تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

ونصب الأوصياء وغير ذلك ممّا لا يتمّ اللطف إلاّ به ، فكذلك في الاصول يقتضي جعل التكليف بتحصيلها ونصب الأدلّة الموصلة إليها وتمكين المكلّفين من معرفتها ، وهذا يقتضي عدم وجود قاصر وإلاّ لم يتمّ اللطف.

قلت : هذا كلّه صحيح ولكن وجود الدليل المنصوب الصالح للإيصال لا يلزم وجوب إيصاله إلى المطلوب ، سيّما إذا استند عدمه إلى فقد شرط أو وجود مانع كما في أسباب القصور المتقدّمة الّتي مرجعها إلى أحد الأمرين.

لا يقال : إنّ التمكين من معرفة الدليل المنصوب والتوصّل به إلى المطلوب تتميما للّطف الواجب عليه تعالى يقتضي إيجاد الشروط المفقودة ودفع الموانع الموجودة.

لأنّه إنّما يقتضي الإيجاد والرفع فيما يستند فقده من الشروط ووجوده من الموانع إليه تعالى ، بحيث لو لا إيجاده ما فقد من الشرط ورفعه ما وجد من المانع كان إخلالا منه باللطف الواجب عليه ، وميزانه كون خلاف اللطف مسندا إليه ، وأمّا ما لا يستند إليه من فقد الشروط أو وجود الموانع بل إلى غيره كما في أسباب القصور المتقدّمة ـ كما يكشف عنه حديث : « كلّ مولود يولد على الفطرة » ـ فليس الإيجاد والرفع فيهما ولو بنحو الغلبة والإكراه من اللطف الواجب عليه ، لما أخذ فيه من عدم انتهائه إلى حدّ الإلجاء ، بل ربّما أمكن المناقشة في جوازه فضلا عن وجوبه لرجوعه إلى الجبر المستحيل عليه تعالى.

ولو قيل : إنّ الإجماع انعقد على تكليف العباد بالوصول إلى الواقع وهو غير قابل للتخصيص ، ويلزم منه إطلاق التكليف بحسب الواقع مطلقا.

لقلنا : إنّ القدر المسلّم من الإجماع إنّما هو تكليف الجامعين للشروط من العباد بالوصول إلى الواقع وإطلاق التكليف بالنسبة إليهم مسلّم ، ولا يلزم منه كون كلّ أحد من آحاد العباد جامعا للشروط ، وهذا ليس من باب التخصيص بل تخصّص.

وبالتأمّل في جميع ما ذكر يعلم أنّه لا يمكن نفي القصور رأسا فيما بين نوع المكلّفين في الاصول بشيء من الوجوه المتقدّمة في أدلّة قول الجمهور.

أمّا الوجه الأوّل بكلا تقريريه : فبما اتّضح عند منع التمسّك بقاعدة اللطف.

وأمّا الوجه الثاني : فبأنّ ثبوت التكليف بالإيمان لنوع اليهود والنصارى وغيرهم من فرق الكفر معلوم ، بل هو من أوّل البعثة إلى يومنا هذا ضروريّ الثبوت ، وهذا لا ينافي خروج بعض آحاد النوع لقصور وغيره ، إذ ليس المراد إثبات القصور لجميع آحاده ليكون ذلك حجّة عليه.

٣٠١

ولا ريب أنّ تكليف النوع لا ينافي قصور بعض الآحاد ، وذمّهم على إصرارهم على عقائدهم أيضا كان متوجّها إلى النوع.

ولا ريب في تقصير أكثر آحاده ولا سيّما الموجودين في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشاهدين لآياته وبيّناته ، ومن البعيد عادة بل المستحيل عقلا بقاء اعتقادهم الأصلي التقليدي مع هذه الحالة وعدم تزلزل النفس في معتقدها ، فلا يكون الإصرار حينئذ إلاّ عنادا أو تساهلا في ملازمة النظر ومواظبة الجدّ ، فالأكثر كانوا مقلّدة بهذا المعنى الغير المنافي لقصور الأقلّ ، مع أنّ في قضيّة كونهم عرفوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا المعجزة ـ لو سلمت عن المنع ـ اعترافا بالقصور في الأكثر ، ومعه فأيّ شيء يصحّح توجّه التكليف والذمّ إليهم إلاّ على رأي مجوّزي التكليف بغير المقدور إذا كان ممّا يتأتّى عادة.

