الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٣٩٩

١
٢

٣
٤

( سورة المعارج مكية وهي أربع وأربعون آية )

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) ).

( بيان )

الذي يعطيه سياق السورة أنها تصف يوم القيامة بما أعد فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذابا من الله للكافرين فتشير إلى أنه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثم تصف اليوم الذي يقع فيه والعذاب الذي أعد لهم فيه وتستثني المؤمنين الذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحق والعمل الصالح.

وهذا السياق يشبه سياق السور المكية غير أن المنقول عن بعضهم أن قوله : « وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ » مدني والاعتبار يؤيده لأن ظاهره الزكاة وقد شرعت بالمدينة بعد الهجرة ، وكون هذه الآية مدنية يستتبع كون الآيات الحافة بها الواقعة تحت الاستثناء وهي أربع عشرة آية ( قوله : ( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ـ إلى قوله ـ فِي

٥

جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) مدنية لما في سياقها من الاتحاد واستلزام البعض للبعض.

ومدنية هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه وهو على الأقل ثلاث آيات قوله : ( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ـ إلى قوله ـ مَنُوعاً ).

على أن قوله : « فَما لِالَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ » متفرع على ما قبله تفرعا ظاهرا وهو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضا مدنية.

ومن جهة أخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافين حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اليمين وعن الشمال عزين وهم الرادون لبعض ما أنزل الله من الحكم وخاصة قوله : « أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ » إلخ ، وقوله : « عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ » إلخ على ما سيجيء ، وموطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكة ، ولا ضير في التعبير عن هؤلاء بالذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة وغيرها.

على أنهم رووا أن السورة نزلت في قول القائل : « اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ » الأنفال : ٣٢ وقد تقدم في تفسير الآية أن سياقها والتي بعدها سياق مدني لا مكي. لكن المروي عن الصادق عليه‌السلام أن المراد بالحق المعلوم في الآية حق يسميه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

ولا عبرة بما نسب إلى اتفاق المفسرين أن السورة مكية على أن الخلاف ظاهر وكذا ما نسب إلى ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الحاقة.

قوله تعالى : « سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ » السؤال بمعنى الطلب والدعاء ، ولذا عدي بالباء كما في قوله : « يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ » الدخان : ٥٥ وقيل : الفعل مضمن معنى الاهتمام والاعتناء ولذا عدي بالباء ، وقيل : الباء زائدة للتأكيد ، ومآل الوجوه واحد وهو طلب العذاب من الله كفرا وعتوا.

وقيل : الباء بمعنى عن كما في قوله : « فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً » الفرقان : ٥٩ ، وفيه أن كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أن سياق الآيات التالية وخاصة قوله : « فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً » لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار والاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب وطلبه عن بعض من كفر طغيانا وكفرا ، وقد وصف العذاب المسئول من الأوصاف بما يدل على إجابة الدعاء بنوع من التهكم والتحقير وهو قوله : « واقِعٍ »

٦

وقوله : « لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ».

والمعنى سأل سائل من الكفار عذابا للكافرين من الله سيصيبهم ويقع عليهم لا محالة ولا دافع له أي أنه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيري وإجابة لمسئوله تهكما.

قوله تعالى : « لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ » للكافرين متعلق بعذاب وصفة له ، وكذا قوله : « لَيْسَ لَهُ دافِعٌ » وقد مرت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى : « مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ » الجار والمجرور متعلق بقوله : « دافِعٌ » أي ليس له دافع من جانب الله ومن المعلوم أنه لو اندفع لم يندفع إلا من جانب الله سبحانه ، ومن المحتمل أن يتعلق بقوله : « بِعَذابٍ ».

والمعارج جمع معرج وفسروه بالمصاعد وهي الدرجات وهي مقامات الملكوت التي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسره قوله بعد : « تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ » إلخ فله سبحانه معارج الملكوت ومقاماتها المترتبة علوا وشرفا التي تعرج فيها الملائكة والروح بحسب قربهم من الله وليست بمقامات وهمية اعتبارية.

