الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٠٨

دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ـ ١٤. )

( بيان )

احتجاجات على وحدانيته تعالى في ألوهيته بعد جملة من النعم السماوية والأرضية التي يتنعم بها الإنسان ولا خالق لها ولا مدبر لأمرها إلا الله سبحانه ، وفيها بعض الإشارة إلى البعث.

قوله تعالى : « وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ » إلخ.

العناية في المقام بتحقق وقوع الأمطار وإنبات النبات بها ، ولذلك قال : « اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ » وهذا بخلاف ما في سورة الروم من قوله : « اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً » الروم : ـ ٤٨.

وقوله : « فَتُثِيرُ سَحاباً » عطف على « أَرْسَلَ » والضمير للرياح والإتيان بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية والإثارة إفعال من ثار الغبار يثور ثورانا إذا انتشر ساطعا.

وقوله : « فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ » أي إلى أرض لا نبات فيها « فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها » وأنبتنا فيها نباتا بعد ما لم تكن ، ونسبة الإحياء إلى الأرض وإن كانت مجازية لكن نسبته إلى النبات حقيقية وأعمال النبات من التغذية والنمو وتوليد المثل وما يتعلق بذلك أعمال حيوية تنبعث من أصل الحياة.

ولذلك شبه البعث وإحياء الأموات بعد موتهم بإحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات بعد توقفه عن العمل وركوده في الشتاء فقال : « كَذلِكَ النُّشُورُ » أي البعث فالنشور بسط الأموات يوم القيامة بعد إحيائهم وإخراجهم من القبور.

وفي قوله : « فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ » إلخ. التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير فهو تعالى في قوله : « وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ » بنعت الغيبة وفي قوله : « فَسُقْناهُ » إلخ. بنعت التكلم مع الغير ولعل النكتة في ذلك هي أنه لما قال : « وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ » أخذ لنفسه نعت

٢١

الغيبة ويتبعه فيه الإرسال فإن فعل الغائب غائب ، ثم لما قال : « فَتُثِيرُ سَحاباً » على نحو حكاية الحال الماضية صار المخاطب كأنه يرى الفعل ويشاهد الرياح وهي تثير السحاب وتنشره في الجو فصار كأنه يرى من يرسل الرياح لأن مشاهدة الفعل كادت أن لا تنفك عن مشاهدة الفاعل فلما ظهر تعالى بنعت الحضور غير سياق كلامه من الغيبة إلى التكلم واختار لفظ التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.

وقوله : « فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ » ولم يقل : فأحييناه مع كفايته وكذا قوله : « بَعْدَ مَوْتِها » مع جواز الاكتفاء بما تقدمه للأخذ بصريح القول الذي لا ارتياب دونه.

قوله تعالى : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً » قال الراغب في المفردات : العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم : أرض عزاز أي صلبة قال تعالى : « أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً » انتهى.

فالصلابة هو الأصل في معنى العزة ثم توسع فاستعمل العزيز فيمن يقهر ولا يقهر كقوله تعالى : « يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا » يوسف : ـ ٨٨. وكذا العزة بمعنى الغلبة قال تعالى : « وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ » صلى‌الله‌عليه‌وآله : ـ ٢٣ والعزة بمعنى القلة وصعوبة المنال ، قال تعالى : « وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ » حم السجدة : ـ ٤١ والعزة بمعنى مطلق الصعوبة قال تعالى : « عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ » التوبة : ـ ١٢٨ : « والعزة بمعنى الأنفة والحمية قال تعالى ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ » ـ ص : ـ ٢ إلى غير ذلك.

ثم إن العزة بمعنى كون الشيء قاهرا غير مقهور أو غالبا غير مغلوب تختص بحقيقة معناها بالله عز وجل إذ غيره تعالى فقير في ذاته ذليل في نفسه لا يملك لنفسه شيئا إلا أن يرحمه الله ويؤتيه شيئا من العزة كما فعل ذلك بالمؤمنين به قال تعالى : « وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ » المنافقون : ـ ٨.

وبذلك يظهر أن قوله : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً » ليس بمسوق لبيان اختصاص العزة بالله بحيث لا ينالها غيره وأن من أرادها فقد طلب محالا وأراد ما لا يكون بل المعنى من كان يريد العزة فليطلبها منه تعالى لأن العزة له جميعا لا توجد عند غيره بالذات.

فوضع قوله : « فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً » في جزاء الشرط من قبيل وضع السبب موضع

٢٢

المسبب وهو طلبها من عنده أي اكتسابها منه بالعبودية التي لا تحصل إلا بالإيمان والعمل الصالح.

قوله تعالى : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » الكلم ـ كما قيل ـ اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث ، وقال في المجمع : والكلم جمع كلمة يقال؟ هذا كلم وهذه كلم فيذكر ويؤنث ، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء يجوز فيه التذكير والتأنيث انتهى.