وأمّا الوجه الثالث بكلا تقريريه : فبأنّ الإجماع على أهليّة النار في قاطبة الكفّار موضع منع ، فانتفى دلالته على نفي القصور فيهم رأسا ، وعموم القتل أو القتال للقاصرين منهم في موضع الاشتباه أو مطلقا لحسم مادّة الكفر وسودة الضلال لا يعدّ ظلما إذا أدّى عدمه إلى استيلاء أهله على المسلمين ، أو اقتضاه مصلحة أقوى من مصلحة بقائهم ، أو كان طريقا إلى اختيار أقلّ المحذورين.

وأمّا الوجه الرابع : فبأنّ الآيات المشار إليها مخصوصة بحكم العقل القاطع بالمقصّرين من الكفّار الّذين يصحّ توجّه الخطاب إليهم.

وهذه القضيّة ممّا لا كلام فيها ولا ملازمة بينها وبين كون كلّ واحد من آحاد الكفّار مقصّرا ، والآيات ليست مسوقة لبيانه ، وعموم الحكم المستفاد منها فرع على ثبوت موضوعه على جهة العموم ، ولا تعرّض فيها لإثبات العموم من هذه الجهة فلم يعلم إرادة العموم منها باعتبار الحكم أيضا ، غاية ما هناك قيام ظهور في ذلك ولا ريب أنّ الظاهر يخرج عنه بالقاطع.

وأمّا الوجه الخامس : فبأنّ غاية ما يستفاد منها ـ بعد تسليم كون المجاهدة مرادا بها الاجتهاد ـ أنّ غير المهتدي لم يجتهد وأمّا أنّه مقصّر فلا ، ضرورة أنّ نفي الاجتهاد ليس إثباتا للتقصير بل ربّما يجامعه القصور ، مع توجّه المنع إلى كون المراد من « السبل » نفس الواقع في المعارف ، وإلى كون المراد من « المجاهدة » هو الاجتهاد ، ومن الآية إعطاء حكم في الدنيا ، وتفصيل هذه الجملة : أنّ من المحتمل كون الآية وعدا بمجازاة الخير في دار

٣٠٢

الآخرة لمن صدر عنه الخير وهو المجاهدة في دار الدنيا ، سواء اريد بها مخاصمة أعداء الانس وجنود الكفر والضلال ، أو مدافعة خصماء النفس وجنود الشيطان ، أو استفراغ الوسع في طلب المعارف الحقّة ، أو بذل الجهد في تحصيل العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، فيراد بالسبل إمّا مراتب القرب وشوؤنه وطرقه المختلفة بحسب اختلاف مراتب المجاهدة ، أو طرق الجنّة وبالهداية الإيصال إلى السبل بأيّ معنى اخذت ، هذا مع إمكان كون المراد بها الّذين يتحمّلون المشقّة بأبدانهم ونفوسهم بمواظبة الطاعات والعبادات أو بأموالهم ونفائسهم لمزاولة الخيرات والمبرّات طلبا لمرضاتنا لنوصلنّهم مراتب القرب أو طرق الجنّة ، مع احتمال ما عن عليّ بن إبراهيم في تفسيره من : « أنّ معنى « جاهدوا فينا » صبروا وجاهدوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنهدينّهم سبلنا أي لنثبتهم ».

وما قيل من أنّ معناه : والّذين جاهدوا في إقامة السنّة لنهدينّهم سبل الجنّة.

وما قيل أيضا أنّ معناه : والّذين يعملون بما يعلمون لنهدينّهم إلى ما لا يعلمون.

وما قيل أيضا أنّ معناه : بيان أنّ المجاهدة للنفس بزجرها عمّا تشتهيه وعدم الجري على مقتضى هواها الفاسدة وتعريضها معرض طلب الحقّ والصواب يفضي إلى الفوز بالاهتداء إلى طريق الله المستوي وصراطه المستقيم.

وهذه المعاني كما ترى ممّا لا تعلّق لها بإصابة كلّ مجتهد للواقع ، ولا يكون كلّ مكلّف لم يصل إلى الواقع مقصّرا اجتهد أو لم يجتهد ، كما لا ينافي وجود القاصر فيما بين المكلّفين في موارد تكليفهم اصولا كانت أو فروعا من المسلمين كانوا أو غيرهم من فرق الكفّار والمخالفين.