وقيل : المراد بالمعارج الدرجات التي يصعد فيها الاعتقاد الحق والعمل الصالح قال تعالى : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » الفاطر ١٠ ، وقال : « وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ » الحج : ٣٧.

وقيل : المراد به مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان والعمل الصالح قال تعالى : « هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ » آل عمران : ١٦٣ وقال : « لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ » الأنفال : ٤ وقال : « رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ » المؤمن : ١٥.

والحق أن مآل الوجهين إلى الوجه الأول ، والدرجات المذكورة حقيقية ليست بالوهمية الاعتبارية.

قوله تعالى : « تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ » المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

والمراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنه بحيث لو وقع في الدنيا وانطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

٧

والمراد بعروج الملائكة والروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكل إليه فإن يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط وتقطع الأسباب وارتفاع الروابط بينها وبين مسبباتها والملائكة وسائط موكلة على أمور العالم وحوادث الكون فإذا تقطعت الأسباب عن مسبباتها وزيل الله بينهم ورجع الكل إلى الله عز اسمه رجعوا إليه وعرجوا معارجهم فحفوا من حول عرش ربهم وصفوا قال تعالى : « وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ » الزمر ـ ٧٥ ، وقال : « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا » النبأ : ٣٨.

والظاهر أن المراد بالروح الروح الذي هو من أمره تعالى كما قال : « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » إسراء : ٨٥ وهو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى : « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ » النحل : ٢.

فلا يعبأ بما قيل : إن المراد بالروح جبرئيل وإن أطلق عليه الروح الأمين وروح القدس في قوله : « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ » الشعراء : ١٩٤ وقوله : « قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ » النحل : ١٠٣ فإن المقيد غير المطلق.

قوله تعالى : « فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً » لما كان سؤال السائل للعذاب عن تعنت واستكبار وهو مما يشق تحمله أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر ووصفه بالجميل ـ والجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع والشكوى ، وعلله بأن اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى : « إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً » ضميرا « يَرَوْنَهُ » و « نَراهُ » للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع ويؤيد الأول قوله فيما بعد : « يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ » إلخ.

والمراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازية ورؤيتهم ذلك بعيدا ظنهم أنه بعيد من الإمكان فإن سؤال العذاب من الله سبحانه استكبارا عن دينه وردا لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد وإن تفوه به السائل ، ورؤيته تعالى ذلك قريبا علمه بتحققه وكل ما هو آت قريب.

وفي الآيتين تعليل أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر الجميل فإن تحمل الأذى والصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أن الفرج قريب وتذكر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنتهم واستكبارهم في سؤالهم العذاب صبرا جميلا لا يشوبه جزع وشكوى فأنا نعلم أن

٨

العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه ، وعلمنا لا يتخلف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى : « يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ » المهل المذاب من المعدنيات كالنحاس والذهب وغيرهما ، وقيل : دردي الزيت ، وقيل : عكر القطران (١).

والظرف متعلق بقوله : « واقِعٍ » على ما يفيده السياق.

قوله تعالى : « وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ » العهن مطلق الصوف ، ولعل المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى : « وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ » القارعة : ٥.

وقيل : هو الصوف الأحمر ، وقيل : المصبوغ ألوانا لأن الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض وحمر وغرابيب سود (٢).

قوله تعالى : « وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً » الحميم القريب الذي تهتم بأمره وتشفق عليه.

إشارة إلى شدة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتى أن الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى : « يُبَصَّرُونَهُمْ » الضميران للأحماء المعلوم من السياق والتبصير الإراءة والإيضاح أي يرى ويوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالا بأنفسهم.

والجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل : لا يسأل حميم حميما سئل فقيل : هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فأجيب : يبصرونهم ويمكن أن يكون « يُبَصَّرُونَهُمْ » صفة « حَمِيماً ».