والمراد بالكلم على أي حال ما يفيد معنى تاما كلاميا ويشهد به توصيفه بالطيب فطيب الكلم هو ملاءمته لنفس سامعه ومتكلمه بحيث تنبسط منه وتستلذه وتستكمل به وذلك إنما يكون بإفادته معنى حقا فيه سعادة النفس وفلاحها.

وبذلك يظهر أن المراد به ليس مجرد اللفظ بل بما أن له معنى طيبا فالمراد به الاعتقادات الحقة التي يسعد الإنسان بالإذعان لها وبناء عمله عليها والمتيقن منها كلمة التوحيد التي يرجع إليها سائر الاعتقادات الحقة وهي المشمولة لقوله تعالى : « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها » إبراهيم : ـ ٢٥ وتسمية الاعتقاد قولا وكلمة أمر شائع بينهم.

وصعود الكلم الطيب إليه تعالى هو تقربه منه تعالى اعتلاء وهو العلي الأعلى رفيع الدرجات ، وإذ كان اعتقادا قائما بمعتقده فتقربه منه تعالى تقرب المعتقد به منه ، وقد فسروا صعود الكلم الطيب بقبوله تعالى له وهو من لوازم المعنى.

ثم إن الاعتقاد والإيمان إذا كان حق الاعتقاد صادقا إلى نفسه صدقه العمل ولم يكذبه أي يصدر عنه العمل على طبقه فالعمل من فروع العلم وآثاره التي لا تنفك عنه ، وكلما تكرر العمل زاد الاعتقاد رسوخا وجلاء وقوي في تأثيره فالعمل الصالح وهو العمل الحري بالقبول الذي طبع عليه بذل العبودية والإخلاص لوجهه الكريم يعين الاعتقاد الحق في ترتب أثره عليه وهو الصعود إليه تعالى وهو المعزى إليه بالرفع فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيب.

فقد تبين بما مر معنى قوله : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » وأن ضمير « إِلَيْهِ » لله سبحانه والمراد بالكلم الطيب الاعتقاد الحق كالتوحيد ، وبصعوده

٢٣

تقربه منه تعالى ، وبالعمل الصالح ما كان على طبق الاعتقاد الحق ويلائمه وأن الفاعل في « يَرْفَعُهُ » ضمير مستكن راجع إلى العمل الصالح وضمير المفعول راجع إلى الكلم الطيب.

ولهم في الآية أقوال أخر :

فقد قيل : إن المراد بصعود الكلم الطيب قبوله والإثابة عليه كما تقدمت الإشارة إليه ، وقيل : المراد صعود الملائكة بما كتب من الإيمان والطاعات إلى الله سبحانه ، وقيل : المراد صعودهم به إلى السماء فسمي الصعود إلى السماء صعودا إلى الله مجازا.

وقيل : إن فاعل « يَرْفَعُهُ » ضمير عائد إلى الكلم الطيب وضمير المفعول للعمل الصالح والمعنى أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح أي أن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا صدر عن التوحيد ، وقيل : فاعل « يَرْفَعُهُ » ضمير مستكن راجع إليه تعالى والمعنى العمل الصالح يرفعه الله.

وجملة هذه الوجوه لا تخلو من بعد والأسبق إلى الذهن ما قدمناه من المعنى.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ » ذكروا أن « السَّيِّئاتِ » وصف قائم مقام موصوف محذوف وهو المكرات ، ووضع اسم الإشارة موضع الضمير في « مَكْرُ أُولئِكَ » للدلالة على أنهم متعينون لا مختلطون بغيرهم والمعنى والذين يمكرون المكرات السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك الماكرين هو يبور ويهلك فلا يستعقب أثرا حيا فيه سعادتهم وعزتهم.

وقد بان أن المراد بالسيئات أنواع المكرات والحيل التي يتخذها المشركون وسائل لكسب العزة ، والآية مطلقة ، وقيل : المراد المكرات التي اتخذتها قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في دار الندوة وغيرها من إثبات أو إخراج أو قتل فرد الله كيدهم إليهم وأخرجهم إلى بدر وقتلهم وأثبتهم في القليب فجمع عليهم الإثبات والإخراج والقتل وهذا وجه حسن لكن الآية مطلقة.

ووجه اتصال ذيل الآية بصدرها أعني اتصال قوله : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ » إلى آخر الآية بقوله : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً » أن المشركين كانوا يعتزون بآلهتهم كما قال تعالى : « وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا » مريم : ـ ٨١ فدعاهم الله سبحانه وهم يطلبون العز إلى نفسه بتذكيرهم أن العزة لله جميعا وبين تعالى ذلك بأن

٢٤

توحيده يصعد إليه والعمل الصالح يرفعه فيكتسب الإنسان بالتقرب منه عزة من منبع العزة وأما الذين يمكرون كل مكر سيئ لاكتساب العزة فلهم عذاب شديد وما مكروه من المكر بائر هالك لا يصعد إلى محل ولا يكسب لهم عزا.

قوله تعالى : « وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً » إلخ. يشير تعالى إلى خلق الإنسان فابتدأ خلقه من تراب وهو المبدأ البعيد الذي تنتهي إليه الخلقة ثم من نطفة وهي مبدأ قريب تتعلق به الخلقة.

