الكشف والبيان - ج ٥

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٥

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

وقال الراجز :

يوم عصيب يعصب الأبطالا

عصب القوي السلم الطوالا (١)

وذلك أن لوطا عليه‌السلام لم يكن يعلم أنهم رسل الله في تلك الحال ، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيان الفواحش فخاف عليهم ، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه قال قتادة والسدّي : خرجت الملائكة من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام نحو قرية لوط فأتوا لوطا وهو في أرض يعمل فيها ، وقد قال الله تعالى لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطا أربع شهادات ، واستضافوه فانطلق معهم ، فلمّا خشي عليهم ، قال لهم : ما بلغكم ، أمر هذه القرية؟ قالوا : وما أمرهم؟ قال : أشهد بالله إنها لشرّ قرية في الأرض عملا يقول ، ذلك أربع مرات ، فدخلوا معه منزله ، ولم يعلم بذلك أحد إلّا أهل بيت لوط ، فخرجت امرأته فأخبرت قومها ، وقالت : إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط.

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) قال ابن عباس وقتادة والسدّي : يسرعون ، ومجاهد : يهرولون ، الضحاك : يسعون ، ابن عيينة : كأنهم يدفعون ، شمر بن عطية : مشي بين الهرولة والجمزى (٢) ، الحسن : مشي بين مشيتين ، قال أهل اللغة : يقال : أهرع الرجل من برد وغضب أو أهرع إذا أرعد فهو مهرع إذا كان معجلا مسرعا ، قال مهلهل :

فجاءوا يهرعون وهم أسارى

يقودهم على رغم الأنوف (٣)

وقال الراجز :

بمعجلات نحوه مهارع (٤)

(وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي من قبل مجيء الرسل إلى لوط كانوا يأتون الرجال في أدبارهم ، فقال لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان : (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) واختلفوا في معنى قوله ، قال محمد بن الفضل : يعني على شريعة الإسلام. وقال تميم : فلعلّ ذلك إلّا إذا كان تزويجه بناته من الكفرة جائزا كما زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وكانا كافرين ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : أراد بقوله (بَناتِي) : النساء ، وكلّ نبي أبو أمّته. وقرأ بعض القراء (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) وهو أب لهم ، وقال بعضهم : كان لهم سيّدان مطاعان فأراد أن يزوجهما بنتيه ، زعوراء وريثا.

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٢ / ١٠٧ ، وذكر الأبيات السابقة.

(٢) الجمزى : السريع يقال : الناقة تعدو الجمزى وكذلك الفرس ، لسان العرب : ٥ / ٣٢٣.

(٣) تاج العروس : ٥ / ٥٥٧.

(٤) تفسير الطبري : ١٢ / ١٠٨.

١٨١

وقوله : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) قراءة العامة برفع الراء ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو : (أَطْهَرَ) بالنصب على الحال (١) ، فإن قيل : فأي طهارة في نكاح الرجال حتى قال لبناته هن أطهر لكم؟ قيل : ليس هذا زيادة النسل ، إنما يقال ليس ألف «أطهر» للتفضيل وهذا سائغ جائز في كلام العرب كقول الناس : الله أكبر ، فهل يكابر الله أحد حتى يكون هو أكبر منه؟ ويدلّ عليه ما روي عن أبي سفيان حين قال يوم أحد : أعل هبل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر : «قل الله أعلى وأجل» [٩٩] (٢) ، وهبل لم يكن قط عاليا.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي لا تهينوني فيهم بركوبهم ، وهم لا يركبون ، وعجزي من دفعهم عنهم. وقيل : أراد ولا تشهروني بهم. تقول العرب : خزي خزيا إذا افتضح ، وخزي يخزي خزاية بمعنى الاستحياء ، قال ذو الرمة :

خزاية أدركته بعد جولته

من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب (٣)

(أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) صالح ، قال ابن عباس : معناه رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) أي ليس لنا أزواجا [نلتصقهنّ] بالتزويج (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) من إتيان الأضياف ، فقال لهم لوط عند ذلك (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي منعة وشيعة تنصرني (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أي ألجأ وأنضوي إلى عشيرة مانعة ، وجواب (لو) مضمر [تقديره : لرددت أهل الفساد] ، وقالوا : ما بعث الله بعده نبيا إلّا في ثروة من قومه ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ هذه الآية قال : «رحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي (إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ)» [١٠٠] (٤).

قال ابن عباس وأهل التفسير : أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب ، وهم يعالجون تسوّر الجدار ، فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب والنصب بسببهم ، قالوا : يا لوط إنّ ركنك لشديد (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) فافتح الباب ودعنا وإيّاهم ففتح الباب ودخلوا ، فاستأذن جبريل عليه‌السلام ربه في عقوبتهم فأذن له ، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وله جناحان [وعليه وشاح من در منظوم وهو برّاق الثنايا أجلى الجبين ، ورأسه بك حبك] مثل المرجان وهو اللؤلؤ كأنّه ثلج ، وقدماه إلى الخضرة فقال : (يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) ، امض يا

__________________

(١) كلام غير مقروء.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٢٨٨.

(٣) لسان العرب : ١٤ / ٢٢٧.

(٤) المعجم الأوسط للطبراني : ٨ / ٣٤٢.

١٨٢

لوط من الباب ، ودعني وإيّاهم ، فتنحى لوط عن الباب فخرج عليهم فنشر جناحه فضرب [به] (١) وجوههم فطمس أعينهم فعموا وانصرفوا على أعقابهم فلم يعرفوا طريقا ولم يهتدوا إلى بيوتهم.