ومن رديء التفسير قول بعضهم : إن معنى قوله : « يُبَصَّرُونَهُمْ » يبصر الملائكة الكفار ، وما قيل : إن المعنى يبصر المؤمنون أعداءهم من الكفار وما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم ، وما قيل : إن المعنى يبصر اتباع الضلالة رؤساءهم. وهي جميعا وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى : « يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ » قال في المجمع : المودة مشتركة بين التمني وبين المحبة يقال : وددت الشيء أي تمنيته ووددته أي أحببته أود فيهما جميعا. انتهى ، ويمكن أن يكون استعماله بمعنى التمني من باب التضمين.

__________________

(١) أي ردية وخبيثه

(٢) كما في الآية من سورة فاطر

٩

وقال : والافتداء الضرر عن الشيء ببدل منه انتهى ، وقال : الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى أبوة خاصة عن أبوة عامة. انتهى ، وذكر بعضهم أن الفصيلة عشيرته الأقربين الذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

وسياق هذه الآيات سياق الإضراب والترقي بالنسبة إلى قوله : « وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً » فيفيد أن المجرم يبلغ به شدة العذاب إلى أن يتمنى أن يفتدي من العذاب بأحب أقاربه وأكرمهم عليه بنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته وجميع من في الأرض ثم ينجيه الافتداء فيود ذلك فضلا عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

والمعنى « يَوَدُّ » ويتمنى « الْمُجْرِمُ » وهو المتلبس بالأجرام أعم من الكافر « لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ » وهذا هو الذي يتمناه ، والجملة قائمة مقام مفعول يود. « بِبَنِيهِ » الذين هم أحب الناس عنده « وَصاحِبَتِهِ » التي كانت سكنا له وكان يحبها وربما قدمها على أبويه « وَأَخِيهِ » الذي كان شقيقه وناصره « وَفَصِيلَتِهِ » من عشيرته الأقربين « الَّتِي تُؤْوِيهِ » وتضمه إليها « وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً » من أولي العقل « ثُمَّ يُنْجِيهِ » هذا الافتداء.

قوله تعالى : « كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى » كلا للردع ، وضمير « إِنَّها » لجهنم أو للنار وسميت لظى لكونها تتلظى وتشتعل ، والنزاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع ، والشوى الأطراف كاليد والرجل يقال : رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب ، وإيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله : « كَلَّا » ردع لتمنيه النجاة من العذاب بالافتداء وقد علل الردع بقوله : « إِنَّها لَظى » إلخ ومحصله أن جهنم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنها تطلب المجرمين لتعذبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائنا ما كان.

فقوله : « إِنَّها لَظى » أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها ولا تخمد ، وقوله : « نَزَّاعَةً لِلشَّوى » أي صفتها إحراق الأطراف واقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذبه.

وقوله : « تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى » أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهية إلى الإيمان بالله وأعرض عن عبادته تعالى وجمع المال فأمسكه في وعائه ولم ينفق منه للسائل والمحروم.

وهذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي وذكر الصلاة والإنفاق فيه.

١٠

( بحث روائي )

في المجمع ، حدثنا السيد أبو الحمد قال : حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني وساق السند عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال : لما نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، طار ذلك في البلاد ـ فقدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله النعمان بن الحارث الفهري.

فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله ـ وأنك رسول الله وأمرتنا بالجهاد ـ والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ـ ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام ـ فقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال : والله الذي لا إله إلا هو أن هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ـ فأمطر علينا حجارة من السماء ـ فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ـ وأنزل الله تعالى : « سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ».

أقول : وهذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة ، وقد رد الحديث بعضهم بأنه موضوع لكون سورة المعارج مكية ، وقد عرفت الكلام في مكية السورة.