وقيل المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن الشيء يضاف إلى أصله وقيل : بل المراد خلق آدم نفسه وقيل : بل المراد خلقهم خلقا إجماليا من تراب في ضمن خلق آدم من تراب والخلق التفصيلي هو من نطفة كما قال : ( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ).

والفرق بين الوجوه الثلاثة أن في الأول نسبة الخلق من تراب إليهم على طريق المجاز العقلي ، وفي الثاني المراد بخلقهم خلق آدم ولا مجاز في النسبة ، وفي الثالث المراد خلق كل واحد من الأفراد من التراب حقيقة من غير مجاز إلا أنه خلق إجمالي لا تفصيلي وبهذا يفارق ما قدمناه من الوجه.

ويمكن تأييد القول الأول بقوله تعالى : « خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ » الرحمن : ـ ١٤ ، والثاني بنحو قوله : « وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ » السجدة : ـ ٨ ، والثالث بقوله : « وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ » الأعراف : ـ ١١ ولكل وجه.

وقوله : « ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً » أي ذكورا وإناثا ، وقيل : أي قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم من بعض ، وهو كما ترى ، وقيل : أي أصنافا وشعوبا. وهو كسابقه.

وقوله : « وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ » من زائدة لتأكيد النفي ، والباء في « بِعِلْمِهِ » للمصاحبة وهو حال من الحمل والوضع ، والمعنى ما تحمل ولا تضع أنثى إلا وعلمه يصاحب حمله ووضعه ، وذكر بعضهم أنه حال من الفاعل وأن كونه حالا من الحمل والوضع وكذا من مفعوليهما أي المحمول والموضوع خلاف الظاهر وهو ممنوع.

٢٥

وقوله : « وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ » أي وما يمد ويزاد في عمر أحد فيكون معمرا ولا ينقص من عمره أي عمر أحد إلا في كتاب.

فقوله : « وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ » من قبيل قوله : « إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً » يوسف : ـ ٢٦ فوضع معمر موضع نائب الفاعل وهو أحد بعناية أنه بعد تعلق التعمير به يصير معمرا وإلا فتعمير المعمر لا معنى له.

وقوله : « وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ » الضمير في « عُمُرِهِ » راجع إلى « مُعَمَّرٍ » باعتبار موصوفه المحذوف وهو أحد والمعنى ولا ينقص من عمر أحد وإلا فنقص عمر المفروض معمرا تناقض خارق للفرض.

وقوله : « إِلَّا فِي كِتابٍ » وهو اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغيير إليه فقد كتب فيه أن فلانا يزاد في عمره كذا لسبب كذا وفلانا ينقص من عمره كذا لسبب كذا وأما كتاب المحو والإثبات فهو مورد التغير وسياق الآية يفيد وصف العلم الثابت ولهم في قوله : « وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ » وجوه أخر ضعيفة لا جدوى في التعرض لها.

وقوله : « إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ » تعليل وتقرير لما في الآية من وصف خلق الإنسان وكيفية إحداثه وإبقائه والمعنى أن هذا التدبير الدقيق المتين المهيمن على كليات الحوادث وجزئياتها المقرر كل شيء في مقره على الله يسير لأنه الله العليم القدير المحيط بكل شيء بعلمه وقدرته فهو تعالى رب الإنسان كما أنه رب كل شيء.

قوله تعالى : « وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ » إلى آخر الآية قيل : العذب من الماء طيبه ، والفرات الماء الذي يكسر العطش أو البارد كما في المجمع ، والسائغ هو الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته والأجاج الذي يحرق لملوحته أو المر.

وقوله : « وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها » اللحم الطري الغض الجديد ، والمراد لحم السمك أو السمك والطير ، البحري والحلية المستخرجة من البحر اللؤلؤ والمرجان والأصداف قال تعالى : « يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ » الرحمن : ـ ٢٢.

وفي الآية تمثيل للمؤمن والكافر بالبحر العذب والمالح يتبين به عدم تساوي المؤمن

٢٦

والكافر في الكمال الفطري وإن تشاركا في غالب الخواص الإنسانية وآثارها فالمؤمن باق على فطرته الأصلية ينال بها سعادة الحياة الدائمة والكافر منحرف فيها متلبس بما لا تستطيبه الفطرة الإنسانية وسيعذب بأعماله فمثلهما مثل البحرين المختلفين عذوبة وملوحة فهما مختلفان من حيث البقاء على فطرة الماء الأصلية وهي العذوبة والخروج عنها بالملوحة وإن اشتركا في بعض الآثار التي ينتفع بها ، فمن كل منهما تأكلون لحما طريا وهو لحم السمك والطير المصطاد من البحر وتستخرجون حلية تلبسونها كاللؤلؤ والمرجان والأصداف.

فظاهر الآية أن الحلية المستخرجة مشتركة بين البحر العذب والبحر المالح لكن جمعا من المفسرين استشكلوا ذلك بأن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من البحر المالح دون العذب ، وقد أجابوا عنه بأجوبة مختلفة.