فانصرفوا وهم يقولون : النجا النجا فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقد سحرونا ، وجعلوا يقولون : يا لوط كما أنت حتى نصبح ، يتوعدونه ، فقال لهم لوط : متى موعد هلاكهم؟ فقالوا : الصبح قال : أريد أسرع من ذلك أن تهلكونهم الآن ، فقالوا : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) قالوا له : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) ، قرأ أهل الحجاز بوصل الألف من سرى يسري ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يسري اعتبارا بقوله (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وهما بمعنى واحد.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) قال ابن عباس : بطائفة من الليل ، الضحّاك : ببقية ، قتادة : بعد مضي صدره ، الأخفش : بعد جنح ، وقيل : بعد هدوء ، وبعضها قريب من بعض.

(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : إِلَّا امْرَأَتُكَ برفع التاء على الاستثناء من الالتفات أي (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) فإنها تلتفت وتهلك ، وإنّ لوطا خرج بها ، ونهى من معه ممن أسرى بهم أن يلتفت سوى زوجته ، فإنها لما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : وا قوماه فأدركها حجر فقتلها.

وقرأ الباقون بنصب المرأة على الاستثناء من الأهل ، أي فأسر بأهلك بقطع من الليل إلّا امرأتك ولا يلتفت منكم أحد ، فـ (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) من العذاب غير مخطئها ولا يخطيهم.

(إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) أي إن موعد هلاكهم هو الصبح ، فقال لوط : أريد أسرع من ذلك ، فقالوا : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) عذابنا (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) وذلك أن جبريل عليه‌السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات سدوم وعامورا ودادوما وصبوا ، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ، ثم جعل (عالِيَها سافِلَها).

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل عليه‌السلام : «إن الله تبارك وتعالى سمّاك بأسماء ففسّرها لي ، قال الله في وصفك (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) فأخبرني عن قوّتك ، قال : يا محمد رفعت قرى قوم لوط من تخوم الأرض على جناحي في الهواء حتى سمعت ملائكة سماء الدنيا أصواتهم وأصوات الديكة ثم قلبتها ظهرا لبطن ، قال : فأخبرني عن قوله (مُطاعٍ) قال : إن رضوان خازن الجنان ، ومالكا خازن النيران متى كلفتهما فتح أبواب الجنة والنار فتحاهما لي ، قال : فأخبرني عن قوله (أَمِينٍ) قال : إن الله عزوجل أنزل من السماء مائة وأربعة كتب على أنبيائه لم يأتمن عليها غيري» [١٠١].

__________________

(١) المخطوط غير مقروء وما أثبتناه من تفسير الطبري : ١٢ / ١٢٠.

١٨٣

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) أي على شذاذها وسافليها ، وقال أبو عبيدة : مطر في الرحمة ، وأمطر في العذاب (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) قال مجاهد : أولها حجر وآخرها طين ، وقال ابن عباس ووهب وسعيد بن جبير (سنك) (١) : و (كل) حجارة وطين ، قتادة وعكرمة : السجّيل : الطين دليله قوله تعالى (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) قال الحسن : كان أصل الحجارة طينا فشدّدت.

وروى عكرمة أيضا أنه قال : هو حجر معلق في الهواء بين الأرض والسماء منه أنزل الحجارة ، وقيل : هو جبال في السماء وهي التي أشار الله إليها فقال : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) وقال أهل المعاني : السجّيل والسجّين واحد ، وهو الشديد من الحجر والضرب. قال ابن مقبل :

ورجلة يضربون البيض عن عرض (٢)

ضربا تواصت به الأبطال سجينا (٣)

والعرب تعاقب بين اللام والنون ، قالوا : لأنّها كلها ذلقة من مخرج واحد ونظيره في الكلام هلّت العين وهنّت إذا أصيبت وبكت ، وقيل : هو فعيل من قول العرب أسجلته إذا أرسلته فكأنها مرسلة عليهم ، وقيل : من سجلت لهم سجلا إذا أعطيتهم كأنهم أعطوا ذلك البلاء والعذاب ، قال الفضل بن عباس :

من يساجلني يساجل ماجدا

يملأ الدلو إلى عقد الكرب (٤)

(مَنْضُودٍ) قال ابن عباس : متتابع ، قتادة : بعضها فوق بعض ، الربيع : قد نضد بعضه على بعض ، عكرمة : مصفوف ، أبو بكر الهذلي : معدّ وهي من عدة [الله] التي أعدت للظلمة.

(مُسَوَّمَةً) من نعت الحجارة ، وهي نصب على الحال ومعناها معلّمة قتادة وعكرمة : مطوقة بها نضح من حمرة ، ابن جريج : كانت لا تشاكل حجارة الأرض ، الحسن والسدّي : مختومة ، وقيل : مشهورة ، ربيع : مكتوب على كل حجر اسم من رمي به.

(وَما هِيَ) يعني تلك الحجارة (مِنَ الظَّالِمِينَ) من مشركي مكّة (بِبَعِيدٍ) قال مجاهد : يرهب بها قريشا ، قتادة وعكرمة : يعني ظالمي هذه الأمة والله ما أجار الله منها ظالما بعد ، وقال أنس بن مالك : سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام عن قوله تعالى (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) قال : يعني بها ظالمي أمتك ، ما من ظالم منهم إلّا هو يعرف أي حجر سقط عليه (٥).

__________________

(١) كلمة فارسية معناها : الحجر.

(٢) في المخطوط وتفسير القرطبي : ضاحية ، وفي مصادر اللغة ما ذكرنا.

(٣) تاج العروس : ٧ / ٣٣٦.

(٤) لسان العرب : ١١ / ٣٢٦.

(٥) راجع تفسير ابن كثير : ٢ / ٤٧١.