وفي الدر المنثور ، أخرج الفاريابي وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : « سَأَلَ سائِلٌ » قال هو النضر بن الحارث ـ قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ـ فأمطر علينا حجارة من السماء.

وفيه ، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي : في قوله : « سَأَلَ سائِلٌ » قال. نزلت بمكة في النضر بن الحارث ـ وقد قال : « اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ » الآية ـ وكان عذابه يوم بدر.

أقول : وهذا المعنى مروي أيضا عن غير السدي ، وفي بعض رواياتهم أن القائل : ( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار ، وفي بعضها أن سائل العذاب هو أبو جهل بن هشام سأله يوم بدر ولازمه مدنية السورة والمعتمد على أي حال نزول السورة بعد قول القائل : ( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية وقد تقدم كلام في سياق الآية.

وفي أمالي الشيخ ، بإسناده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : ألا فحاسبوا أنفسكم قبل

١١

أن تحاسبوا ـ فإن في القيامة خمسين موقفا ـ كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون ـ ثم تلا هذه الآية « فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ».

أقول : وروي هذا المعنى في روضة الكافي ، عن حفص بن غياث عنه عليه‌السلام.

وفي المجمع ، روى أبو سعيد الخدري قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أطول هذا اليوم ـ فقال : والذي نفس محمد بيده ـ إنه ليخف على المؤمن ـ حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا.

أقول : ورواه في الدر المنثور ، عن عدة من الجوامع عن أبي سعيد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ » قال : الرصاص الذائب والنحاس كذلك تذوب السماء.

وفيه ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : في قوله تعالى : « يُبَصَّرُونَهُمْ » يقول : يعرفونهم ثم لا يتساءلون.

وفيه في قوله تعالى : « نَزَّاعَةً لِلشَّوى » قال : تنزع عينه وتسود وجهه.

وفيه في قوله تعالى : « تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى » قال : تجره إليها.

* * *

( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ

١٢

هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) ).

( بيان )

تشير الآيات إلى السبب الأولي الذي يدعو الإنسان إلى رذيلة الإدبار والتولي والجمع والإيعاء التي تؤديه إلى دخول النار الخالدة التي هي لظى نزاعة للشوى على ما تذكره الآيات.

وذلك السبب صفة الهلع التي اقتضت الحكمة الإلهية أن يخلق الإنسان عليها ليهتدي بها إلى ما فيه خيره وسعادته غير أن الإنسان يفسدها على نفسه ويسيء استعمالها في سبيل سعادته فتسلك به إلى هلكة دائمة إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في جنات مكرمون.

قوله تعالى : « إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً » الهلوع صفة مشتقة من الهلع بفتحتين وهو شدة الحرص ، وذكروا أيضا أن الهلوع تفسره الآيتان بعده فهو الجزوع عند الشر والمنوع عند الخير وهو تفسير سديد والسياق يناسبه.

وذلك أن الحرص الشديد الذي جبل عليه الإنسان ليس حرصا منه على كل شيء خيرا كان أو شرا أو نافعا أو ضارا بل حرصا على الخير والنافع ولا حرصا على كل خير أو نافع سواء ارتبط به أو لم يرتبط وكان له أو لغيره بل حرصا منه على ما يراه خيرا لنفسه أو نافعا في سبيل الخير ، ولازم هذا الحرص أن يظهر منه التزعزع والاضطراب عند مس الشر وهو خلاف الخير وأن يمتنع عن ترك الخير عند مسه ويؤثر نفسه على غيره إلا أن يرى الترك أكثر خيرا وأنفع بحاله فالجزع عند مس الشر والمنع عند مس الخير من لوازم الهلع وشدة الحرص.

