الكشف والبيان - ج ٩

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٩

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣

١
٢

٣
٤

سورة الأحقاف

مكّية. وهي خمسة وثلاثون آية وستمائة

وأربع وأربعون كلمة. وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا

أخبرنا أبو جعفر كامل بن أحمد المفيد ، أخبرنا أبو عمرو محمّد بن جعفر بن محمّد الحبري ، حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي ، حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدّثنا سلام بن سليم ، حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الأحقاف أعطي من الأجر بعدد كلّ نمل في الدّنيا عشر حسنات ومحي عنه عشر سيّئات ويرفع له عشر درجات» [١].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ) في مصحف عبد الله (أرأيتكم). (ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ) من عند الله جاءكم.

(مِنْ قَبْلِ هذا) القرآن فيه بيان ما تقولون. (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قرأه العامّة بالألف واختلف العلماء في تأويلها ، أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان ، أخبرنا مكي بن عبدان ، حدّثنا عبد الله بن هاشم ، حدّثنا يحيى بن سعيد ، عن صفوان بن سليم ، عن أبي سلمة ، عن ابن عبّاس

٥

وأظنّه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال : [الخط] (١) ، وقال ميمون بن مهران وأبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة : خاصّة من علم. الحسن : (أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) يستخرجوه فيثير (٢).

مجاهد : رواية تأثرونها عمّن كان قبلهم. عكرمة ومقاتل : رواية عن الأنبياء عليهم‌السلام.

محمّد بن كعب القرضي : الإسناد وأصل الكلمة من الأثر وهي الرواية. يقال : نموت الحديث (٣) أثره ، أثرا وأثارة ، كالشجاعة ، والجلادة ، والصلابة ، فما آثروا ، ومنه قيل للخبر : أثر.

قال الأعشى :

إنّ الّذي فيه تماريتما

بيّن للسامع والآثر (٤)

وقال الكلبي : بقية من علم. قال الأخفش : تقول العرب : لهذه الناقة أثارة من سمن ، أي بقيّة. قال الراعي :

وذات أثارة أكلت عليها

بناتا في أكمّتها قصارا

وقرأ علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أَوْ أَثْرَةٍ بفتح (الألف) وسكون (الثاء) من غير (ألف). وقرأ السلمي أَوْ أَثَرَةٍ بفتح (الهمزة) و (الثاء) من غير (ألف) ، أي خاصة من علم أوتيتموه وأوثرتم بها على غيركم. وقول عكرمة : أو ميراث من علم.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُ) أجهل. (مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ) يعني الأوثان. (عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) لا يسمعون ولا يفهمون. فأخرجها وهي جماد مخرج ذكور بني آدم إذ كانت قد مثّلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم.

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) جاحدين وعنهم متبرّئين. بيانه قوله : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (٥).

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) إن عذّبني على افترائي.

__________________

(١) في فتح الباري وغيره : الخط ، أي بكتاب مكتوب.

(٢) فتح الباري : ٨ / ٤٤٢ وفيه : أثره شيء يستخرجه فيثير ؛ وتفسير الطبري : ٢٦ / ٥ ح ٢٤١٥٣.

(٣) روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من نبي يموت ... الحديث». تنوير الحوالك للسيوطي : ٢٤٧ ط. دار الكتب العلمية.

(٤) الصحاح : ٢ / ٥٧٥.

(٥) سورة القصص : ٦٣.

٦

(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ) تخوضون. (فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢))

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) بديعا مثل نصف ونصيف ، من الرسل ، لست بأوّل مرسل ، فلم تنكرون نبوّتي؟ هل أنا إلّا كالأنبياء قبلي؟ وجمع البدع : أبداع ، قال عدي بن زيد :

فلا أنا بدع من حوادث تعتري

رجالا عرت من بعد بؤسي وأسعدي (١)

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) اختلف العلماء في معنى هذه الآية وحكمها ، فقال بعضهم : معناها (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) يوم القيامة. فلمّا نزلت هذه الآية فرح المشركون فرحا شديدا ، وقالوا : واللات والعزّى ما أمرنا وأمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الله إلّا واحد ، وما له علينا من مزية وفضل ، ولو لا إنّه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به. فأنزل الله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (٢).

فبيّن له أمره ونسخت هذه الآية ، فقالت الصحابة : هنيئا لك يا نبيّ الله ، قد علمنا ما يفعل بك ، فما ذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٣) الآية. وأنزل (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) (٤) فبيّن الله تعالى ما يفعل به وبهم. وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة.