١٨٤

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩))

(وَإِلى مَدْيَنَ) يعني وأرسلنا إلى قوم مدين بن إبراهيم ، (أَخاهُمْ شُعَيْباً) بن شرون بن أيوب بن مدين بن إبراهيم.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) وكانوا يطفّفون

١٨٥

(إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) قال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : موسرين في نعمة ، الحسن : الغنى ورخص السعر ، قتادة : المال وزينة الدنيا ، الضحاك : رغد العيش وكثرة المال ، مجاهد : خصب وسعة ، وغيرهم في غلاء السعر وزوال النعمة وحلول النقمة إن لم يتوبوا (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) محيط بكم فلا يفلت منكم أحد.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) اكتالوا بالقسط (وَلا تَبْخَسُوا) ولا تنقصوا (النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس : ما أبقى الله لكم من الحلال ، وإيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف (١) ، قال مجاهد : الطاعة ، سفيان (٢) : رزق الله ، قتادة : حظكم من ربكم ، ابن زيد : الهلاك في العذاب والبقية : الرحمة ، الفرّاء : مراقبة الله (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) وإنما قال هذا لأن شعيبا لم يؤمر بالقتال.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأوثان ، قال ابن عباس : كان شعيب كثير الصلاة لذلك قالوا هذا ، قال الأعمش : يعني قراءتك (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) يعني أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، وقرأ بعضهم : تفعل وتشاء بالتاء يعني : تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء فيكون راجعا إلى الأمر لا إلى الترك.

قال أهل التفسير : كان هذا نهيا لهم عنه وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم. فلذلك قالوا : وأن نفعل ما نشاء (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قال ابن عباس : السفيه الغاوي. قال القاضي : والعرب تصف الشيء بضده ، للتطير والفأل كما قيل للديغ : سليم ، وللفأرة : مفازة.

وقيل : هو على الاستهزاء ، كقولهم للحبشي : أبو البيضاء ، وللأبيض : أبو الجون ، ومنه قول خزنة النار لأبي جهل : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ). وقيل : معناه الحليم الرشيد بزعمك وعند كن ومثله في صفة أبي جهل ، وقال ابن كيسان : هو على الصحة أي أنّك يا شعيب لنا حليم رشيد ، فليس يجمل بك شق عصا قومك ولا مخالفة دينهم ، كقول قوم صالح له : (يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا).

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجّة وبصيرة وبيان وبرهان (مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) حلالا طيبا من غير بخس ولا تطفيف ، وقيل : علما ومعرفة (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) ما أريد أن أنهاكم عن أمر وأرتكبه (إِنْ أُرِيدُ) ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه (إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع فيما ينزل بي من النوائب ، وقيل : إليه أرجع في الآخرة.

__________________

(١) وهو نقص المكيال والميزان.

(٢) زاد المسير : ٤ / ١١٦.

١٨٦

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) لا يحملنكم (شِقاقِي) خلافي وفراقي (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من العذاب (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط ، وقيل : ما دار قوم لوط منكم ببعيد (وَ) يا قوم (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) محبّ المؤمنين ، وقيل : مودود للمؤمنين ومحبوبهم.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) وذلك أنه كان ضريرا ، قال سفيان : كان ضعيف البصر ، وكان يقال له خطيب الأنبياء (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) عشيرتك وكان في عزة ومنعة من قومه (لَرَجَمْناكَ) لقتلناك (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) قيل : الهاء راجعة إلى الله وقيل : إلى أمر الله وما جاء به شعيب ، أي نبذتموه وراء ظهوركم وتركتموه ، يقال : جعلت أمري بظهر إذا قصر في أمره وأخلّ بحقه.

(إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي تؤدتكم ومكانكم ، يقال : فلان يعمل على مكانته ومكنته إذا عمل على تؤدّه تمكن. ويقال : مكن يمكن مكنا مكانا ومكانة ، (إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيّنا الجاني على نفسه ، والأخطى في فعله ، وذلك قوله (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) قيل : (مَنْ) في محل النصب أي فسوف تعلمون من هو كاذب ، وقيل : ويخزي من هو كاذب ، وقيل : محله رفع تقديره : ومن هو كاذب فيعلم كذبه ويذوق وبال أمره فـ (ارْتَقِبُوا) وانتظروا العذاب (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) منتظر.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) صيحة من السماء أخذتهم وأهلكتهم ، ويقال : إن جبريل صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم.

(فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ميتين ساقطين هلكى صرعى (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) يكونوا (فِيها أَلا بُعْداً) هلاكا وغضبا (لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ) هلكت (ثَمُودُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) حجة بيّنة (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) وخالفوا أمر موسى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ) أي يتقدمهم ويقودهم إلى النار (يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) وبئس المدخل المدخول فيه.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) العون المعان ، وذلك أنه ترادفت عليهم اللعنات ، لعنة في الدنيا ، ولعنة في الآخرة.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) خراب ، ابن عباس : (قائِمٌ) ينظرون إليه ، (وَحَصِيدٌ) قد خرب وهلك أهله ، مقاتل : (قائِمٌ) يعني له أثر ، (وَحَصِيدٌ) لا أثر له ، مجاهد :

١٨٧

(قائِمٌ) : (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) (وَحَصِيدٌ) : مستأصل يعني محصودا كالزرع إذا حصد ، قال قتادة : القائم منها لم يذهب أصلا ، ومنها حصيد قد ذهب أصلا ، القرضي : (مِنْها قائِمٌ) بجدرانها وحيطانها ، وحصيد : ساقط ، محمد بن إسحاق : منها قائم يعني [.....] (١) وأمثالها من القرى التي لم تهلك ، (وَحَصِيدٌ) يعني التي قد أهلكت.

(وَما ظَلَمْناهُمْ) بالعذاب والإهلاك (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعصية يظلمون (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ (مِنْ شَيْءٍ) لَمَّا جاءَ أَمْرُ) عذاب (رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) غير تخسير.

(وَكَذلِكَ) وهكذا (أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) نظير قوله : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (٢).