وليس الهلع وشدة الحرص المجبول عليه الإنسان ـ وهو من فروع حب الذات ـ في حد نفسه من الرذائل المذمومة كيف؟ وهي الوسيلة الوحيدة التي تدعو الإنسان إلى بلوغ سعادته وكمال وجوده ، وإنما تكون رذيلة مذمومة إذا أساء الإنسان في تدبيرها

١٣

فاستعملها فيما ينبغي وفيما لا ينبغي وبالحق وبغير حق كسائر الصفات النفسانية التي هي كريمة ما لزمت حد الاعتدال وإذا انحرفت إلى جانب الإفراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة.

فالإنسان في بدء نشأته وهو طفل يرى ما يراه خيرا لنفسه أو شرا لنفسه بما جهز به من الغرائز العاطفة وهي التي تهواه نفسه وتشتهيه قواه من غير أن يحده بحد أو يقدره بقدر فيجزع إذا مسه ألم أو أي مكروه ، ويمنع من يزاحمه فيما أمسك به بكل ما يقدر عليه من بكاء ونحوه.

وهو على هذه الحال حتى إذا رزق العقل والرشد أدرك الحق والباطل والخير والشر واعترفت نفسه بما أدرك وحينئذ يتبدل عنده كثير من مصاديق الحق والباطل والخير والشر فعاد كثير مما كان يراه خيرا لنفسه شرا عنده وبالعكس.

فإن أقام على ما كان عليه من اتباع أهواء النفس والعكوف على المشتهيات واشتغل بها عن اتباع الحق وغفل عنه ، طبع على قلبه فلم يواجه حقا إلا دحضه ولا ذا حق إلا اضطهده وإن أدركته العناية الإلهية عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصا على الحق فلم يستكبر على حق واجهه ولا منع ذا حق حقه.

فالإنسان في بادئ أمره وهو عهد الصبي قبل البلوغ والرشد مجهز بالحرص الشديد على الخير وهو صفة كمالية له بحسب حاله بها ينبعث إلى جلب الخير واتقاء الشر قال تعالى : « وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ » العاديات : ٨.

ثم إذا رزق البلوغ والرشد زاد تجهيزا آخر وهو العقل الذي بها يدرك حقائق الأمور على ما هي عليها فيدرك ما هو الاعتقاد الحق وما هو الخير في العمل ، ويتبدل حرصه الشديد على الخير وكونه جزوعا عند مس الشر ومنوعا عند مس الخير من الحرص الشديد على الخير الواقعي من الفزع والخوف إذا مسه شر أخروي وهو المعصية والمسابقة إلى مغفرة ربه إذا مسه خير أخروي وهو مواجهة الحسنة ، وأما الشر والخير الدنيويان فإنه لا يتعدى فيهما ما حده الله له من الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية وهذه الصفة صفة كمالية لهذا الإنسان.

وأما إذا أعرض الإنسان عما يدركه عقله ويعترف به فطرته وعكف على اتباع الهوى واعتنق الباطل وتعدى إلى حق كل ذي حق ولم يقف في حرصه على الخير على حد

١٤

فقد بدل نعمة الله نقمة وأخذ صفة غريزية خلقها الله وسيلة له يتوسل بها إلى سعادة الدنيا والآخرة وسيلة إلى الشقوة والهلكة تسوقه إلى الإدبار والتولي والجمع والإيعاء كما في الآيات.

وقد بان مما تقدم أنه لا ضير في نسبة هلع الإنسان في الآيات إلى الخلقة والكلام مسوق للذم وقد قال تعالى : « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » السجدة ٧ ، وذلك أن ما يلحقه من الذم إنما هو من قبل الإنسان وسوء تدبيره لا من قبله تعالى فهو كسائر نعمه تعالى على الإنسان التي يصيرها نقما بسوء اختياره.

وذكر الزمخشري فرارا من الإشكال أن في الكلام استعارة ، والمعنى أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه كأنه مجبول مطبوع عليهما ، وكأنه أمر مخلوق فيه ضروري غير اختياري فالكلام موضوع على التشبيه لا لإفادة كونه مخلوقا لله حقيقة لأن الكلام مسوق للذم والله سبحانه لا يذم فعل نفسه ، ومن الدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم فنجوا عن الجزع والمنع جميعا.