منها أن الآية مسوقة لبيان اشتراك البحرين في مطلق الفائدة وإن اختص ببعضها كأنه قيل : ومن كل تنتفعون وتستفيدون كما تأكلون منهما لحما طريا وتستخرجون من البحر المالح حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر.

ومنها أنه شبه المؤمن والكافر بالعذب والأجاج ثم فضل الأجاج على الكافر بأن في الأجاج بعض النفع والكافر لا نفع في وجوده فالآية على طريقة قوله تعالى : « ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً » ثم قال : « وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ » البقرة : ـ ٧٤.

ومنها أن قوله : « وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها » من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض المنافع تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما خرج به عن صفاء فطرته والمؤمن والكافر وإن اتفقا أحيانا في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على صفاء الفطرة الأصلية دون الآخر.

ومنها أنه لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره فالإشكال باختصاص الحلية بالماء المالح ممنوع.

ومنها منع أصل الدعوى وهو كون الآية « وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ » إلخ. تمثيلا

٢٧

للمؤمن والكافر بل هي واقعة في سياق تعداد النعم لإثبات الربوبية كقوله قبلا : « وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ » وقوله بعدا : « يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ » إلخ. فالآية مسوقة لبيان نعمة البحر واختلافه بالعذوبة والملوحة وما فيهما من المنافع المشتركة والمختصة.

ويؤيد هذا الوجه أن نظير الآية في سورة النحل واقعة في سياق الآيات العادة لنعم الله سبحانه وهو قوله : « وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » النحل : ـ ١٤.

والحق أن أصل الاستشكال في غير محله وأن البحرين يشتركان في وجود الحلية فيهما كما هو مذكور في الكتب الباحثة عن هذه الشئون مشروح فيها (١) قوله تعالى : « وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » ضمير « فِيهِ » للبحر ، ومواخر جمع ماخرة من المخر بمعنى الشق عدت السفينة ماخرة لشقها الماء بجؤجؤتها.

قيل : إنما أفرد ضمير الخطاب في قوله : « تَرَى » بخلاف الخطابات المتقدمة والمتأخرة لأن الخطاب لكل أحد يتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط.

وقوله : « لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » أي مخر الفلك البحر بتسخيره لتطلبوا من عطائه وهو الرزق ورجاء أن تشكروا الله سبحانه ، وقد تقدم أن الترجي الذي تفيده « لعل » في كلامه تعالى قائم بالمقام دون المتكلم.

وقد قيل في هذه الآية : « وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ » وفي سورة النحل : « وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ » فاختلفت الآيتان في تقديم « فِيهِ » على « مَواخِرَ » وتأخيره منه وعطف « لِتَبْتَغُوا » وعدمه.

ولعل النكتة في ذلك أن آية النحل مصدرة بكلمة التسخير فهي مسوقة لبيان كيفية التسخير والأنسب لذلك تأخير « فِيهِ » ليتعلق بمواخر ويشير إلى مخر البحر

__________________

(١) وقد ذكر وجود الحلية في الماء العذب في مادة صدف من دائرة المعارف للبستاني وذكر أيضا في أمريكا Eneyclopodia وبريطانيا Encyclopoedia وجودها فيه وسميت عدة من الأنهار العذبة في أمريكا وأوربا وآسيا يستخرج منها اللؤلؤ.

٢٨

فيصرح بالتسخير بخلاف ما هاهنا ثم التسخير له غايات كثيرة منها ابتغاء الفضل والأنسب لذلك عطف « لِتَبْتَغُوا » على محذوف ليدل على عدم انحصار الغاية في ابتغاء الفضل بخلاف ما هاهنا فإن الغرض بيان أنه الرازق المدبر ليرتدع المكذبون ـ وقد تقدم ذكر تكذيبهم ـ عن تكذيبهم ويكفي في ذلك بيان ابتغائهم الفضل غاية من غير حاجة إلى العطف.

والله أعلم.

وقال في روح المعاني ، في المقام : والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذلك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه : « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها » فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه « فِيهِ » إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك ، وكان الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية : « وَلِتَبْتَغُوا » بالواو ومخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله : « لِتَبْتَغُوا » انتهى.

قوله تعالى : « يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى » إلخ. إيلاج الليل في النهار قصر النهار بطول الليل وإيلاج النهار في الليل قصر الليل بطول النهار ، والمراد بالجملتين الإشارة إلى اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر المستمر في أيام السنة بتغير الأيام ولذا عبر بقوله : « يُولِجُ » الدال على استمرار التغيير بخلاف جريان الشمس والقمر فإنه ثابت على حاله ولذا عبر فيه بقوله : « وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى » والعناية صورية مسامحية.

وقوله : « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ » بمنزلة النتيجة لما تقدم أي إذا كان أمر خلقكم وتدبيركم برا وبحرا وأرضا وسماء منتسبا إليه مدبرا بتدبيره فذلكم الله ربكم الذي يملككم ويدبر أمركم.