(إِنَّ فِي ذلِكَ) لعبرة وعظة (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ) يعني يوم القيامة (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) قال عبد الله بن مسعود لأصحابه : إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد تسمعون الداعي [......] (٣) (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) يشهده أهل السماء وأهل الأرض.

(وَما نُؤَخِّرُهُ) يعني وما نؤخّر ذلك اليوم ولا نقيم عليكم القيامة (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي مؤقّت لا يتقدم ولا يتأخر (يَوْمَ يَأْتِ) وقرئ بإثبات الياء وحذفه ، وهما لغتان وحذف الياء له طريقان كالكسرة عن الياء (٤) والضمة من الواو ، كقول الشاعر :

كفاك كفّ ما تليق ودرهما

جودا وأخرى تعط بالسيف الدما (٥)

(لا تَكَلَّمُ) أي : لا تتكلم (نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) نظير (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) أي : تتنزل.

قال لبيد :

والعين ساكبة على أطلائها

عوذا تأجّل بالفضاء بهامها (٦)

[أي تتأجل].

(فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) قال ابن عباس : فمنهم شقي كتبت عليه السعادة ، وروى عبد الله ابن دينار عن ابن عمر عن عمر ، قال : لمّا نزلت هذه الآية سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : يا نبي الله

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) سورة البروج : ١٢.

(٣) كلمة غير مقروءة.

(٤) نحو : لا أدر.

(٥) لسان العرب : ١٠ / ٣٣٤.

(٦) لسان العرب : ١١ / ١١.

١٨٨

فعلى ما عملنا ، على شيء فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على شيء قد فرغ منه يا عمر ، وجرت به الأقلام ولكن كلّ ميسّر لما خلق له» [١٠٢] (١).

وروي عنه عليه‌السلام : «الشقي من شقي في بطن أمّه ، والسعيد من سعد في بطن أمّه» [١٠٣] (٢).

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) خالدين فيها (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قال ابن عباس : الزفير : الصوت الشديد ، والشهيق : الصوت الضعيف ، الضحّاك ومقاتل : الزفير : أول نهيق الحمار ، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا ردّده في الجوف. أبو العالية : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر (خالِدِينَ) لابثين ومقيمين (فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) يسمى هنا (ما) الوقت.

قال ابن عباس : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) من ابتدائها إلى وقت فنائها ، قال الضحّاك : ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما ، وكل ما علاك فأظلّك فهو سماء ، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض.

قال الحسين : أراد ما دامت الآخرة كدوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بقائها ، قال أهل المعاني : العرب [...] (٣) في معنى التأبيد والخلود ، يقولون : هو باق ما [...] (٤) وأطت الإبل ، وأينع الثمر ، وأورق الشجر ، ومجن الليل وسال سيل ، وطرق طارق ، وذرّ شارقن ونطق ناطق ، وما اختلف الليل والنهار ، وما اختلف الذرة والجمرة ، وما دام عسيب ، وما لألأت العفراء ونابها ، و (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ، فخاطبهم الله تعالى بما تعارفوا بينهم.

ثم استثنى فقال : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) اختلف العلماء في هذين الاستثناءين ، من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة ، فقال بعضهم هو في أهل التوحيد الذين يخرجهم الله من النار.

قال ابن عباس : و (ما شاءَ رَبُّكَ) أن يخرج أهل التوحيد منها ، وقال في قوله في وصف السعداء : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أن يخلدهم في الجنة ، وقال قتادة : في هذه الآية الله أعلم بها ، وذكر لنا أن ما أقوله سيصيبهم سفع من النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم الله منها ، وعلى هذا القول يكون استثناء من غير جنسه لأن الأشقياء في الحقيقة هم الكافرون ، والسعداء في الحقيقة هم المؤمنون.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٦.

(٢) مجمع الزوائد : ٧ / ١٩٣ ، وتأويل مختلف الحديث : ١٣.

(٣) كلام غير مقروء.

(٤) كلمة غير مقروءة.

١٨٩

وقال أبو مجلز : هو جزاؤه إلّا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم ، ولا يدخلهم النار ، وفي وصف السعداء إلّا ما شاء ربك بقاءهم في الجنة. قال ابن مسعود : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ). وهو أن يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ثم يجدّد خلقهم.

قال : وليأتين على جهنم زمان تغلق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون (فِيها أَحْقاباً) ، وقال الشعبي : جهنم أسرع الدارين عمرا وأسرعهما خرابا ، وقال ابن زيد : في هذه الآية أخبرنا بالذي أنشأ لأهل الجنة فقال : هذا غير مجذوذ ، ولم يخبرنا بالذي أنشأ لأهل النار ، وقال ابن كيسان : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من الفريقين من تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار ، وقيل : (ما شاءَ رَبُّكَ) من احتباس الفريقين في البرزخ ما بين الموت والبعث.

الزجّاج : في هذه الآية أربعة أقوال : قولان منها لأهل اللغة ، وقولان لأهل المعاني ، فأمّا أحد قولي أهل اللغة فإنهم قالوا : (إِلَّا) هاهنا بمعنى سوى كما يقال في الكلام : ما كان معنا رجل إلّا زيد ، ولي عليك ألف درهم إلّا الألفان التي لي عليك ، فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود ، والقول الثاني : إنّه استثنى من الإخراج وهو لا يريد أن يخرجهم منها ، كما يقول في الكلام : أردت أن أفعل كذا إلّا أن أشاء غيره ، وأنت مقيم على ذلك الفعل ، والمعنى أنّه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم ، ولكنّه أعلمهم أنهم خالدون فيها ، قال الزجّاج : فهذان مذهبا أهل اللغة.