بل قصارى ما يقتضيه على المعنى الأخير أنّ طلب الحقّ بطرق المكاشفة المبنيّة على تحمّل الرياضات الحقّة المشروعة أدخل بالوصول إلى الواقع ، أو أنّه دائم المصادفة له ممّن يقدر عليه ، ومن الظاهر أنّ هذا طريق لم يقع التكليف شرعا بسلوكه في اصول ولا فروع خصوصا في حقّ عامّة المكلّفين ، غاية ما هنالك أنّ المجتهد بالطريق إذا راعى مع اجتهاده مجاهدة نفسه وزجرها عمّا ليس فيه رضى الله سبحانه يلزمه الوصول إلى الواقع بمقتضى الآية على تقدير هذا المعنى ، وهذا ممّا لا مدخل له بنفي القصور عمّا بين قاطبة المكلّفين ، خصوصا بعد ملاحظة أنّ سلوك هذا المسلك ليس شرطا لصحّة الاجتهاد ولا تحصيل المعارف الحقّة والمعالم الدينيّة اصوليّة كانت أو فروعيّة ، فمن الجائز حينئذ أن لا يكون

٣٠٣

المجتهد أو مطلق المكلّف مجاهدا لنفسه بالمعنى المعبّر عنه في الأخبار بالجهاد الأكبر ، فلا يلزمه الوصول إلى الواقع لا محالة لمكان فقدان الشرط المذكور ، وأن يكون مجاهدا فيلزمه الوصول إليه لتحقّق الشرط الّذي لا يجب تحصيله لا محالة ، فلا دلالة فيها على أنّ كلّ مكلّف إذا اجتهد لا بدّ أن يصل إليه وأنّه لا يتصوّر في حقّه القصور.

ومع الغضّ عن ذلك فغاية ما يستفاد منها ـ بعد أخذ المجاهدة بمعنى الاجتهاد المعهود ـ أنّ الاجتهاد في الله سبحانه مقتضي للوصول إلى سبله ، وظاهر أنّ المقتضي قد يصادفه وجود المانع أو فقد الشرط كارتكاز الشبهة في الذهن وعدم استقامة الفطنة أو الفطرة أو السليقة فلا يقتضي.

ودعوى أنّ التعليق في الشرطيّة يفيد العلّية التامّة ولو بملاحظة إطلاق الشرط ، فيكون الاجتهاد سببا تامّا للاهتداء ، ومعناه : أن لا يكون لغيره من الامور الوجوديّة والامور العدميّة مدخليّة في ترتّب الاهتداء عليه.

يدفعها أوّلا : منع كون قضيّة الآية شرطيّة لخلوّها عن أدوات الشرط ، وعدم تبيّن تضمّن المبتدأ الموصول معنى الشرط لخلوّ الخبر عن « فاء » الجزائيّة ، فيجوز كون ذكر الصلة لمجرّد اعتبار المعرّف لمن يجري عليه الخبر من دون تأثير لها في جريانه ، على حدّ ما في قولك : « الّذي جاءك لأقتلنّه » أو ورودها مورد العلقة الناقصة الّتي مفادها السببيّة المساوقة للمقتضي.

وأقصى ما هنالك نفي احتمال التعريف بكونه أبعد ، ولا يلزم منه تعيّن إفادة تماميّة العلقة الّتي فيما بين الصلة والخبر ، كيف وهو منقوض بالاجتهاد في الفروع فإنّه في الآية ورد مطلقا ولا مخصّص له بغير الفروع.

ومن الواضح البيّن أنّ المجتهد في الفروع ليس بمأمون من الخطأ ولا من القصور الّذي يوجب عدم إمكان الوصول إلى الواقع ، فلو صحّ ما ذكر لقضى بامتناع الأمرين في الفروع ولا أظنّ الخصم يرضى بذلك.

نعم ربّما يتّجه ذلك على القول بالتصويب فيها ، غير أنّه على ما ستعرفه ضروريّ الفساد.

وثانيا : منع كون تماميّة العلّة على تقديرها مجدية في نفي القصور عن قاطبة المكلّفين ، فإنّ غاية ما تقتضيه العلّيّة التامّة ثبوت مفهوم لهذه القضيّة الشرطيّة ، فيكون مفاد الآية باعتبار المفهوم حينئذ : « إن لم يجتهد لم يهتد » وهذا ليس بعين قولنا : « إنّ من لم يجتهد

٣٠٤

قصّر » ولا مستلزما له ، لما بيّنّا من أنّ عدم الاجتهاد يجامع كلاّ من التقصير والقصور.

هذا كلّه مع توجّه المنع ـ بعد تسليم كون الاجتهاد علّة تامّة للاهتداء ـ إلى كون « السبل » مرادا بها الأمر الحاصل في دار الدنيا ، لجواز كون المراد منها مراتب القرب أو طرق الجنّة ، فيكون الآية حينئذ من أدلّة رجحان الاجتهاد وكونه بنفسه أمرا مطلوبا لله عزّ وجلّ ، وهذا لا ينفي الخطأ عن المجتهد فضلا عن القصور خصوصا عن غيره ممّن لا يقدر على الاجتهاد أو لا يصيب اجتهاده الواقع ولو عاميّا.