وقوله : « لَهُ الْمُلْكُ » مستنتج مما قبله وتوطئة وتمهيد لما بعده من قوله : « وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ».

وقوله : « وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ » القطمير على ما قاله الراغب الأثر على رأس النواة وذلك مثل للشيء الطفيف ، وفي المجمع ، القطمير لفافة النواة وقيل : الحبة في بطن النواة انتهى والكلام على أي حال مبالغة في نفي أصل الملك

٢٩

والمراد بالذين تدعون من دون الله آلهتهم الذين كانوا يدعونها من الأصنام وأربابها.

قوله تعالى : « إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ » إلخ.

بيان وتقرير لما تقدم من قوله : « وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ » أي تصديق كونهم لا يملكون شيئا أنكم إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأن الأصنام جمادات لا شعور لها ولا حس وأرباب الأصنام كالملائكة والقديسين من البشر في شغل شاغل من ذلك على أنهم لا يملكون سمعا من عند أنفسهم فلا يسمعون إلا بإسماعه.

وقوله : « وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ » إذ لا قدرة لهم على الاستجابة قولا ولا فعلا أما الأصنام فظاهر وأما أرباب الأصنام فقدرتهم من الله سبحانه ولن يأذن الله لأحد أن يستجيب أحدا يدعوه بالربوبية قال تعالى : « لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً » النساء : ـ ١٧٢.

وقوله : « وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ » أي يردون عبادتكم إليكم ويتبرءون منكم بدلا من أن يكونوا شفعاء لكم « إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا » البقرة : ـ ١٦٦.

فالآية في نفي الاستجابة وكفر الشركاء يوم القيامة في معنى قوله : « وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ » الأحقاف : ـ ٦.

وقوله : « وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ » أي لا يخبرك عن حقيقة الأمر مخبر مثل مخبر خبير وهو خطاب خاص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الإعراض عن خطابهم لعدم تفقههم بالبيان الحق أو خطاب عام في صورة الخطاب الخاص خوطب به السامع أي من كان كقوله : « وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ » الآية السابقة ، وقوله : « وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ » الآية : الكهف : ـ ١٧ ، وقوله : « وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ » الكهف : ـ ١٨.

( بحث روائي )

في تفسير القمي في قوله تعالى : « كَذلِكَ النُّشُورُ » حدثني أبي عن ابن أبي عمير

٣٠

عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا أراد الله أن يبعث الخلق ـ أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا ـ فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم.

أقول : وفي هذا المعنى عدة روايات أخر.

وفي الدر المنثور ، أخرج الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال : قلت : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال : أما مررت بأرض مجدبة ـ ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء؟ قال : بلى. قال : كذلك يحيي الله الموتى وكذلك النشور.

وفي تفسير القمي ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن لكل قول مصداقا من عمل يصدقه أو يكذبه ـ فإذا قال ابن آدم ـ وصدق قوله بعمله رفع قوله بعمله إلى الله ، وإذا قال وخالف عمله قوله ـ رد قوله على عمله الخبيث وهوى به في النار.

وفي التوحيد ، بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه عليه‌السلام في حديث قال : وإن لله تبارك وتعالى بقاعا في سماواته ـ فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه. ألا تسمع الله عز وجل يقول : « تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ » ويقول في قصة عيسى بن مريم عليه‌السلام « بَلْ رَفَعَهُ اللهُ » ويقول عز وجل : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ».

أقول : وعن الفقيه ، مثله.

وفي نهج البلاغة : ولو لا إقرارهن (١) له بالربوبية ـ وإذعانهن له بالطواعية (٢) لما جعلهن موضعا لعرشه ولا مسكنا لملائكته ـ ولا مصعدا للكلم الطيب والعمل الصالح من خلقه.

وفي تفسير القمي ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله تعالى : « وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ ـ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ » الأجاج المر.

وفيه: في قوله : « وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ـ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ » قال : الجلدة الرقيقة التي على ظهر النوى.

__________________

(١) الضمير للسماوات.

(٢) الطاعة

٣١

* * *

( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ـ ١٥. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ـ ١٦. وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ـ ١٧. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ـ ١٨. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ـ ١٩. وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ ـ ٢٠. وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ـ ٢١. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ـ ٢٢. إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ـ ٢٣. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ ـ ٢٤. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ ـ ٢٥. ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ـ ٢٦. )

( بيان )

لما بين لهم أن الخلق والتدبير إليه تعالى فهو ربهم له الملك دون الذين يدعون من دونه فهم لا يملكون شيئا حتى يقوموا بتدبيره ، أخذ يبين ذلك ببيان آخر مشوب

٣٢

بالوعيد والتهديد وهو أنه تعالى غني عنهم وهم فقراء إليه فله أن يذهبهم ويأت بخلق جديد إن شاء جزاء بما كسبوا.