وأما قولا أهل المعاني ، فإنهم قالوا : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من مقدار مواقفهم على رأس قبورهم وللمحاسبة (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من زيادة النعيم لأهل النعيم ، وزيادة العذاب لأهل الجحيم ، وقال الفراء : معناه : وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة ، و (إِلَّا) بمعنى الواو سائغ جائز في اللغة ، قال الله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ومعناه ، ولا الذين ظلموا ، وأنشدني أبو ثروان :

من كان أشرك في تفرّق فالج

فلبونه جربت معا وأغدت

إلّا كناشرة الذي ضيعتم

كالغصن في غلوائه المثبت (١)

معناه ، لكن هنا كناشرة ، وهي كاسم قبيلة ، وقال : معناه كما شاء ربك كقوله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) معناه كما قد سلف.

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) قرأ أهل الكوفة : (سعدوا) بضم السين أي رزقوا السعادة ، وسعد وأسعد بمعنى واحد ، وقرأ الباقون بفتح السين قياسا على الذين شقوا ، واختاره أبو عبيد وأبو

__________________

(١) لسان العرب : ٢ / ٩٥ ، وتاج العروس : ١ / ٥٩.

١٩٠

حاتم (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ). الضحّاك : إلّا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة ، أبو سنان : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من الزيادة على قدر مدة دوام السماء والأرض ، وذلك هو الخلود فيها ، قال الله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) غير مقطوع.

وكيع بن الجراح : كفرت الجهمية بأربع آيات من كتاب الله ، قال الله تعالى في وصف نعيم الجنة (مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) وقالت الجهمية : يقطع فيمنع عنهم ، وقال الله (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) وقالوا : لا يدوم ، وقال الله (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) وقالوا : لا يبقى ، وقال الله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وقالوا : يجذ ويقطع.

(فَلا تَكُ) يا محمد (فِي مِرْيَةٍ) في شك (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) فهم ضلّال.

(ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ) فيه إضمار أي : [كعبادة] (آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) حظهم من الجزاء (غَيْرَ مَنْقُوصٍ).

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

(وَلَقَدْ آتَيْنا) أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) ممّن صدف عنه وكذّب به ، كما فعل قومك بالقرآن يعزّي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في تأخير العذاب (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أفرغ من عقابهم وإهلاكهم ، يعني المختلفين المخالفين.

(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) موقع في الريب والتهمة ، يقال : أراب الرجل ، أي جاء بريبة ، وألام إذا أتى بما يلام عليه ، قال الشاعر :

تعد معاذرا لا عذر فيها

ومن يخذل أخاه فقد ألاما (١)

(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا) اختلف فيه القرّاء ، فقرأ ابن عامر وأبو جعفر وحمزة وأن بتخفيف النون و (لَمَّا) بتشديد الميم على معنى فإنّ كلا لمّا (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) ، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة ، كقول الشاعر :

كان من أخرها لقادم

مخرم نجد فارع المحارم (٢)

__________________

(١) الصحاح : ٥ / ٢٠٣٤ ، ولسان العرب : ١٢ / ٥٥٨.

(٢) تفسير الطبري : ١٢ / ١٦١.

١٩١

أراد إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام وتكون (ما) بمعنى من تقديره لممّن يوفينّهم ، كقول الشاعر :

وأنّي لمّا أصدر الأمر وجهه

إذا هو أعيا بالسبيل مصادره (١)

وقيل : أراد (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا) بالتنوين والتشديد ، قرأها الزهري بالتنوين أي (وَإِنَّ كُلًّا) شديدا وحقا (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) من قوله تعالى : (كُلًّا لَمَّا) ، أي شديدا فحذفوا التنوين وأخرجوه على هذا فعلى ، كما فعلوا في قوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) ، وقرأ نافع وابن كثير بتخفيف النون والميم على معنى إن الثقيلة مخفّف ، وأنشد أبو زيد :

ووجه مشرق النحر كأن ثدييه حقّان (٢)

أراد كان فخفّف ونصب به ، و (ما) صلة تقديره وإن كلا ليوفينّهم. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب وحفص وأيوب وخلف بتشديد النون وتخفيف الميم على معنى وأن كلا ليوفينّهم ، جعلوا (ما) صلة. وقيل : أرادوا وأن كلا لممّن كقوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي من. وقرأ أبو بكر بن عياش بتخفيف النون وتشديد الميم أراد أن الثقيلة فخفّفها.

وقيل : (أن) بمعنى (ما) الجحد و (لما) بمعنى (إلا) تقديره وما كلا إلّا ليوفينّهم ، ولكنه نصب كلّا بإيقاع التوفية عليه أي ليوفينّ كلا وهو أبعد القراءات فيها من الصواب ، إنه بما تعملون خبير.

(فَاسْتَقِمْ) يا محمد على أمر ربك والعمل به والدعاء إليه (كَما أُمِرْتَ) أن لا تشرك بي شيئا وتوكّل عليّ مما ينوبك ، قال السدّي : الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته.

(وَمَنْ تابَ مَعَكَ) فليستقيموا ، يعني المؤمنين (وَلا تَطْغَوْا) ولا تجاوزوا أمري ، وقال ابن زيد : ولا تعصوا الله ولا تخالفوه ، وقيل : ولا تتخيّروا (٣).

(إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه من أعمالكم شيء ، قال ابن عباس : ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشقّ عليه من هذه الآية ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشيب ، فقال : «شيبتني سورة هود وأخواتها» [١٠٤] (٤).

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) قال ابن عباس : ولا تميلوا على غيّهم ولا تدهنوا لهم

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ١٠٥.

(٢) تفسير الطبري : ١٢ / ١٦٢.

(٣) تفسير القرطبي : ٩ / ١٠٧.

(٤) الجامع الصغير : ٢ / ٨٢ ح / ٤٩١٦ ، وكنز العمّال : ١ / ٥٧٣.

