تقوم مقام الاسم ، وتقديره : دأبهم (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كدأب الأمم الماضية (كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ) : فعاقبهم.

(بِذُنُوبِهِمْ) : نظيره قوله (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) (٣).

(وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) : قرأ إسحاق وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلق بالياء فيهما ، الباقون بالتاء ، فمن قرأهما بالياء فعلى الأخبار عنهم أنّهم يحشرون ويقلبون ، ومن قرأهما بالتاء فعلى الخطاب أي قلّ لهم إنكم ستغلبون وتحشرون وكلا الوجهين [صحيح] ؛ لأنه لم يوح إليهم ، وإذا كان المخاطب بالشيء غير حاضر وكانت مخاطبته [في] الكلام بالتاء على الخطاب ، وبالياء على الأخبار والأعلام كما تقول : (قل لغير الله ليضربن ولتضربن).

واختلف المفسرون في المعنى لهذه الآية من هم؟ فقال مقاتل : هم مشركو مكّة ، ومعنى الآية قيل لكفّار مكّة : (سَتُغْلَبُونَ) يوم بدر (وَتُحْشَرُونَ) في الهجرة ، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للكافرين يوم بدر : «إنّ الله غالبكم وحاشركم الى جهنّم» [١٠].

دليل التأويل قوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) (٤).

وقال بعضهم : المراد بهذه الآية اليهود.

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : إنّ يهود أهل المدينة قالوا لمّا هزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين يوم بدر : هذا والله النبي الأمّي الذي بشّرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته

__________________

(١) فتح القدير : ١ / ٣٢١.

(٢) وهو زهير راجع تفسير مجمع البيان : ٢ / ٢٤٤ والمعنى : إلّا أن يمنعني ولادة طفل.

(٣) سورة العنكبوت : ٤٠.

(٤) سورة القمر : ٤٥. ٤٦.

١٩

وصفته ، وأنّه لا تردّ له راية ، وأرادوا تصديقه واتّباعه ، ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى الى وقفة أخرى به ، فلمّا كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكّوا وقالوا : لا والله ما هو به فغلب عليهم الشقاء ولم يسلموا ، وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد الى مدة لم تنقض فنقضوا ذلك العهد من أجله.

وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا الى أهل مكّة ، أبي سفيان وأصحابه ، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتكون كلمتنا واحدة ، ثم رجعوا الى المدينة ، فأنزل الله فيهم هذه الآية.

وقال محمد بن إسحاق عن رجاله لمّا أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا ببدر ، وقدم الى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال : «يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم قد عرفتم إنّي نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» [١١] (١).

فقالوا : يا محمّد لا يغرنّك أن لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة ، لك والله لو قاتلناك لعرف منا البأس ، فأنزل الله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (٢) : يعني اليهود (سَتُغْلَبُونَ) وتهزمون (وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) في الآخرة ، وهذه رواية عكرمة ، وسعيد بن جبير عن أبن عباس.

قال : أهل اللغة اشتقاق جهنّم من الجهنام وهي البئر البعيدة القعر.

(وَبِئْسَ الْمِهادُ) يعني النار (قَدْ كانَ) ولم يقل كانت ؛ لأنّ (آيَةٌ) تأنيثها غير حقيقي ، وقيل : ردّها الى البيان أي : قد كان لكم بيان فذهب الى المعنى وترك اللفظ كقول امرؤ القيس :

برهرهة رأدة رخصة

كخرعوبة البانة المنقطر (٣)

ولم يقل المنفطرة ؛ لأنّه ذهب الى القضيب ، وقال الفراء : ذكّره ؛ لأنّه فرق بينهما بالصفة فلما حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث ذكّر الفعل وأنّثه :

إنّ امرؤا غرّه منكره واحدة بعدي

وبعدك في الدنيا لمغرور

وكل ما جاء في القرآن من هذا النحو ، فهذا وجهه ، فمعنى الآية (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) : أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم (سَتُغْلَبُونَ).

__________________

(١) أسباب نزول الآيات : ٦٢.

(٢) سورة آل عمران : ١٢.

(٣) الصحاح : ١ / ١١٩.

٢٠