وفيه أن الصفة مخلوقة نعمة وفضيلة والإنسان هو الذي يخرجها من الفضيلة إلى الرذيلة ومن النعمة إلى النقمة والذم راجع إلى الصفة من جهة سوء تدبيره لا من حيث إنها فعله تعالى.

واستثناء المؤمنين ليس لأجل أن الصفة غير مخلوقة فيهم بل لأجل أنهم أبقوها على كمالها ولم يبدلوها رذيلة ونقمة.

وأجيب أيضا عن الاستثناء بأنه منقطع وهو كما ترى.

قوله تعالى : « إِلَّا الْمُصَلِّينَ » استثناء من الإنسان الموصوف بالهلع ، وفي تقديم الصلاة على سائر الأعمال الصالحة المعدودة في الآيات التالية دلالة على شرفها وأنها خير الأعمال.

على أن لها الأثر البارز في دفع رذيلة الهلع المذموم وقد قال تعالى : « إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ » العنكبوت ٤٥.

قوله تعالى : « الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ » في إضافة الصلاة إلى الضمير دلالة على أنهم مداومون على ما يأتون به من الصلاة كائنة ما كانت لا أنهم دائما في الصلاة ، وفيه إشارة إلى أن العمل إنما يكمل أثره بالمداومة.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ » فسره بعضهم بالزكاة المفروضة ، وفي الحديث عن الصادق عليه‌السلام : أن الحق المعلوم ليس من الزكاة ـ وإنما هو مقدار

١٥

معلوم ينفقونه للفقراء ، والسائل هو الفقير الذي يسأل ، والمحروم الفقير الذي يتعفف ولا يسأل والسياق لا يخلو من تأييده فإن للزكاة موارد مسماة في قوله : « إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ » التوبة ٦٠ وليست مختصة بالسائل والمحروم على ما هو ظاهر الآية.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ » الذي يفيده سياق عد الأعمال الصالحة أن المراد بتصديقهم يوم الدين التصديق العملي دون التصديق الاعتقادي وذلك بأن تكون سيرتهم في الحياة سيرة من يرى أن ما يأتي به من عمل سيحاسب عليه فيجازي به إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.

وفي التعبير بقوله : « يُصَدِّقُونَ » دلالة على الاستمرار فهو المراقبة الدائمة بذكره تعالى عند كل عمل يواجهونه فيأتون بما يريده ويتركون ما يكرهه.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ » أي خائفون ، والكلام في إشفاقهم من عذاب ربهم نظير الكلام في تصديقهم بيوم الدين فهو الإشفاق العملي الظاهر من حالهم.

ولازم إشفاقهم من عذاب ربهم مع لزومهم الأعمال الصالحة ومجاهدتهم في الله أن لا يثقوا بما يأتون به من الأعمال الصالحة ولا يأمنوا عذاب الله فإن الأمن لا يجامع الخوف.

والملاك في الإشفاق من العذاب أن العذاب على المخالفة فلا منجى منه إلا بالطاعة من النفس ولا ثقة بالنفس إذ لا قدرة لها في ذاتها إلا ما أقدرها الله عليه والله سبحانه مالك غير مملوك ، قال تعالى : « قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً » المائدة ١٧.

على أن الله سبحانه وإن وعد أهل الطاعة النجاة وذكر أنه لا يخلف الميعاد لكن الوعد لا يقيد إطلاق قدرته فهو مع ذلك قادر على ما يريد ومشيته نافذة فلا أمن بمعنى انتفاء القدرة على ما يخالف الوعد فالخوف على حاله ولذلك نرى أنه تعالى يقول في ملائكته : « يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » فيصفهم بالخوف وهو يصرح بعصمتهم ، ويقول في أنبيائه : « وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ » الأحزاب : ٣٩ ، ويصف المؤمنين في هذه الآية بالإشفاق وهو يعدهم في آخر الآيات بقول جازم فيقول : « أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ».