١٩٢

قال ، أبو العالية : لا ترضوا على أعمالهم. قتادة : لا تلحقوا بالمشركين. السدّي وابن زيد ، ولا تداهنوا الظلمة ، ابن كيسان : لا تسكنوا إلى الذين ظلموا.

(فَتَمَسَّكُمُ) تصيبهم النار (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) أي أعوان يمنعون (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) يعني الغداة والعشي ، قال ابن عباس : يعني صلاة العصر والمغرب. مجاهد : صلاة الفجر وصلاة العشاء ، القرظي : هي الفجر والظهر والعصر ، الضحاك : صلاة الفجر والعصر ، [وقيل : الطرفان] صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف.

(وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) يعني صلاة العتمة ، وقال الحسن : هما المغرب والعشاء ، قال الأخفش : يعني ساعات الليالي واحدتها زلفة ، وأصل الزلفة المنزلة والقربة ، ومنه المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة ، قال العجاج :

طيّ الليالي زلفا فزلّفا

سماوة الهلال حتى أحقوقفا (١)

وفيه أربع لغات (زُلَفاً) : بفتح الفاء وضم اللام وهي قراءة العامة ، وقرأ أبو جعفر بضم الزاي واللام ، وقرأ ابن محيصن بضم الزاي وجزم اللام ، وقرأ مجاهد زلفى ، مثل قربى.

(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يعني : إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات ، هذا قول أكثر المفسرين ، وقال مجاهد : هي قول العبد : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر.

نزلت هذه الآية في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري وكان يبيع التمر فأتته امرأة تبتاع تمرا فقال : إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه ، فهل لك فيه ، فقالت : نعم ، فذهب بها إلى بيته فضمها إليه وقبّلها ، فقالت له : اتق الله فتركها وندم على ذلك ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل راود امرأة عن نفسها ولم يبق شيئا مما يفعل الرجال بالنساء إلّا ركبه غير أنه لم يجامعها ، فقال عمر بن الخطاب : لقد ستر الله عليك لو سترت على نفسك ، فلم يردّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، وقال : أنظر فيه أمر ربي ، وحضرت صلاة العصر ، فصلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العصر ، فلما فرغ أتاه جبريل بهذه الآية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أين أبو اليسر؟» فقال : ها أنا ذا يا رسول الله ، قال : «أشهدت معنا هذه الصلاة؟» قال : نعم ، قال : «اذهب فإنها كفارة لما عملت» فقال عمر : يا رسول الله أهذا له خاصّة أم لنا عامة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل للناس عامة» [١٠٥] (٢).

(ذلِكَ) الذي ذكرناه ، وقيل : هو إشارة إلى القرآن (ذِكْرى) عظة (لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ) يا

__________________

(١) لسان العرب : ٩ / ٥٢.

(٢) المصنّف لعبد الرزّاق : ٧ / ٣٢٦ ، ح / ١٣٣٤٩.

١٩٣

محمد على ما تلقى من الأذى ، وقيل : على الأذى ، وقيل : على الصلاة ، نظير قوله (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) من أعمالهم ، وقال فيه ابن عباس : يعني المصلّين.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

(فَلَوْ لا كانَ) فهلّا كان (مِنَ الْقُرُونِ) التي أهلكناهم (مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) أصحاب دين وعقل (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) ومعناه : فلم يكن ، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء منقطع (مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) وهم أتباع الأنبياء وأهل الحق.

(وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) قال ابن عباس : ما أنظروا فيه ، وروي عنه : أبطروا.

الضحّاك : اعتلّوا ، مقاتل بن سليمان : أعطوا ، ابن حيان : خوّلوا ، مجاهد : تجبّروا في الملك وعتوا عن أمر الله ، الفرّاء : ما سوّدوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا على الآخرة (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) كافرين (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) [بظلم منه لهم] (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) في أعمالهم غير مسيئين ، لكنه يهلكها بكفرهم وإتيانهم السيئات ، وقيل : معناه لم يكن ليهلكهم بشركهم وأهلها مصلحون فيما بينهم لا يتظالمون ، ويتعاطون الحق بينهم وإن كانوا مشركين ، وإنّما يهلكهم إذا ظلموا.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ) كلّهم (أُمَّةً) جماعة (واحِدَةً) على ملّة واحدة (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) على أديان شتى من يهودي ونصراني ومجوسي ونحو ذلك (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) ويعني بهم المؤمنون وأهل الحق.

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال الحسن ومقاتل بن حيان ويمان وعطاء : وللاختلاف خلقهم ، قال الأشهب : سألت مالكا عن هذه الآية فقال : خلقهم ليكون (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) ، وقيل : اللام بمعنى على ، أي وعلى ذلك خلقهم ، كقول الرجل للرجل : أكرمتك على برّك بي ولبرّك بي ، ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة : وللرحمة خلقهم ولم يقل : ولتلك ، والرحمة مؤنّثة لأنها مصدر وقد مضت هذه المسألة ، وهذا باب سائغ في اللغة [وهو أن يذكر] لفظان

١٩٤

متضادان ثم يشار إليهما بلفظ التوحيد فمن ذلك قوله تعالى (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) ثم قال : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) ، وقوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) وقوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) فكذلك معنى الآية ، ولذلك أي وللاختلاف والرحمة خلقهم أحسن خلق ، هؤلاء لجنّته ، وهؤلاء لناره.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) قال ابن عباس : نسدد ، الضحاك : نقوّي ، ابن جريج : نصبّر حتى لا تجزع ، أهل المعاني : ما نثبّت به قلبك.

(وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) قال الحسن وقتادة : في هذه الدنيا ، وقال غيرهما : في هذه السورة ، (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا) ما يحلّ بنا من رحمة الله (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ما يحل بكم من النقمة.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال ابن عباس : خزائن الله ، الضحّاك : جميع ما غاب عن العباد ، وقال الباقون : غيب نزول العذاب من السماء وإلينا يرجع الأمر كله في المعاد حتى لا يكون للخلق أمر ، وقرأ نافع وحفص بضم الياء أي (يُرْجَعُ ... فَاعْبُدْهُ) وحده (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) توثّق به (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) قال كعب : خاتمة التوراة خاتمة هود والله أعلم. يعملون قراءة العامة بالياء ، وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء.