والحاصل : أنّه لا تعرّض في الآية بشيء من محتملاتها للتقصير ولا للقصور بإثبات ولا بنفي بمنطوقها ولا مفهومها ، بالقياس إلى المجتهد وإلى غيره ، فلا سبيل إلى إنكار القصور أو نفي وجود القاصر عمّا بين نوع المكلّفين ، فالنزاع فيه ـ إن كان ـ في غاية الضعف والسقوط بل لا أظنّه محقّقا وإن كان محتملا.

وأمّا النزاع في كون كلّ مجتهد في اصول العقائد إذا أخطأ اجتهاده مقصّرا أو قاصرا فهو النزاع الواقع في المسألة كما أشرنا إليه.

والقول بالتقصير هاهنا غير بعيد بل قويّ بل متعيّن ، لأنّ أسباب القصور ـ على ما أشرنا إليها ـ مقصورة على امور مخصوصة يضبطها : فقد المقتضي للوصول إلى الواقع وهو الدليل ، أو انتفاء ما هو من شروط اقتضائه ، أو وجود ما هو من موانعه الّتي منها رسوخ الشبهة في الذهن ، وسبق الإذعان بالباطل عن سبب قهري بالمعنى المرادف لسبق الشبهة إن فسّرت بالاعتقاد الجهلي ، كما ورد به ظاهر بعض الأخبار المصرّح بأنّه : « إنّما سمّيت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ » ، بتقريب : أنّ العلم الّذي يتعلّق بالحقّ عبارة عن انكشاف الواقع والاعتقاد الجهلي أيضا في نظر معتقده انكشاف للواقع ، فمتعلّق ذلك الاعتقاد وإن كان باطلا في نفس الأمر إلاّ أنّه في صورة الحقّ فيشبهه ، أو بالمعنى المغاير له إن فسّرت بصورة الشكّ إذا صارت مستقرّة في الذهن ، كما هو الظاهر المتداول منها في العرف والعادة.

والكلمات المتقدّمة عن أهل القول بالتصويب هنا بين ما يستند في دعوى القصور إلى فقد المقتضي ـ كما تقدّم في الاعتراض على أوّل أدلّة الجمهور من منع وجود الأدلّة القاطعة على هذه المطالب ـ وما يستند إلى وجود المانع بالمعنى الأخير ، كما تقدّم في الاحتجاج لهذا القول من أنّ تكليفهم بنقيض اجتهادهم تكليف بما لا يطاق بالبيان الّذي قدّمنا.

ولا ريب أنّ الاستناد إلى كلّ من الوجهين فاسد الوضع وواضح المنع ، فهاهنا مقامان :

٣٠٥

المقام الأوّل : في إثبات وجود المقتضي.

فنقول : إنّ القاطع المحكوم بفقدانه إن اريد به ذات الدليل فمنع وجوده من الخرافات الّتي لا ينبغي الإصغاء إليها ، كيف ووقوع التكليف بتحصيل المعارف من ضروريّات الدين بل الأديان كلّها ، وهو من دون طريق يؤدّي إليها تكليف بما لا يطاق.

واحتمال مرجعيّة التقليد فيها ، يدفعه أوّلا : أنّه خروج عن مفروض المسألة وهو المخطئ في نظر واجتهاد.

وثانيا : بطلان القول بالتقليد فيها رأسا على ما سنقرّره في بابه.

وثالثا : عدم تعقّل التقليد فيها إن اريد به المعنى المتداول في الفروع ، فإنّ المقصود بالأصالة من التقليد في الفروع إمّا الالتزام بقول الغير أو تطبيق العمل على مقتضاه وإن لم يستتبع اعتقادا للمقلّد بمقوله ، بخلافه في الاصول الّتي لا يقصد فيها بالذات إلاّ الاعتقاد بل العلم خاصّة على ما سنقرّره ، وهو ليس بأمر اختياري ، وإنّما يترتّب قهرا على سببه الاختياري عند إعماله ، والمفروض انتفاؤه.

وفرض قول الغير بمثابة يكون في نفسه أو بمعونة بعض الامور الداخلة والخارجة كافيا في إفادة الاعتقاد مع عدم اطّراده خروج عن الفرض ، لكون ذلك أيضا نحوا من الدليل الّذي نحن بصدد إثباته ، كما أنّ فرض كون المراد بالتقليد هنا ما هو مصطلح أهل المعقول خروج عن الفرض واعتراف بضدّ المطلوب ، إذ الاعتقاد كائنا ما كان لابدّ له من مستند منحصر فيما هو دليل اصطلاحا.