أخبرني الحسين بن محمّد بن الحسين الدينوري ، حدّثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السني ، حدّثنا إسماعيل بن داود ، حدّثنا هارون بن سعيد ، حدّثنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن أبي شهاب إنّ خارجة بن زيد بن ثابت أخبره أنّ أمّ العلاء ـ امرأة من الأنصار قد بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبرته أنّهم اقتسموا والمهاجرين سكناهم قرعة.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٢٦ / ٨.

(٢) سورة الفتح : ٢.

(٣) سورة الفتح : ٥.

(٤) سورة الأحزاب : ٤٧.

٧

قالت : فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه أبياتنا موضعه الّذي توفي فيه ، فلمّا توفي غسّل وكفّن في أثوابه ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت لعثمان بن مظعون : رحمة الله عليك أبا السائب ، لقد أكرمك الله ، فقال رسول الله : «وما يدريك إنّ الله تعالى (١) أكرمه».

قالت : فقلت : بأبي أنت وأمي لا أدري. قال : «أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلّا خيرا. فو الله إنّي لأرجو له الجنّة ، فو الله ما أدري ـ وأنا رسول الله ـ ما ذا يفعل بي» [٢] (٢). قالت : فو الله لا أزكّي بعده أحدا.

قالوا : وإنّما قال هذا حين لم يخبر بغفران ذنبه ، وإنّما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بسنتين وشيء ، وقال ابن عبّاس : لمّا اشتدّ البلاء بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رسول الله فيما يرى النائم وهو بمكّة أرضا ذات سباخ ونخل رفعت له ، يهاجر إليها.

فقال له أصحابه وهم بمكّه : إلى متى نكون في هذا البلاء الّذي نحن فيه؟ ومتى نهاجر إلى الأرض التي أريت. فسكت.

فأنزل الله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أترك في مكاني أو أخرج إلى الأرض التي رفعت لي ، وقال بعضهم : معناها : ولا أدري (ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) ، إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدّنيا؟

أنبأني عقيل بن محمّد ، أخبرنا المعافى بن زكريا ، أخبرنا محمّد بن جرير ، أخبرنا ابن حميد ، حدّثنا يحيى بن واضح ، حدّثنا أبو بكر الهذل ، عن الحسن. في قوله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) ، فقال : أمّا في الآخرة فمعاذ الله قد علم إنّه في الجنّة حين أخذ ميثاقه في الرسل ، ولكن قال : (ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) في الدّنيا ، أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم ، أمّتي المكذّبة أم المصدّقة ، أم أمّتي المرميّة بالحجارة من السّماء قذفا أم مخسوف بها خسفا.

ثمّ أنزل الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٣). يقول : سيظهر دينكم على الأديان. ثمّ قال في أمّته : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٤) فأخبره الله تعالى ما يصنع به وبأمّته. وهذا قول السدي واليماني ، وقال الضحّاك : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي ما تؤمرون وما تنهون عنه.

__________________

(١) غير موجودة في المصدر.

(٢) مسند أحمد : ٦ / ٤٣٦ ؛ صحيح البخاري : ٢ / ٧١ ، اختلاف في اللفظ.

(٣) سورة الفتح : ٢٨.

(٤) سورة الأنفال : ٣٣.

٨

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ).

قال قتادة والضحاك وابن زيد : هو عبد الله بن سلام شهد على نبوّة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) اليهود ، فلم يؤمنوا.

أخبرنا عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمّد بن يحيى ، أخبرنا عبدوس بن الحسين بن منصور ، حدّثنا محمّد بن إدريس يعني الحنظلي ، وأخبرنا عبد الله بن حامد ، حدّثنا أبو جعفر محمّد بن محمّد بن عبد الله البغدادي ، حدّثنا إسماعيل بن محمّد بن إسحاق ، حدّثنا عمر بن محمّد بن عبد الله الأنصاري.

حدّثني حميد الطويل ، عن أنس ، قال : جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقدمه المدينة ، فقال : إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبي ، ما أوّل أشراط السّاعة؟ ، وما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة؟ ، والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟.

قال : «أخبرني جبريل بهنّ آنفا» قال عبد الله : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة.

قال : «أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة مرارة (١) كبد حوت ، فأمّا الولد ، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت الولد» [٣] (٢).

فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّك رسول الله. ثمّ قال : يا رسول الله إنّ اليهود قوم بهت ، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسائلهم عنّي بهتوا عليّ عندك ، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي رجل عبد الله فيكم؟» قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيّدنا وابن سيّدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال : «أرأيتم إن أسلم عبد الله». قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله.

فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله. قالوا : شرّنا وابن شرّنا.

وانتقصوه ، قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر.