١٩٥

سورة يوسف (ع)

مكية ، وهي سبعة آلاف وستة وسبعون حرفا ، وألف

وسبعمائة وستة وسبعون كلمة ، ومائة وإحدى عشرة آية

أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقرئ غير مرة ، قال : أخبرنا أبو بكر أحمد ابن إبراهيم الجرجاني ، وأبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصفهاني قالا : حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك ، قال : حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي ، قال : حدثنا سلام بن سليم المدائني ، قال : حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علّموا أرقّاءكم سورة يوسف فإنه أيّما مسلم تلاها وعلّمها أهله وما ملكت يمينه هوّن الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلما» [١٠٦].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) يعني البيّن حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وهداه وبركته ، قال معاذ بن جبل : بيّن فيه الحروف التي سقطت من ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) يعني الكتاب (قُرْآناً عَرَبِيًّا) بلغتكم يا معشر العرب (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكي تعلموا معانيه وتقيموا ما فيه (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) أي نقرأ ، وأصل القصص تتبع الشيء ، ومنه قوله تعالى (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) فالقاص يتتبع الآثار ويخبر بها.

(أَحْسَنَ الْقَصَصِ) يعني قصة يوسف (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) و (ما) المصدر أي بإيحائنا إليك هذا القرآن (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل وحينا (لَمِنَ الْغافِلِينَ)

قال سعد بن أبي وقاص : أنزل القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتلاه عليهم زمانا ، وكأنهم ملّوا فقالوا : لو قصصت علينا ، فأنزل الله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) الآية ، فقالوا : يا رسول الله لو ذكرتنا وحدثتنا فأنزل الله تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) الآية ، فقال الله تعالى على هذه الآية : (أَحْسَنَ الْقَصَصِ).

واختلف الحكماء فيها لم سميت أحسن القصص من بين الأقاصيص؟ فقيل : سماها (أَحْسَنَ

١٩٦

الْقَصَصِ) لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة ، وقيل : سمّاها أحسن لامتداد الأوقات فيما بين مبتداها إلى منتهاها ، قال ابن عباس : كان بين رؤيا يوسف ومصير أبيه وأخوته إليه أربعون سنة ، وعليه أكثر المفسرين ، وقال الحسن البصري : كان بينهما ثمانون سنة.

وقيل : سماها (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) لحسن مجاورة يوسف إخوته ، وصبره على أذاهم ، وإغضائه عند الالتقاء بهم عن ذكر ما تعاطوه ، وكرمه في العفو عنهم وقيل : لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والأنس والجن والأنعام والطير ، وسير الملوك والمماليك ، والتجار والعلماء والجهال ، والرجال والنساء ، وحيلهن ومكرهن ، وفيها أيضا ذكر التوحيد والعفة والسير وتعبير الرؤيا والسياسة وتدبير المعاش ، وجعلت أحسن القصص لما فيها من المعاني الجزيلة والفوائد الجليلة التي تصلح للدين والدنيا ، وقيل : لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب. وقيل : (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) هاهنا بمعنى أعجب.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ) قراءة العامة يوسف بضم السين ، وقرأ طلحة بن مصرف بكسر السين ، واختلفوا فيه فقال أكثرهم : هو اسم عبريّ فلذلك لا يجري ، وقال بعضهم : هو اسم عربي.

سمعت أبا القاسم الحبيبي ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت أبا الحسن الأقطع ، وكان حكيما ، وسئل عن يوسف ، فقال : الأسف : الحزن ، والأسيف : العبد واجتمعا في يوسف فلذلك سمي يوسف.

(لِأَبِيهِ) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام.

روى أبو سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام» [١٠٧] (١).

(يا أَبَتِ) قرأ أبو جعفر وابن عامر بفتح التاء في جميع القرآن على تقدير يا أبتاه ، وقرأ الباقون بالكسر ، لأنه أصله يا أبه على هاء الوقف والجر.

(إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) نصب الكوكب على التمييز ، (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) ولم يقل : رأيتها لي ساجدة ، والهاء والميم والياء والنون من كنايات ما يعقل ؛ لأن السجود فعل ما يعقل فعبّر عنها بكنايتها كقوله (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) الآية.

روى السدّي عن عبد الرحمن بن [ساريا] ، عن جابر ، قال : سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من اليهود يقال له بستان ، فقال : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها ، فسكت؟ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «هل أنت مؤمن إن أخبرت بأسمائها؟» قال : نعم ،

__________________

(١) سنن الترمذي : ٤ / ٣٥٦ ، ح ٥١١٩.

١٩٧

فقال : «حرثان (١) والطارق والذيال وذو النقاب (٢) وقابس ووثاب وعمودان والمصبح والفليق والضروح وذو الفرغ (٣) ، رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء فسجدن له» فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها [١٠٨] (٤).