ورابعا : وجوب انتهاء التقليد إلى النظر والاستدلال اللذين لا يتمّان إلاّ بالدليل حذرا عن التسلسل ، فإنّ الغير الّذي يرجع إلى قوله لا بدّ له من مستند ، فإن كان النظر والاستدلال ثبت المطلوب وإن كان التقليد ننقل الكلام إليه فإمّا أن يتسلسل أو ينتهي إلى الدليل ، مع أنّ نزاعهم الآتي في وجوب النظر أو كفاية التقليد في اصول الدين ينبئ باتّفاقهم على وجود أدلّة فيها يقع النظر عليها ، مع أنّه لو لا وضع الأدلّة على هذه المطالب المقصودة بالأصالة من إيجاد العالم وخلق بني آدم لما تمّت الحجّة على الخلق ، فيؤدّي بعد قبح العقاب بلا إقامة البرهان إلى نقض الغرض.

غاية الأمر أنّ عادته تعالى غير جارية بالجبر والإلجاء ورفع الموانع الغير المستندة إليه بالقهر والغلبة ، وهذا ليس منه إخلالا بوضع الأدلّة ونصب الطرق على قياس ما هو

٣٠٦

الحال في سائر موارد اللطف الواجب عليه تعالى ، ومقتضى ذلك كون الأدلّة الموضوعة والطرق المنصوبة لإدراك هذه المطالب من باب المقتضيات الّتي يجوز التخلّف عنها باعتبار الامور الخارجة ولو من سوء اختيار المكلّف ، وليس منع هذه الامور عن التأثير من وظيفته ولا خلافه منافيا لغرضه ، مع أنّه يكفي لإثبات وجود الأدلّة وانتصابها آثار الصنع في المصنوعات المرشدة من باب الإنّ إلى وجوب وجود صانع لها جامع للكمالات منزّه عن النقائض ـ كما نطق بدليليّتها قوله عزّ من قائل : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )(١) وقوله تعالى : ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً )(٢) ـ واستقلال العقل بقبح الظلم عليه تعالى ، وما تواتر من الأنبياء وأوصيائهم من إظهاره المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة بأيديهم تصديقا لهم ، مع ما علم ضرورة من أخبار الأنبياء والأولياء والعلماء بمعاد يوم الجزاء وإجماعهم عليه ، مع قضاء العقل المستقلّ ، بأنّه لولاه لضاع عمل العاملين وضاعت حقوق المظلومين ولساوى أشقى الأشقياء وأفضل الأنبياء لعدم حصول ما يصلح للجزاء في الدنيا مع إقبال الدنيا إلى الفجّار بقدر إدبارها عن الأخيار ، مع أنّ المانع لم يذكر سندا لمنعه حتّى ينظر فيه إلاّ أنّه قال : « خصوصا ونحن نرى الخلق مختلفين في الأديان والعقائد من زمن وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبعد أن يكون واحد منهم مكابرا » وهذا في الحقيقة لنا لا علينا ، لأنّ اختلاف المختلفين في الأديان والعقائد إنّما ينشأ عن اختلاف الأدلّة الّتي هي في طرف الباطل من كلّ مسألة شبهات ومغالطات ، والمحقّ من كلّ فرقة في كلّ مسألة واحد وله أدلّة من العقل والسمع ، مع أنّ موضوع المسألة على ما عرفت هو المجتهد في العقليّات وهو المستفرغ وسعه في تحصيل المعارف ولا يكون إلاّ عن نظر واستدلال.

وإن اريد به وصف قاطعيّته (٣) فيكفي في إثبات ذلك الوصف أنّ التكليف بالعلم في المعارف ـ على ما سنقرّره ـ لا يتمّ إلاّ بكون الأدلّة الموجودة والطرق المنصوبة فيها كافية في العلم صالحة لإفادته فيها لمن يراعي حقّ النظر فيها ، وفي الآيات الواردة في ذمّ مقلّدة الكفّار ومتّبعي الظنّ منهم على اختلاف فرقهم غنية في إثبات وقوع التكليف فيها بالعلم

__________________

(١) الشورى : ٥٤.

(٢) الطلاق : ١٢.

(٣) عطف على قوله : « أنّ القاطع المحكوم بفقدانه إن اريد به ذات الدليل الخ ».