ودليل هذا التأويل أنبأني عقيل بن محمّد أنّ المعافى بن زكريا أخبرهم ، عن محمّد بن جرير ، أخبرنا يونس ، أخبرنا عبد الله بن يوسف السبكي قال : سمعت مالك بن أنس يحدّث ، عن أبي النضر ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال : ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض : إنّه من أهل الجنّة ، إلّا لعبد الله بن سلام [٤] (٣).

__________________

(١) في المصدر زيادة.

(٢) مسند أحمد : ٣ / ١٨٩.

(٣) مجمع البحرين : ٢ / ٥٥١.

٩

قال : وفيه نزلت (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ).

وقال آخرون : هو موسى بن عمران عليه‌السلام.

وروى الشعبي ، عن مسروق في هذه الآية ، قال : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأنّ لـ (حم) نزلت بمكّة ، وإنّما أسلم عبد الله بالمدينة ، وإنّما كانت محاجّة من رسول الله لقومه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ومثل القرآن التوراة ، فشهد موسى على التوراة ، ومحمّد على القرآن ، وكلاهما مصدّق أحدهما الآخر ، وقيل : هو ابن يامين.

وقيل : هو نبي من بني إسرائيل (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) فلم يؤمنوا.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لدينه وحجّته ، وقال أهل المعاني : هذه الآية محذوفة الجواب مجازها (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) من المحقّ منّا ومنكم ، ومن المبطل؟ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من اليهود. (لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ) دين محمّد (خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) يعني عبد الله بن سلام وأصحابه ، قاله أكثر المفسّرين ، وقال قتادة : نزلت هذه الآية في ناس من مشركي قريش ، قالوا : لو كان ما يدعونا إليه محمّد خيرا ما سبقنا إليه فلان ، وفلان (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) (١).

وقال الكلبي : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أسدا وغطفان (لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعني جهينة ومزينة. (لَوْ كانَ) ما جاء به محمّد (خَيْراً) ما سبقنا إليه رعاء البهم ورذال الناس.

قال الله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أي بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان. (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) كما قالوا : أساطير الأوّلين. (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي ومن قبل القرآن.

(كِتابُ مُوسى إِماماً) يؤتم به. (وَرَحْمَةً) لمن آمن وعمل به ، ونصبا على الحال ، عن الكسائي ، وقال أبو عبيدة : فيه إضمار أي أنزلناه أو جعلناه إماما ورحمة. الأخفش على القطع لأنّ قوله : (كِتابُ مُوسى) معرفة بالإضافة ، والنكرة إذا أعيدت وأضيفت أو أدخلت عليها الألف واللام ، صارت معرفة.

(وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) نصب على الحال ، وقيل : أعني لسانا. وقيل : بلسان.

(لِيُنْذِرَ) (بالتاء) مدني وشامي ويعقوب وأيوب ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم على خطاب النبي عليه‌السلام ، وقرأ الباقون (بالياء) على الخبر عنه. وقيل : عن الكتاب.

(الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والمعصية. (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) وجهان من الإعراب :

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٥.

١٠

الرفع على العطف على الكتاب مجازه (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) وبشرى ، والنصب على معنى لتنذر الّذين ظلموا أو تبشّر. فلمّا جعل مكان وتبشر (وَبُشْرى) أو وبشارة نصب كما يقال : أتيتك لأزورك وكرامة لك ، وقضاء حقّك يعني لأزورك وأكرمك وأقضي حقّك ، فنصبت الكرامة والقضاء بفعل مضمر.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥))

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) قرأ العامّة : «حُسْناً» بدون ألف ، وقرأ أهل الكوفة : (إِحْساناً) وهي قراءة ابن عبّاس (١).

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) بكره ومشقّة. (وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) وفطامه ، وقرأ الحسن

__________________

(١) قيل : في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام «حُسْناً» وحجّتهم قوله تعالى في العنكبوت : ٨ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) ، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء : «حَسَناً» بفتح الحاء والسين ، وأما حجّة العامة فقوله تعالى في سورة الأنعام (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وهي في مصاحف أهل الكوفة ، (راجع زاد المسير : ٦ / ١٢١ ، وتفسير القرطبي : ١٦ / ١٩٢) أقول : في مصاحف المسلمين هذا الزمان (إِحْساناً) وحجتنا قوله تعالى (وَلا تَفَرَّقُوا).

١١

ويعقوب : «وفصله» بغير ألف. (ثَلاثُونَ شَهْراً) قال المفسّرون : حمله ستّة أشهر ورضاعه أربعة وعشرون شهرا.