ثم وجه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما حاصله أن هذه المؤاخذة والإهلاك لا يشمل إلا هؤلاء المكذبين دون المؤمنين الذين يؤثر فيهم إنذار النبي عليه‌السلام فبينهما فرق ظاهر وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله نذير كالنذر الماضين وحاله كحال من قبله من المنذرين وإن يكذبوه فقد كذبت الأنبياء الماضين مكذبو أممهم فأخذهم الله أخذا شديدا وسيأخذ المكذبين من هذه الأمة.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ » لا ريب أن في الآية نوع تمهيد بالنسبة إلى الآيتين التاليتين يتبين بها مضمونهما وهي مع ذلك مستقلة في مفادها.

بيان ذلك : أن السياق يشعر بأن أعمال هؤلاء المكذبين كانت تكشف عن أنهم كانوا يتوهمون أن لهم أن يستغنوا عن الله سبحانه بعبادة آلهتهم وأن لله إليهم حاجة ولذلك يدعوهم إلى نفسه بالدعوة الإلهية التي يقوم بها رسله فهناك غنى وفقر ولهم نصيب من الغنى ولله نصيب من الفقر تعالى عن ذلك.

فرد الله سبحانه زعمهم ذلك بقوله : « يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ » فقصر الفقر فيهم وقصر الغنى فيه سبحانه فكل الفقر فيهم وكل الغنى فيه سبحانه ، وإذ كان الغنى والفقر وهما الوجدان والفقدان متقابلين لا يرتفعان عن موضوعهما كان لازم القصر السابق قصر آخر وهو قصرهم في الفقر وقصره تعالى في الغنى فليس لهم إلا الفقر وليس له تعالى إلا الغنى.

فالله سبحانه غني بالذات له أن يذهبهم ويستغني عنهم وهم فقراء بالذات ليس لهم أن يستغنوا عنه بغيره.

والملاك في غناه تعالى عنهم وفقرهم أنه تعالى خالقهم ومدبر أمرهم وإليه الإشارة بأخذ لفظ الجلالة في بيان فقرهم وبيان غناه ، والإشارة إلى الخلق والتدبير في قوله : « إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ » وكذا توصيفه تعالى بالحميد وهو المحمود في فعله

٣٣

الذي هو خلقه وتدبيره.

فيعود معنى الكلام إلى نحو من قولنا : يا أيها الناس أنتم بما أنكم مخلوقون مدبرون لله الفقراء إلى الله فيكم كل الفقر والحاجة والله بما أنه الخالق المدبر ، الغني لا غنى سواه.

وعلى هذا لا ضير في قصر الفقر في الناس سواء أريد به المكذبون خاصة أو عامة الناس مع كون غيرهم من المخلوقات فقراء إلى الله كمثلهم وذلك أن عموم علة الحكم يعمم الحكم فكأنه قيل : أنتم معاشر الخليقة الفقراء إلى خالقكم المدبر لأمركم وهو الغني الحميد.

وقد أجيب عن إشكال قصر الفقر في الناس مع عمومه لغيرهم بوجوه من الجواب : منها أن في قصر الفقر في الناس مبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم ولذلك قال تعالى : « خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً » ولا يرد الجن لأنهم لا يحتاجون في المطعم والملبس وغيرهما كما يحتاج الإنسان.

ومنها أن المراد الناس وغيرهم وهو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب وأولي العلم على غيرهم.

ومنها أن الوجه حمل اللام في الناس على العهد وفي الفقراء على الجنس لأن المخاطبين في الآية هم الذين خوطبوا في قوله : « ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ » الآية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه وأنتم أشد الخلائق احتياجا إليه.

ومنها أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا حقيقي.

وغير خفي عليك أن مفاد الآية وسياقها لا يلائم شيئا من هذه الأجوبة نعم يمكن توجيه الجواب الأخير بما يرجع إلى ما قدمناه من الوجه.

وتذييل الآية بصفة الحميد للإشارة إلى أنه غني محمود الأفعال إن أعطى وإن منع لأنه إذا أعطى لم يعطه لبدل لغناه عن الجزاء والشكر وكل بدل مفروض وإن منع لم يتوجه إليه لائمة إذ لا حق لأحد عليه ولا يملك منه شيء.

قوله تعالى : « إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ » أي

٣٤

إن يرد إذهابكم يذهبكم أيها الناس لأنه غني عنكم لا يستضر بذهابكم ويأت بخلق جديد يحمدونه ويثنون عليه لا لحاجة منه إليهم بل لأنه حميد ومقتضاه أن يجود فيحمد وليس ذلك على الله بصعب لقدرته المطلقة لأنه الله عز اسمه.

فقد بان أن مضمون الآية متفرع على مضمون الآية السابقة فقوله : « إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ » متفرع على كونه تعالى غنيا ، وقوله : « وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ » متفرع على كونه تعالى حميدا ، وقد فرع مضمون الجملتين في موضع آخر على غناه ورحمته قال تعالى : « وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ » الأنعام : ـ ١٣٣.

قوله تعالى : « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » إلخ. قال الراغب : الوزر ـ بفتحتين ـ الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل ، قال تعالى : « كَلَّا لا وَزَرَ » والوزر ـ بالكسر فالسكون ـ الثقل تشبيها بوزر الجبل ، ويعبر به عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى : « لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً » الآية كقوله : « لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ». انتهى فالمعنى لا تحمل نفس حاملة للإثم إثم نفس أخرى ولازم ذلك أن لا تؤاخذ نفس إلا بما حملت من إثم نفسها واكتسبته من الوزر.