قوله تعالى : « إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ » تعليل لإشفاقهم من عذاب ربهم فيتبين به أنهم مصيبون في إشفاقهم من العذاب وقد تقدم وجهه.

١٦

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ـ إلى قوله ـ هُمُ العادُونَ » تقدم تفسير الآيات الثلاث في أول سورة المؤمنون.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ » المتبادر من الأمانات أنواع الأمانة التي يؤتمنون عليها من المال وسائر ما يوصى به من نفس أو عرض ورعايتهم لها أن يحفظوها ولا يخونوها قيل : ولكثرة أنواعها جيء بلفظ الجمع بخلاف العهد.

وقيل : المراد بها جميع ما كلفهم الله من اعتقاد وعمل فتعم حقوق الله وحقوق الناس فلو ضيعوا شيئا منها فقد خانوه.

وقيل : كل نعمة أعطاها الله عبده من الأعضاء وغيرها أمانة فمن استعمل شيئا منها في غير ما أعطاه الله لأجله وأذن له في استعماله فقد خانه.

وظاهر العهد عقد الإنسان مع غيره قولا أو فعلا على أمر ورعايته أن يحفظه ولا ينقضه من غير مجوز.

وقيل : العهد كل ما التزم به الإنسان لغيره فإيمان العبد لربه عهد منه عاهد به ربه أن يطيعه في كل ما كلفه به فلو عصاه في شيء مما أمره به أو نهاه عنه فقد نقض عهده.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ » الشهادة معروفة ، والقيام بالشهادة عدم الاستنكاف عن تحملها وأداء ما تحمل منها كما تحمل من غير كتمان ولا تغيير ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

قوله تعالى : « وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ » المراد بالمحافظة على الصلاة رعاية صفات كمالها على ما ندب إليه الشرع.

قيل : والمحافظة على الصلاة غير الدوام عليها فإن الدوام متعلق بنفس الصلاة والمحافظة بكيفيتها فلا تكرار في ذكر المحافظة عليها بعد ذكر الدوام عليها.

قوله تعالى : « أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ » الإشارة إلى المصلين في قوله : « إِلَّا الْمُصَلِّينَ » وتنكير جنات للتفخيم ، و « فِي جَنَّاتٍ » خبر و « مُكْرَمُونَ » خبر بعد خبر أو ظرف لقوله : « مُكْرَمُونَ ».

١٧

( بحث روائي )

في تفسير القمي : « إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً » قال : الشر هو الفقر والفاقة « وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً » قال : الغنى والسعة.

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ثم استثنى فقال « إِلَّا الْمُصَلِّينَ » فوصفهم بأحسن أعمالهم « الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ » يقول : إذا فرض على نفسه شيئا من النوافل دام عليه.

أقول : قوله : إذا فرض على نفسه « إلخ » استفاد عليه‌السلام هذا المعنى من إضافة الصلاة إلى ضمير « هُمْ » وقد أشرنا إليه فيما مر.

وفي الكافي ، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ » قال : هي الفريضة. قلت : « الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ » قال : هي النافلة.

وفي المجمع في قوله تعالى : « وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ » وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : الحق المعلوم ليس من الزكاة ـ وهو الشيء الذي تخرجه من مالك ـ إن شئت كل جمعة وإن شئت كل يوم ، ولكل ذي فضل فضله.

قال : وروي عنه أيضا أنه قال : هو أن تصل القرابة وتعطي من حرمك وتصدق على من عاداك.

أقول : وروي هذا المعنى في الكافي ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام بعدة طرق ورواه في المحاسن عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وفي الكافي ، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل « لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ » قال : المحروم المحارف ـ الذي قد حرم كد يمينه في الشراء والبيع.

قال : وفي رواية أخرى عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام أنهما قالا : المحروم الرجل الذي ليس بعقله بأس ـ ولم يبسط له في الرزق وهو محارف.