وقال ابن إسحاق : حمله تسعة أشهر وفصاله من اللبن لأحد وعشرين شهرا.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) نهاية قوّته وقامته وغاية شبابه واستوائه وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة ، فذلك قوله تعالى : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) قال السدي والضحاك : نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقّاص. وقد مضت القصة ، وقال الآخرون : نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرة ، وأمّه أمّ الخير بنت صخر بن عمرو بن عامر ، فلمّا بلغ أبو بكر أربعين سنة آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال لربّه : (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه ، حدّثنا إسحاق بن صدقة ، حدّثنا عبد الله بن هاشم ، عن سيف بن عمر ، عن عطية ، عن أبي أيّوب ، عن علي رضي‌الله‌عنه في قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) نزلت في أبي بكر ، أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من أصحاب رسول الله [من] المهاجرين [أسلم] أبواه غيره ، أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده.

(قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) ألهمني وأوسعني. (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أن تجعلهم مؤمنين صالحين. قالوا : فأجاب الله تعالى أبا بكر في أولاده فأسلموا ، ولم يكن أحد من الصحابة أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته إلّا أبو بكر رضي‌الله‌عنه.

(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) يعني أعمالهم الصالحة فيثيبهم عليها.

(وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) فلا يعاقبهم بها. (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي مع أصحاب الجنّة ، و (فِي) بمعنى مع (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) وهو قوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (١) (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) إذا دعوه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث والجزاء. (أُفٍّ لَكُما) وهي كلمة كراهية.

(أَتَعِدانِنِي) قراءة العامة (بنونين) حقيقيتين ، وروى أهل الشام (بنون) واحدة مشدّدة (أَنْ أُخْرَجَ) من قبري حيّا بعد فنائي وبلائي. (وَقَدْ خَلَتِ) مضت (الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) فلم يبعث منهم أحد. وقرأ الحسن والأعمش وأبو معمر أَنْ أَخْرُجَ بفتح وضم (الراء).

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يستصرخان الله ويستغيثانه عليه ويقولان له : (وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ

__________________

(١) سورة التوبة : ٧٢.

١٢

اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا) الذي تعدانني وتدعوانني إليه. (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قال ابن عبّاس وأبو العالية والسدي ومجاهد : نزلت هذه الآية في عبد الله. وقيل : في عبد الرّحمن بن أبي بكر الصدّيق. قال له أبواه : أسلم وألحّا عليه في دعائه إلى الإيمان. فقال : أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتّى أسألهم عمّا يقولون.

قال محمّد بن زياد : كتب معاوية إلى مروان حتّى يبايع الناس ليزيد ، فقال عبد الرّحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية ، أتبايعون لأبنائكم؟

فقال مروان : هذا الذي يقول الله تعالى فيه : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي) ... الآية. فسمعت عائشة رضي‌الله‌عنها بذلك فغضبت ، وقالت : والله ما هي به ، ولو شئت لسمّيته ولكنّ الله لعن أباك وأنت في صلبه فأنت نضض (١) من لعنة الله.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) وجب عليهم العذاب. قالوا : يعني الّذين أشار عليهم ابن أبي بكر ، وقال أحيوهم إليّ ، هم الّذين حقّ عليهم القول ، وهم الماضون بقوله : (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) ، فإمّا ابن أبي بكر فقد أجاب الله تعالى فيه دعاء أبيه بقوله : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) فأسلم وحسن إسلامه.

وقال الحسن وقتادة : هذه الآية مرسلة عامة ، وهي نعت عبد كافر فاجر عاق لوالديه. (فِي أُمَمٍ) مع أمم. (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ * وَلِكُلٍ) واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين.

(دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بإعمالهم فيجازيهم عليها ، وقال ابن زيد : في هذه الآية درج أهل النار تذهب سفالا ، ودرج أهل الجنّة تذهب علوّا.

(وَلِيُوَفِّيَهُمْ) أجورهم (بالياء) مكي وبصري وهشام ، والباقون (بالنون).

(أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) فيقال لهم : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) قرأ أبو جعفر وابن كثير ويعقوب (أذهبتم طيباتكم) بالاستفهام ، واختلف فيه عن أهل الشام ، وغيرهم بالخبر ، وهما صحيحتان فصيحتان لأنّ العرب تستفهم بالتوبيخ وتترك الاستفهام فيه. فتقول : أذهبت ففعلت كذا وكذا؟ ، وذهبت ففعلت وفعلت؟ (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أخبرنا ابن محمّد بن الحسين بن منجويه ، حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله ، حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم الكرابيسي ، حدّثنا حميد بن الربيع ، حدّثنا أبو معمر ،

__________________

(١) كذا في المخطوط.

١٣

حدّثنا عبد الوارث ، حدّثنا محمّد بن حجارة ، عن حميد الشامي ، عن سليمان ، عن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : كان رسول الله إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله وأوّل من يدخل عليه إذا قدم فاطمة عليها‌السلام.