والآية كأنه دفع دخل يشعر به آخرها كأنه لما قال : إن يشأ يذهبكم ويأت بآخرين ، فهددهم بالإهلاك والإفناء ، قيل : هؤلاء المكذبون أخذوا بوزرهم فما حال المؤمنين؟ أيؤخذون بوزر غيرهم؟. فأجيب أن لا تزر وازرة وزر أخرى ولا تحمل نفس حمل غيرها الذي أثقلها وإن كانت ذات قربى.

فهؤلاء المكذبون هم المعنيون بالتهديد ولا تنفع فيهم دعوتك وإنذارك لأنهم مطبوع على قلوبهم ، وإنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاة والفريقان لا يستويان لأن مثلهم مثل الأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، والظل والحرور ، والأحياء والأموات.

فقوله : « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » أي لا تحمل نفس حاملة للوزر والإثم إثم نفس أخرى حاملة.

وقوله : « وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى » أي

٣٥

وإن تدع نفس مثقلة أثقلها حملها من الإثم غيرها إلى ما حملته من الإثم ليحمله عنها لا يستجاب لها ولا يحمل من حملها شيء ولو كان المدعو ذا قربى للداعي كالأب والأم والأخ والأخت.

وقوله : « إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ » أي هؤلاء المكذبون لا ينتفعون بالإنذار ولا تتحقق معهم حقيقة الإنذار لأنهم مطبوع على قلوبهم إنما تنذر وينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاة التي هي أفضل العبادات وأهمها وبالجملة يؤمنون بالله ويعبدونه أي الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاة إثر إنذارك لا أنهم يخشون ربهم ويصلون ثم ينذرون بعد ذلك حتى يلزم تحصيل الحاصل فالآية كقوله : « إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً » يوسف : ـ ٣٦.

وقوله : « وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ » بدل الخشية وإقامة الصلاة من التزكي للإشارة إلى أن المطلوب بالدعوة والإنذار هو التزكي وتزكية النفس تلبسها بالخشية من الله على الغيب وإقامة الصلاة.

وفيه تقرير وتأكيد لما تقدم من كونه تعالى غنيا حميدا فهو تعالى لا ينتفع بما يدعو إليه من التزكي بل الذي تزكى فإنما يتزكى لنفع نفسه.

وقد ختم الآية بقوله : « وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ » للدلالة على أن تزكية من تزكى لا تذهب سدى ، فإن كلا من الفريقين صائرون إلى ربهم لا محالة وهو يحاسبهم ويجازيهم فيجازي هؤلاء المتزكين أحسن الجزاء.

قوله تعالى : « وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ » الظاهر أنه عطف على قوله : « وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ » تعليل في صورة التمثيل لعدم مساواة هؤلاء المتزكين لأولئك المكذبين ، وقيل : عطف على قوله السابق : « وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ ».

قوله تعالى : « وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ » تكرار حروف النفي مرة بعد مرة في الآية وما يليها لتأكيد النفي.

قوله تعالى : « وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ » الحرور شدة حر الشمس على ما قيل وقيل : هو السموم وقيل : السموم يهب نهارا والحرور يهب ليلا ونهارا.

٣٦

قوله تعالى : « وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ » إلى آخر الآية عطف على قوله : « وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ » وإنما كرر قوله : « ما يَسْتَوِي » ولم يعطف « الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ » على قوله : « الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ » كرابعته لطول الفصل فأعيد « ما يَسْتَوِي » لئلا يغيب المعنى عن ذهن السامع فهو كقوله : « كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ » ـ إلى أن قال ـ « كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ » الخ. التوبة : ـ ٨.

والجمل المتوالية المترتبة أعني قوله : « وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ـ إلى قوله ـ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ » تمثيلات للمؤمن والكافر وتبعات أعمالهما.

وقوله : « إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ » وهو المؤمن كان ميتا فأحياه الله فأسمعه لما في نفسه من الاستعداد لذلك قال تعالى : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً » الأنعام : ـ ١٢٢ ، وأما النبي عليه‌السلام فإنما هو وسيلة والهدى هدى الله.

وقوله : « وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ » أي الأموات والمراد بهم الكفار المطبوع على قلوبهم.

قوله تعالى : « إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ » قصر إضافي أي ليس لك إلا إنذارهم وأما هداية من اهتدى منهم وإضلال من ضل ولم يهتد جزاء له بسيئ عمله فإنما ذلك لله سبحانه.

ولم يذكر البشير مع النذير مع كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله متلبسا بالوصفين معا لأن المقام مقام الإنذار فالمناسب هو التعرض لوصف الإنذار مع أنه مذكور في الآية التالية.

قوله تعالى : « إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ » المفاد على ما يقتضيه السياق إنا أرسلناك بالتبشير والإنذار وليس ببدع مستغرب فما من أمة من الأمم إلا وقد خلا ومضى فيها نذير فذلك من سنن الله الجارية في خلقه.