وفي المجمع في قوله تعالى : « وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ » روى محمد بن الفضيل

١٨

عن أبي الحسن عليه‌السلام أنه قال : أولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا.

أقول : ولعله مبني على ما ورد عنهم ( عليه‌السلام ) أن تشريع النوافل اليومية لتتميم الفرائض.

* * *

( فَما لِالَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤) ).

( بيان )

لما ذكر سبحانه في الفصل الأول من آيات السورة في ذيل ما حكى من سؤالهم العذاب أن لهم عذابا واقعا ليس له دافع وهو النار المتلظية النزاعة للشوى التي تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى.

ثم بين في الفصل الثاني منها الملاك في ابتلائهم بهذه الشقوة وهو أن الإنسان مجهز بغريزة الهلع وحب خير نفسه ويؤديه اتباع الهوى في استعمالها إلى الاستكبار على كل حق يواجهه فيورده ذلك النار الخالدة ، ولا ينجو من ذلك إلا الصالحون عملا المصدقون ليوم الدين المشفقون من عذاب ربهم.

انعطف في هذا الفصل من الآيات ـ وهو الفصل الثالث ـ على أولئك الكفار كالمتعجب

١٩

من أمرهم حيث يجتمعون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين مقبلين عليه بأبصارهم لا يفارقونه فخاطبه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بالهم يحيطون بك مهطعين عليك يلازمونك؟ هل يريد كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم وهو كافر وقد قدر الله سبحانه أن لا يكرم بجنته إلا من استثناه من المؤمنين فهل يريدون أن يسبقوا الله ويعجزوه بنقض ما حكم به وإبطال ما قدره كلا إن الله الذي خلقهم من نطفة مهينة قادر أن يبدلهم خيرا منهم ويخلق مما خلقهم منه ، غيرهم ممن يعبده ويدخل جنته.

ثم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقطع خصامهم ويذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

قوله تعالى : « فَما لِالَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ » قال في المجمع : قال الزجاج : المهطع المقبل ببصره على الشيء لا يزايله وذلك من نظر العدو ، وقال أبو عبيدة الإهطاع الإسراع ، وعزين جماعات في تفرقة ، واحدتهم عزة. انتهى ، وقبل الشيء بالكسر فالفتح الجهة التي تليه والفاء في « فما » فصيحة.

والمعنى : إذا كان الإنسان بكفره واستكباره على الحق مصيره إلى النار إلا من استثني من المؤمنين فما للذين كفروا عندك مقبلين عليك لا يرفعون عنك أبصارهم وهم جماعات متفرقة عن يمينك وشمالك أيطمعون أن يدخلوا الجنة فيعجزوا الله ويسبقوه فيما قضى به أن لا يدخل الجنة إلا الصلحاء من المؤمنين.

قوله تعالى : « أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ » ، الاستفهام للإنكار أي ـ ما هو الذي يحملهم على أن يحتفوا بك ويهطعوا عليك؟ ـ هل يحملهم على ذلك طمع كل منهم أن يدخل جنة نعيم وهو كافر فلا مطمع للكافر في دخول الجنة.

ونسب الطمع إلى كل امرئ منهم ولم ينسب إلى جماعتهم بأن يقال : أيطمعون أن يدخلوا « إلخ » كما نسب الإهطاع إلى جماعتهم فقيل : مهطعين لأن النافع من الطمع في السعادة والفلاح هو الطمع القائم بنفس الفرد الباعث له إلى الإيمان والعمل الصالح دون القائم بالجماعة بما أنها جماعة فطمع المجموع من حيث إنه مجموع لا يكفي في سعادة كل واحد واحد.

وفي قوله : « أَنْ يُدْخَلَ » مجهولا من باب الإفعال إشارة إلى أن دخولهم في الجنة ليس منوطا باختيارهم ومشيتهم بل لو كان فإنما هو إلى الله سبحانه فهو الذي يدخلهم الجنة

٢٠