فلمّا قدم من غزوة فأتاها فإذا لمح وقيل : لمح على بابها ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضّة ، فرجع ولم يدخل عليها ، فلمّا رأت ذلك فاطمة ظنّت إنّه لم يدخل عليها من أجل ما رأى ، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصّبيين ، فقطعتهما ، فبكى الصبيّان ، فقسمته بينهما نصفين ، فانطلقا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما يبكيان ، فأخذه رسول الله منهما ، وقال : «يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان ـ أهل بيت بالمدينة ـ واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج» قال : «فإنّ هؤلاء أهل بيتي ولا أحبّ أن يأكلوا طيّباتهم في الحياة الدّنيا» [٥] (١).

أنبأني عقيل بن محمّد ، قال : أخبرنا المعافى بن زكريا ، أخبرنا محمّد بن جرير ، حدّثنا كثير ، حدّثنا يزيد ، حدّثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدّثنا صاحب لنا ، عن أبي هريرة ، قال : إنّما كان طعامنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأسودان : الماء ، والتمر ، والله ما كنا نرى سمراكم هذه ولا ندري ما هي. وبه عن قتادة ، عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس الأشعري ، عن أبيه ، قال : أي بني لو شهدتنا ونحن مع نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أصابتنا السماء حسبت إنّ ريحنا ريح الضأن ، إنّما كان لباسنا الصوف.

وبه عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنّ عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه كان يقول : لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا ، ولكنّي أستبقي طيباتي. وذكر لنا أنّه لما قدم الشام صنع له طعام لم ير قبله مثله. قال : هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟! قال خالد ابن الوليد : لهم الجنّة. فاغرورقت عينا عمر ، وقال : لئن كان حظّنا في الحطام وذهبوا فيما أرى أنا بالجنّة لقد باينونا بونا بعيدا. وذكر لنا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على أهل الصفة ، مكانا يجتمع فيه فقراء المسلمين ـ وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا.

قال : أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ، ويستر بيته كما يستر الكعبة؟ قالوا : نحن يومئذ خير.

أخبرنا الحسين بن منجويه ، حدّثنا محمّد بن أحمد بن نصرويه ، حدّثنا أبو العبّاس أحمد ابن موسى الجوهري ، حدّثنا علي بن سهل الرملي ، حدّثنا الوليد بن مسلم ، حدّثني رزق أبو الهذيل ، حدّثني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عبّاس ، عن عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه أنّه حدّثه أنّه دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين هجر نساءه فوافاه على سرير رميل ، يعني مرمولا مشدودا ، قد أثّر الحصير في جنبه ، متوسّد وسادة من أدم محشوة ليف.

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٢٧٥ ؛ الدر المنثور : ٦ / ٤٣.

١٤

فقال عمر : والتفتّ في البيت فو الله ما رأيت شيئا يردّ البصر إلّا أهب ـ يعني جلدا معطوبة ـ قد سطع ريحها ، فبكيت ، فقلت : يا رسول الله أنت رسول الله وخيرته ، فيما أرى وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟! فاستوى رسول الله جالسا ، وقال : «أوفي شك أنت يا ابن الخطّاب؟» «أولئك قوم عجلت لهم طيّباتهم في حياتهم الدّنيا» [٦] (١).

أخبرنا ابن منجويه الدينوري ، حدّثنا عبيد الله بن محمّد بن عتبة ، حدّثنا الفرماني ، حدّثنا أبو أمية الواسطي ، حدّثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا مبارك بن فضالة ، حدّثنا حفص بن أبي العاص ، قال : كنت أتغدى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتغدينا الخبز والزيت والخل ، والخبز واللبن ، والخبز والقديد ، وأقلّ ذلك اللحم العريض ، وكان يقول : «لا تنخلوا الدقيق فإنّه كلّه طعام» [٧].

فيجيء بخبز منقلع غليظ ، فجعل يأكل ويقول لنا : كلوا. فجعلنا نعتذر ، فقال : ما لكم لا تأكلون؟! فقلت : لا نأكله والله يا أمير المؤمنين ، نرجع إلى طعام ألين من طعامك.

قال : بخ يا بن أبي العاص ، ألا ترى أنّي عالم بأن آمر بدقيق أن ينخل بخرقة فيخبز في كذا ، وكذا؟ أما ترى أنّي عالم إنّ آمر إلى عناق سمينة فيلقى عنها شعرها ، ثمّ تخرج صلاء كأنّه كذا وكذا؟ أما ترى أنّي عالم أن أعمل إليّ صاع أو صاعين من زبيب فاجعله في سقاء ثمّ أرش عليه من الماء فيطبخ كأنّه دم غزال؟

قال : قلت : والله يا أمير المؤمنين إني لأراك عالما بطيب العيش ، فقال عمر : أجل ، والله الذي لا إله إلّا هو لو لا إنّي أخاف أن ينقص من حسناتي يوم القيامة لشاركتكم في العيش ، ولكنّي سمعت الله يقول لقوم : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) (٢).

أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عبد الله بن يوسف ، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز ، حدّثنا محمّد بن بكار الريان ، حدّثنا أبو معشر ، عن محمّد بن قيس ، عن جابر بن عبد الله. قال : اشتهى أهلي لحما ، فمررت بعمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه ، فقال : ما هذا يا جابر؟ فقلت : أشتهى أهلي لحما ، فاشتريت لحما بدرهم. فقال : أوكلّما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه؟ أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا)؟ أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا محمّد بن الحسين ، حدّثنا بشر ، حدّثنا ابن أبي الخصيب ، أخبرني أحمد بن محمّد بن أبي موسى ، حدّثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدّثنا أبي ، قال : قال وهب بن الورد : خلق ابن آدم والخبز معه ، فما زاد على الخبز ينمو شهوة. قال : فحدّثت به أبا سليمان. فقال : صدق ، الملح مع الخبز شهوة.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) يعني هود عليه‌السلام.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٣٤.

(٢) كنز العمال : ١٢ / ٦٢٤ ح ٣٥٩٢٤.

١٥

(إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) قال ابن عبّاس : الأحقاف واد بين عمان ومهرة. مقاتل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له : مهرة إليها تنسب الجمال ، فيقال : إبل مهرية ومهاري ، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا من قبيلة إرم.

وقال الضحّاك : الأحقاف جبل بالشام. مجاهد : هي أرض جساق من حسمى. قتادة : ذكر لنا أنّ عادا كانوا حيّا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها : الشحر. ابن زيد : هي ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا (١).

الكلبي : الأحقاف ما نضب عنه الماء زمان الغرق ، كان ينضب الماء من الأرض ويبقى أثره. الخليل : هي الرمال العظام. الكسائي : هي ما استدار من الرمل ، وواحدها حقف وحقاف ، مثل دبغ ودباغ ، ولبس ولباس. وقيل : الحقاف جمع الحقف ، والأحقاف جمع الجمع.

ونظير حقف أحقاف شبر وأشبار. قال الأعشى :

فبات إلى أرطاة حقف تلفّه

حريق شمال يترك الوجه أقتما (٢)

وقال : بنا بطن حرّى ذي حقاف عقنقل. ويقال : حقف أحقف أي رمل متناه في الاستدار.

قال العجاج :بات إلى إرطاة حقف أحقفا ، والفعل منه أحقف. قال الراجز : سماوة الهلال حتّى احقوقفا. أي انحنى واستدار.

(وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) مضت الرسل. (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي قبل هود. (وَمِنْ خَلْفِهِ) وهي في قراءة عبد الله ومن بعده. (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) لتصرفنا. (عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ) بوقت مجيء العذاب.

(عِنْدَ اللهِ) لا عندي وإنّما أنا مبلّغ. (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ) يعني العذاب. (عارِضاً) نصب على الحال ، وإن شئت بالتكرير أي رأوه عارضا وهو السحاب ، سمّي بذلك لأنّه يعرض أي يبدو في عرض السماء.

قال مجاهد : استعرض بهم الوادي. قال الأعشى :

يا من يرى عارضا قد بتّ أرمقه

كإنّما البرق في حافاته الشعل (٣)

قال المفسّرون : ساق الله تعالى السحابة السوداء التي اختار قيل بن عنز رأسه وقد عاد بما

__________________

(١) راجع تفسير الدر المنثور : ٦ / ٤٣ مورد الآية.

(٢) تفسير الطبري : ٢٦ / ٢٩.

(٣) جامع البيان للطبري : ٢٦ / ٣٣.

١٦

فيها من النقمة إلى عاد فخرجت عليهم من واد لهم يقال له : المغيث. وكانوا قد حبس عنهم المطر أيّاما ، فلمّا رأوها.

[(قالُوا : هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) حتى عرفت أنها ريح امرأة منهم يقال لها مهدر فصاحت وصعقت ، فلمّا أفاقت قيل لها : ما رأيت؟ قالت : ريحا فيها كشهب النار] (١).

(مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) استبشروا بها.

(قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) يقول الله تعالى : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) فجعلت تحمل الفسطاط ، وتحمل الظعينة ، فترفعها حتّى ترى كأنّها جرادة.

أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه ، حدّثنا عبيد الله بن أحمد بن منصور الكسائي ، حدّثنا الحارث بن عبد الله ، حدّثنا هشيم ، عن جويبر ، حدّثنا أبو داود الأعمى ، عن ابن عبّاس في قول الله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) الآية ، قال : لمّا دنا العارض قاموا فمدّوا أيديهم ، فأوّل ما عرفوا أنّها عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم ، من رحالهم ، ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، مثل الرشا ، قالوا : فدخلوا بيوتهم ، وأغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح فغلّقت أبوابهم وصرعتهم ، وأمر الله تعالى الريح فأهالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل (سَبْعَ لَيالٍ ، وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) لهم أنين ، ثمّ أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال ثمّ أمرها فاحتملتهم ، فرمت بهم في البحر.

فهم الذين يقول الله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) مرّت به من رجال عاد وأموالها بأذن ربّها.

أخبرنا ابن منجويه ، حدّثنا عمر بن الخطّاب ، حدّثنا عبد الله بن الفضل ، حدّثنا أبو هشام ، حدّثنا حفص ، عن ابن جريح ، عن عطاء ، عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأى الريح فزع ، وقال : «اللهم إنّي أسألك خيرها وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرّها وشر ما فيها ، وشرّ ما أرسلت به» [٨] (٢).

فإذا رأى مخيلة قام ، وقعد ، وجاء ، وذهب ، وتغيّر لونه ، فنقول : يا رسول الله ، فيقول : «إنّي أخاف أن يكون مثل قوم عاد ، حيث (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا)» [٩] (٣).

(فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) قرأ الحسن (لا تُرى) بتاء مضمومة (إِلَّا مَساكِنُهُمْ) برفع (النون). ومثله روى شعيب بن أيّوب ، عن يحيى بن آدم ، عن أبي بكر بن عيّاش ، عن عاصم.

قال أبو حاتم : هذا لا يستقيم في اللغة إلّا إن أوّل فيه إضمار كما تقول في الكلام : لا ترى

__________________

(١) تفسير الثعالبي : ٣ / ٤٦ مورد الآية ؛ وتفسير ابن كثير : ٢ / ٢٣٥ ؛ وتفسير الطبري : ٨ / ٢٨٥.

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ٢٦ ؛ السنن الكبرى ٣ / ٣٦٠.

(٣) المصدر السابق.

١٧

النساء إلّا زينب ، ولا يجوز لا ترى إلّا زينب ، وقال سيبويه : معناه (لا ترى) أشخاصهم. (إِلَّا مَساكِنُهُمْ) وأجرى الفرّاء هذه الآية على الاستكراه ، وذكر أنّ المفضل أنشده :

نارنا لم تر نارا مثلها

قد علمت ذاك معدّ كرما (١)

فأنّث فعل مثل لأنّه للنّار ، قال : وأجود الكلام أن يقول : لم تر مثلها نار.

وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة ويعقوب وخلف (بياء) مضمومة (مَساكِنُهُمْ) رفعا واختاره أبو عبيدة رفعا وأبو حاتم. قال الكسائي : معناه (لا يُرى) شيء (إِلَّا مَساكِنُهُمْ).

وقال الفرّاء : لا يرى الناس لأنّهم كانوا تحت الرمل ، فإنّما يرى مساكنهم لأنّها قائمة.

وقرأ الباقون (تَرى) (بتاء) مفتوحة (مساكنَهم) نصبا على معنى (لا ترى) يا محمّد (إلّا مساكنَهم).

(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي فيما لا يمكنكم فيه من بسطة الأجسام ، وقوّة الأبدان ، وطول العمر ، وكثرة المال.

(وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ) يا أهل مكّة.

(مِنَ الْقُرى) كحجر ثمود ، وأرض سدوم ونحوهما.

(وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) الحجج والبيّنات وأنواع العبر والعظات (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن كفرهم ، فلم يرجعوا ، فأهلكناهم ، يخوّف مشركي قريش. (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢٦ / ٣٦.

١٨

اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) يعني الأوثان ، قال الكسائي : القربان كلّ ما يتقرّب به إلى الله تعالى من طاعة ، ونسكة ، والجمع قرابين ، كالرهبان والرهابين.

(بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) أي كذبهم الذي كانوا يقولون : إنّها تقرّبهم إلى الله تعالى ، وتشفع لهم عنده. وقرأ ابن عبّاس وابن الزبير ذلِكَ إَفَكَهُمْ بفتح (الألف) و (الفاء) على الفعل ، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. وقرأ عكرمة إَفَّكَهُمْ بتشديد (الفاء) على التأكيد والتفسير. قال أبو حاتم : يعني قلبهم عمّا كانوا عليه من النعيم. ودليل قراءة العامّة قوله : (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ).