وظاهر السياق أن المراد بالنذير الرسول المبعوث من عند الله وفسر بعضهم النذير بمطلق من يقوم بالعظة والإنذار من نبي أو عالم غير نبي وهو خلاف ظاهر الآية.

نعم ليس من الواجب أن يكون نذير كل أمة من أفرادها فقد قال تعالى : « خَلا فِيها » ولم يقل : « خلا منها ».

قوله تعالى : « وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ

٣٧

وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ » البينات هي الآيات المعجزة التي تشهد على حقية الرسل ، والزبر جمع زبور ولعل المراد بها بقرينة مقابلتها للكتاب الصحائف والكتب التي فيها ذكر الله تعالى من غير أن تتضمن الأحكام والشرائع ، والكتاب المنير الكتاب المنزل من السماء المتضمن للشرائع ككتاب نوح وإبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى عليه‌السلام ، ومعنى الآية ظاهر.

قوله تعالى : « ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ » الأخذ كناية عن التعذيب ، والنكير الإنكار ، والباقي ظاهر.

( كلام في معنى عموم الإنذار )

قد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح عليه‌السلام في الجزء العاشر من الكتاب ما يدل من طريق العقل على عموم النبوة ويؤيده الكتاب.

فلا تخلو أمة من الأمم الإنسانية عن ظهور ما للدعوة الحقة النبوية فيها وأما كون نبي كل أمة من نفس تلك الأمة فلا دليل عليه ، وقد عرفت أن قوله تعالى : « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ » الآية مفاده ذلك.

وأما فعلية الإنذار ـ بحيث يبلغ كل فرد فرد من الأمة مضافا إلى أصل الاقتضاء ـ واطراد الدعوة في كل واحد واحد فحكومة العلل والأسباب المتزاحمة في هذه النشأة المادية لا توافقه كما لا توافق سائر المقتضيات العامة التي قدرها الصنع كما أن في بنية كل مولود إنساني أن يعمر عمرا طبيعيا والحوادث تحول بين أكثر الأفراد وبين ذلك ، وكل مولود إنساني مجهز بجهاز التناسل للاستيلاد والإيلاد وكثير من الأفراد يموت قبل بلوغه فلا يبلغ ذلك إلى غير ذلك من النظائر.

فالنبوة والإنذار عام لكل أمة ولا يستلزم استلزاما ضروريا أن تبلغ الدعوة كل شخص من أشخاصها بل من الجائز أن تبلغ بلا واسطة أو معها بعض الأمة وتتخلف عن بعض لحيلولة علل وأسباب مزاحمة بينه وبين البلوغ فمن توجهت منهم إليه الدعوة وبلغته تمت عليه الحجة ومن توجهت إليه ولم تبلغه لم تتم عليه الحجة وكان من المستضعفين

٣٨

وكان أمره إلى الله قال تعالى : « إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً » النساء : ـ ٩٨.

( بحث روائي )

في الدر المنثور في قوله تعالى : « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » : أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في حجة الوداع : ألا لا يجني جان إلا على نفسه ـ لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ » قال : هؤلاء الكفار لا يسمعون منك ـ كما لا يسمع أهل القبور.

وفي الدر المنثور ، أخرج أبو سهل السري بن سهل الجنديسابوري الخامس من حديثه من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس: في قوله : « إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ » قال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقف على القتلى يوم بدر ويقول : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ـ يا فلان بن فلان ألم تكفر بربك؟ ألم تكذب نبيك؟ ألم تقطع رحمك؟ فقالوا : يا رسول الله أيسمعون ما تقول؟ قال : ما أنتم بأسمع منهم لما أقول : فأنزل الله : « إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ » مثل ضربه الله للكفار أنهم لا يسمعون لقوله.

أقول : وفي الرواية ما لا يخفى من لوائح الوضع فساحة النبي عليه‌السلام أجل من أن يقول ما ليس له به علم من ربه حتى ينزل الله عليه آية تكذبه فيما يدعيه ويخبر به.

على أن ما نقله من الآية لا يطابق المصحف فصدره مأخوذ من سورة النمل الآية ٨٠ وذيله مأخوذ من سورة فاطر الآية ٢٢.

على أن سياق الآية مكي في سياق آيات سابقة ولاحقة مكية.

وفي الإحتجاج ، في احتجاج الصادق عليه‌السلام : قال السائل فأخبرني عن المجوس أفبعث إليهم نبيا؟ فإني أجد لهم كتبا محكمة ـ ومواعظ بليغة وأمثالا شافية ، ويقرون

٣٩

بالثواب والعقاب ، ولهم شرائع يعملون بها. قال : ما من أمة إلا خلا فيها نذير ، وقد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله ـ فأنكروه وجحدوا كتابه.

* * *

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ ـ ٢٧. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ـ ٢٨. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ـ ٢٩. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ـ ٣٠. وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ـ ٣١. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ـ ٣٢. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ـ ٣٣. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ـ ٣٤. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ

٤٠