٣٠٧

ووجود الأدلّة المفيدة له وتمكّن المكلّفين من النظر فيها ، مع ما ندرك بالوجدان من انتهاء النظر في أكثر هذه المطالب ولا سيّما إثبات الصانع وصفاته الثبوتيّة الّتي مرجعها إلى العلم والقدرة وصفاته السلبيّة الّتي مرجعها إلى نفي الحدوث والحاجة إلى القطع ، لابتنائه على قواعد منضبطة ومقدّمات قطعيّة وأسباب حسّيّة ، وأيّ دليل لإثبات الصانع وصفاته يكون أتقن وأوضح من لطائف صنع المصنوعات من الأرضين والسماوات وما بينهما من الأنفس والآفاق؟ كما أرشد إلى النظر فيها في الآيات المتكاثرة الّتي منها ما تقدّم ، وفي الروايات المتظافرة الّتي منها ما رواه الصدوق في جامع الأخبار مرسلا قال : وسئل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن إثبات الصانع ، فقال : « البعرة تدلّ على البعير ، والروثة تدلّ على الحمير ، وآثار القدم تدلّ على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة فكيف لا يدلاّن على اللطيف الخبير ».

وقال عليه‌السلام : « بصنع الله يستدلّ عليه ، وبالعقول يعقد معرفته ، وبالتفكّر يثبت حجّته ، معروف بالدلالات مشهود بالبيّنات ».

سئل جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام ما الدليل على صانع العالم؟ قال : « لقيت حصنا مزلقا أملس لا فرج فيها ولا خلل ، ظاهره من فضّة مائعة وباطنه من ذهب مائع ، انفلق منه طاووس وغراب ونسر وعصفور ».

وفي إثبات الرسالة والوصاية المطلقتين أيّ برهان أتقن من افتقار الناس إلى رسول ثمّ إلى وصيّ بعده لئلاّ يكون لهم عليه تعالى حجّة؟ كما أشار إليه ما رواه في الكافي بسند فيه إرسال عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « اعرفوا الله بالله ، والرسول بالرسالة ، واولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان » بناء على أنّ معناه : اعرفوا الله بصفات كماله بواسطة آثار صنعه وكمال قدرته ، وإنما اضيف إليه تعالى لأنّ ما يسند إلى المعلول يصحّ إسناده إلى العلّة ، وإنّ ربوبيّته تعالى تستلزم أن يرسل رسولا إلى من لم يوح إليه ، وينصب بعد الرسول أوصياء له ، وذلك لأنّ من عرف لنفسه ربّا يعرف أنّ لذلك الربّ رضا وسخطا يجب عليه موافقة رضاه وعدم التعرّض لسخطه ، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول ، فمن لم يأته الوحي لابدّ له من طلب الرسول ، فإذا طلبه وجدّ في طلبه عرف أنّه الحجّة وأنّ له الطاعة المفترضة ، وأنّه لابدّ من نصب وصيّ بعد الرسول وقبل مجيء رسول آخر لحفظ شرعه والأمر بالمعروف والعدل والإحسان لئلاّ يكون للناس

٣٠٨

على الله حجّة بعد الرسل ، فيجب على الناس طلب ذلك الحجّة ، فإذا طلبوه وجدّوا في طلبه عرفوه.

وللحديث معنيان آخران لا تعلّق لهما بالمقام ، وأمّا النبوّة الخاصّة ونبوّة نبينّا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطريق العلم فيها المعجزات الّتي منها القرآن ، وما تواتر من صفاته الحسنة وأخلاقه المستحسنة وغير ذلك ممّا قرّر في مظانّه.

وقد يدرك صدقه بالبلوغ إلى الصفات الكامنة الّتي يتبعها أحكام شرعيّة ويختصّ بالعقول السليمة.

ومن هنا قيل : إنّ من أعلام نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، أي يأمر بما تشهد العقول السليمة بكونه معروفا وينهى عمّا تشهد بكونه منكرا ويحلّ ما تشهد بكونه طيّبا.

ومنه ما حكي عن الأعرابي حيث أسلم من غير إعجاز فقيل له : عن أيّ شيء أسلمت؟

وماذا رأيت منه؟ فقال : « ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى ، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أباحه ».

وكذا الكلام في إمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام وأدلّتها العقليّة والنقليّة من الآيات والنصوص والكرامات وخوارق العادات الصادرة منهم ، ولا سيّما فضائلهم وفواضلهم وأحوالهم وأخلاقهم وأفعالهم وعلومهم وعباداتهم وعطاياهم وشجاعاتهم وصبرهم على البلايا وتحمّلهم لها وغير ذلك ، فإنّ جميع ذلك فيهم عليهم‌السلام من خوارق العادات الّتي لا يسمح الزمان بمثلها في غيرهم المفيدة لمن راعى الإنصاف وجانب الاعتساف وخلع عن نفسه الأضداد والأنداد العلم بإمامتهم.