قال ابن عباس : الشمس والقمر أبواه والكواكب إخوته الأحد عشر. وقال قتادة : الشمس أبوه والقمر خالته ، وذلك أن أمه راحيل كانت قد ماتت ، قال وهب : وكان يوسف رأى وهو ابن سبع سنين ، أن احدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة ثبتت عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه ، فقال له : إياك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثم رأى وهو ابن اثني عشرة سنة أنّ أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدن له فقصّها على أبيه فقال له : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) فيبغوا لك الغوائل ويحتالوا في إهلاكك ، لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدونك (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

واختلف النحاة في وجه دخول اللام في قوله لك ، فقال بعضهم : معناه فيكيدوك واللام صلة ، كقوله (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (٥) وقال آخرون : هو مثل قولهم : نصحتك ونصحت لك ، وشكرتك وشكرت لك ، وحمدتك وحمدت لك ، وقصدتك وقصدت لك.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) كقوله : [يصطفيك ويختارك] ليوسف (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) تعبير الرؤيا وسمي تأويلا لأنه يؤوّل أمره إلى ما رأى في منامه (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ) بالخلة وإنجائه من النار قال عكرمة : بأن نجّاه من الذبح وفداه بذبح عظيم. وقال الباقون : بإخراج يعقوب ، والأسباط من صلبه.

(إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ولهذا قيل : العرق نزّاع والأصل لا يخطئ ، فلمّا بلغت هذه الرؤيا إخوة يوسف حسدوه ، قال ابن زيد : كانوا أنبياء ، وقالوا : ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه ، فبغوه بالعداوة (٦).

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَ‌أَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ‌ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ‌ رَ‌أَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُ‌ؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٥) وَكَذَٰلِكَ

__________________

(١) في الطبري : جربان.

(٢) في تفسير الطبري : ذو الكنفين ، وفي الدرّ المنثور : الكفّتان.

(٣) في بعض المصادر : القرع.

(٤) تفسير الطبري : ١٢ / ١٩٧ ، والدرّ المنثور : ٤ / ٤.

(٥) سورة الأعراف : ١٥٤.

(٦) عن تفسير القرطبي : ٩ / ١٣٠.

١٩٨

لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

يقول الله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ) أي في خبره وخبر إخوته (وَإِخْوَتِهِ) وأسماؤهم روبيل وهو أكبرهم ، وشمعون ، ولاوي ، ويهودا ، وزيالون ، وأمنجر ، وأمهم ليا بنت أيان وهي ابنة خال يعقوب ، وولد له من سريّتين له اسم إحداهما زاد والأخرى ملده ، أربعة نفر ، دان ونفتالي وجاد وآشر ، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين ، وكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا.

(آياتٌ) قرأ أهل مكة آية على الواحد ، أي عظة وعبرة ، وقيل : عجب ، يقال : فلان آية في الحسن والعلم أي عجب ، وقرأ الباقون : (آياتٌ) على الجمع (لِلسَّائِلِينَ) وذلك أن اليهود سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة فعجبوا منه وقالوا : من أين لك هذا يا محمد؟ قال : «علّمنيه ربي» [١٠٩] وقيل : معناه للسائلين ولمن لم يسأل ، كقوله : (سَواءً لِلسَّائِلِينَ).

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ) اللام فيه جواب القسم تقديره : تالله ليوسف وأخوه بنيامين (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي جماعة والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة ، وقيل : إلى الخمسة عشر ، وقيل : ما بين العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) خطأ بيّن في إيثاره يوسف وأخاه علينا.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ) اختلفوا في تأويل هذا القول ، فقال وهب : قاله شمعون ، كعب : دان ، مقاتل : روبيل (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) أي في أرض (يَخْلُ لَكُمْ) يخلص ويصفو لكم.

(وَجْهُ أَبِيكُمْ) عن شغله بيوسف فإنه قد شغله عنّا وصرف وجهه إليه عنّا (وَتَكُونُوا مِنْ

١٩٩

بَعْدِهِ) من بعد قتل يوسف (قَوْماً صالِحِينَ) تائبين ، وقال مقاتل : يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) وهو روبيل ، وقال السدي : هو يهودا ، وهو أعظمهم وكان ابن خالة يوسف ، وكان أحسنهم فيدايا نهاهم عن قتله وقال لهم : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) فإن قتله عظيم.

(وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) أي في قعر الجب وظلمته حيث يغيب خبره ، قتادة : في أسفله ، والغيابة : كل شيء غيّب شيئا ، وأصلها من الغيبوبة ، وقرأ أهل المدينة : غيابات الجب ، على الجمع ، والباقون : (غَيابَتِ) ، على الواحد ، والجبّ : البئر غير المطويّة ، قتادة : هو بئر بيت المقدس ، وقال وهب : هو بأرض الأردن ، كعب : بين مدين ومصر ، مقاتل : على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب.

(يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) يأخذه ، قراءة العامة بالياء لأنه البعض وقرأ الحسن : تلتقطه بالتاء لأجل السيارة ، والعرب تفعل ذلك في كل خبر كان عن مضاف إلى مؤنث يكون الخبر عن بعضه خبرا عن جميعه ، كقول الشاعر :

أرى مرّ السنين أخذن مني

كما أخذ السرار من الهلال (١)

ولم يقل أخذت وقال الآخر :

إذا مات منهم سيد قام سيد

فدانت له أهل القرى والكنائس (٢)

(بَعْضُ السَّيَّارَةِ) بعض مارّي الطريق من المسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى فينستر خبره (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ما أقول لكم.

قيل للحسن : أيحسد المؤمن؟ قال : ما أنساك بني يعقوب؟ ولهذا قيل : الأب جلاب ، والأخ سلاب ، فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضرب من الاحتيال ، فقالوا ليعقوب (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا) قرأ أبو جعفر بالنون ، وقرأ الباقون بإشمام النون للضمّة ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، لأن أصله تأمننا بنونين فأدغمت أحدهما في الأخرى.

(وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) نحوطه ونحفظه حتى نردّه إليك ، مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير وذلك أن أخوة يوسف قالوا لأبيهم (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) قال أبوهم : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) فحينئذ قالوا (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) إلى الصحراء (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ).

__________________

(١) لسان العرب : ٨ / ٧٣ ، وشرح ابن عقيل : ١ / ٦٤.

(٢) تفسير الطبري : ١٢ / ٢٠٥.

٢٠٠