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) الآية. قال المفسّرون : لمّا مات أبو طالب خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده إلى الطائف يلتمس ثقيف النصرة ، والمنعة له من قومه ، فروى محمّد بن أحمد عن يزيد بن زياد عن محمّد بن كعب القرظي ، قال : لمّا انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده إلى الطائف ، عمد إلى نفر من ثقيف ، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم اخوة ثلاثة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب ، بنو عمر بن عمير ، عندهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم ، فدعاهم إلى الله تعالى وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه.

فقال أحدهم ، هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله تعالى أرسلك ، وقال الآخر : أما وجد الله أحد يرسله غيرك؟ وقال الثالث : والله لا أكلّمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول ، لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلّمك.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف ، وقال لهم : «إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموه» [١٠].

وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه فيديرهم عليه ذلك ، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم ، وعبيدهم يسبّونه ، ويصيحون به ، حتّى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة ، وشيبة ابني ربيعة ، هما فيه ، ورجع عنه سفهاء ثقيف.

ولقد لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك المرأة من بني جمح ، فقال لها : «ماذا لقينا من أحمائك؟».

فلمّا اطمئن رسول الله ، قال : «اللهم إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي ، وقلّة حيلتي ، وهواني على النّاس ، أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين ، وأنت ربّي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدوّ ملّكته أمري. إن لم يكن بك عليّ غضب ، فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع ، وأعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك ، ويحلّ عليّ سخطك ، لك العتبى حتّى ترضى ، لا حول ، ولا قوّة إلّا بك» [١١] (١).

__________________

(١) البداية والنهاية : ٣ / ١٦٦.

١٩

فلمّا رأى أبناء ربيعة ما لقي تحرّكت له رحمهما ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا ، يقال له : عداس. فقالا له : خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ، ثمّ اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه ، ففعل عداس ثمّ أقبل به حتّى وضعه بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا وضع رسول الله يده ، قال : «بسم الله».

ثمّ أكل ، فنظر عداس إلى وجهه ، ثمّ قال : والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. قال له رسول الله : «ومن أي أهل البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟». قال : أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.

فقال له رسول الله : «من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى». قال له : وما يدريك ما يونس بن متّى؟! قال له رسول الله : «ذاك أخي ، كان نبيّا وأنا نبيّ». فأكبّ عداس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقبّل رأسه ، ويديه ، ورجليه [١٢] (١).

قال : فيقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه ، أما غلامك فقد أفسده عليك. فلمّا جاءهم عداس ، قالا له : ويلك يا عداس ما لك تقبّل رأس هذا الرجل ، ويديه ، ورجليه؟! قال : يا سيّدي ما في الأرض خير من هذا ، لقد خبّرني بأمر ما يعلمه إلّا نبي. فقال : ويحك يا عداس لا يصرفنّك عن دينك ، فإنّ دينك خير من دينه.

ثمّ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكّة حتّى يئس من خير ثقيف ، حتّى إذا كان بنخلة ، قام من جوف الليل يصلّي ، فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين اليمن ، وكان سبب ذلك أنّ الجنّ كانت تسترق السمع ، فلمّا حرست السماء ورجموا بالشهب. قال إبليس : إنّ هذا الذي حدث في السماء لشيء في الأرض ، فبعث سراياه لتعرف الخبر ، فكان أوّل بعث بعث ركب من أهل نصيبين وهم أشراف الجنّ وساداتهم ، فبعثهم إلى تهامة ، فاندفعوا حتّى بلغوا وادي نخلة ، فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه يصلّي صلاة الغداة ، ببطن نخلة ويتلو القرآن ، فاستمعوا إليه ، و (قالُوا : أَنْصِتُوا). هذا معنى قول سعيد بن جبير وجماعة من أئمّة الخبر ، ورواية العوفي عن ابن عباس ، وقال آخرون : بل أمر رسول الله أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى ، ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه (نَفَراً مِنَ الْجِنِ) من نينوى وجمعهم له ، فقال رسول الله : «إنّي أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فأيّكم يتبعني؟» فأطرقوا ثمّ استتبعهم فأطرقوا ، ثمّ استتبعهم الثالثة ، فاتبعه عبد الله بن مسعود ، قال عبد الله : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة دخل نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شعبا يقال له : شعب الحجون وخط إليّ خطّا ، ثمّ أمرني أن أجلس فيه.

قال : «لا تخرج منه حتّى أعود إليك». ثمّ انطلق حتّى قام وافتتح القرآن فجعلت أرى أمثال

__________________

(١) البداية والنهاية : ٣ / ١٦٧.

٢٠