وأمّا أدلّة المعاد وكونه جسمانيّا من العقل والنقل المتواتر كتابا وسنّة وغيرهما فكونها قطعيّة مفيدة لليقين واضح للمنصف الغير المتعسّف ، وإذا ظهر وجود المقتضي للوصول إلى الواقع في المعارف واصول العقائد ـ على معنى وجود الأدلّة القاطعة على هذه ـ انقدح كون المجتهد المخطئ فيها مقصّرا.

وتوضيح ذلك : أنّ الدليل مأخوذ من الدلالة بمعنى كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، والمراد بالشيء الآخر هو النتيجة وبالشيء الأوّل مجموع مقدّمتي القياس ، فإنّه باعتبار اشتماله على الأوسط محمولا في الصغرى وموضوعا في الكبرى مثلا ـ كما

٣٠٩

في الشكل الأوّل ـ بحيث يلزم من العلم به العلم بالنتيجة بملازمة عقليّة مستندة إلى ذاتي المقدّمتين والنتيجة ، وهي الّتي عبّر عنها بالاستلزام لذاته في تعريف الدليل على مصطلح المنطقيّين ، فإنّه قولان فصاعدا يستلزم لذاته قولا آخر ، فالاستلزام لبداهة حكم العقل بالملازمة بعد تحقّق الملزوم بيّن لا يمكن الاسترابة فيه.

نعم إنّما يتطرّق الاسترابة عند القدح في الدليل إلى الملزوم بالقدح في الصغرى أو الكبرى ، فالخطأ في البرهانيّات الّتي تتألّف من اليقينيّات ـ المستندة تارة إلى العقل المستقلّ ، واخرى إلى الوجدان ، وثالثة إلى الحسّ ، ورابعة إلى الحدس ، وخامسة إلى التجربة ، وسادسة إلى التواتر ـ إنّما ينشأ من عدم تحقيق الملزوم لا من قصور الملازمة مع تحقّق الملزوم ، كيف لا واستلزام القياس الصحيح الصورة للنتيجة على ما بيّنّاه ضروريّ الثبوت ، فالطالب للعلم بالنتيجة النظريّة لابدّ له من الاجتهاد وبذل الجهد واستفراغ الوسع في تحقيق الملزوم الّذي يرجع إلى إحراز الصغرى وإحراز الكبرى.

فدليل نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلا هو قولنا : « إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آت بالمعجزة ، وكلّ آت بالمعجزة نبيّ » فمن لم يبلغ اجتهاده إلى الإذعان به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا جرم يكون عدم بلوغه لضرب من المسامحة والمساهلة في الطلب الّذي مرجعه إلى التقصير في تحصيل الصغرى المذكورة ، فمن تردّد النبوّة الخاصّة في نظره ابتداء بعد التفطّن والالتفات واحتمالها في محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا يجب عليه بذل الجهد واستفراغ الوسع بالرجوع إلى المسلمين ومزاولة كتبهم الموضوعة في الكلام وفي الأخبار وغيرها ، وممارسة القرآن ومجالسة علمائهم ومسألتهم وعرض الشبهات الّتي قرعت سمعه عليهم لرجاء تحصيل الصغرى فيهم بالاطّلاع على معجزاته وخوارق عاداته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن لم يفعل ذلك مع الاحتمال المذكور حتّى استقرّ الشكّ في نفسه أو ترجّح في نظره نبوّة موسى أو عيسى عليهما‌السلام كان متسامحا في طلبه متساهلا في نظره واجتهاده ، وظاهر أنّ المتسامح والمتساهل في الشيء الفائت منه مقصّر في طلب ذلك الشيء.

وهذا معنى ما في احتجاج الجمهور وجماعة من أساطين أصحابنا من « أنّ الله تعالى كلّف بالعلم ونصب عليه دليلا قاطعا فالمخطئ له مقصّر فيبقى في العهدة » فما عليه الجمهور من إثبات التقصير على المجتهد المخطئ ». للدليل المنصوب على الحقّ هو الأوفق بالصواب ، فيكون بتقصيره تاركا للمأمور به وهو العلم من غير عذر ، فيكون آثما ومستحقّا للعذاب الدائم.

٣١٠

فإن قلت : إنّ التقصير في امتثال التكليف إنّما يستتبع الإثم إذا كان المكلّف المقصّر متفطّنا بتقصيره دون غيره لقبح تكليف الغافل ، فإنّه قد يقصّر في مقدّمات النظر واقعا ولا يتفطّن بتقصيره.

قلت : إنّ الغفلة عن التقصير ممّا لم نتحقّق معناه ، فإنّ مفروض المسألة أنّ الله تعالى كلّف بالعلم وتمكّن المكلّف من تحصيله بالتمكّن من الاطّلاع على الأدلّة الموجودة الموصولة إليه ، ولم يؤدّ من استقصاء النظر في طلبه واستفراغ الوسع للاطّلاع على الأدلّة الموصلة إليه اختيارا ـ مع إمكانه واحتمال وجودها ـ حقّه ، وهو الّذي يعبّر عنه بالتقصير ويلزم منه أنّه ترك الامتثال اختيارا ولو باعتبار كونه متولّدا من الترك الاختياري على حدّ الأفعال التوليديّة ، فيكون آثما ويعاقب عليه.

وبالجملة استفراغ الوسع في طلب العلم بالمعارف الحقّة لا يتأدّى حقّه إلاّ بالرجوع إلى أدلّة ما احتمل كونه حقّا من الأديان الّتي منها دين الإسلام ، فمن ترجّح في نظره بعد الاجتهاد دين اليهود والنصارى أو غيرهما بعد ما احتمل حقّيّة دين الإسلام فرّط في نظره وقصّر في اجتهاده لا محالة ، حيث لم يرجع إلى المسلمين ولم يستوف النظر في أدلّتهم ولم يسأل علماءهم ليرفعوا شبهاته أو لم يعمّق التأمّل في أدلّتهم أو لم يخل نفسه عن الأضداد والأنداد ، نظرا إلى أنّ خلوّ الذهن عن الضدّ المنافر قبل النظر في الدليل شرط في حصول العلم أو معين فيه على رأي ، بخلاف الضدّ الغير المنافر كظنّ المطلوب قبل النظر فإنّه معين في حصول العلم به بالاستدلال ، وإلاّ لوجب وصوله إلى الواقع وحصول العلم له بالحقّ وهو دين الإسلام كما كان يتّفق كثيرا في المائلين من الملل الباطلة إليه من زمن الأئمّة عليهم‌السلام إلى زماننا هذا.

ومن ذلك ما رواه الكليني في اصول الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم ، قال : كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أشياء فخرج إلى المدينة يناظره ، فلم يصادفه بها ، وقيل له : إنّه خارج بمكّة فخرج إلى مكّة ، ونحن مع أبي عبد الله عليه‌السلام فصادفنا ونحن مع أبي عبد الله عليه‌السلام في الطواف ، فكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد الله ، فضرب كتفه كتف أبي عبد الله عليه‌السلام فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما اسمك؟ فقال : اسمي عبد الملك ، قال : وما كنيتك؟ قال : كنيتي أبو عبد الله ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : فمن هذا الملك الّذي أنت عبده أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ قل ما شئت

٣١١

تخصم قال هشام بن الحكم فقلت للزنديق : أما ترد عليه؟ قال : فقبّح قولي ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا فرغت من الطواف فأتنا ، فلمّا فرغ أبو عبد الله عليه‌السلام أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد الله عليه‌السلام ونحن مجتمعون عنده ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام للزنديق : أتعلم أنّ للأرض تحتا وفوقا؟ قال : نعم ، قال : فدخلت تحتها؟ قال : لا ، قال : فما يدريك ما تحتها؟ قال : لا أدري إلاّ أنّي أظنّ أن ليس تحتها شيء ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فالظنّ عجز لما لا تستيقن.

ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أفصعدت السماء؟ قال : لا ، قال : فتدري ما فيها؟

قال : لا ، قال : عجبا لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل الأرض ولم تصعد السماء ولم تجز (١) هناك فتعرف ما خلقهنّ وأنت جاحد بما فيهنّ ، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟

قال الزنديق : ما كلّمني بهذا أحد غيرك ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ولعلّه ليس هو؟

فقال الزنديق : ولعلّ ذلك.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم ولا حجّة للجاهل ، قال : يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فأنّا لا نشكّ في الله أبدا ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان ، قد اضطرّا ليس لهما مكان إلاّ مكانهما ، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان ، وإن كان غير مضطرّين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا؟ اضطرّا والله يا أخا أهل مصر إلى دوامهما ، والّذي اضطرّهما أحكم منهما.

فقال الزنديق : صدقت.

ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أخا أهل مصر إنّ الّذي يذهبون إليه ويظنّون أنّه الدهر إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردّهم؟ وإن كان يردّهم لم لا يذهب بهم القوم مضطرّون يا أخا مصر أم السماء مرفوعة والأرض موضوعة ، لم لا تسقط السماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها؟ فلما يتماسكان ولا يتماسك من عليهما؟

قال الزنديق : أمسكهما الله ربّهما وسيّدهما.

قال : فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال له حمران : جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يديك فقد آمن الكفّار على يدي أبيك.

__________________

(١) من الجواز بمعنى العبور ( منه ).

٣١٢

فقال المؤمن الّذي آمن على يدي أبي عبد الله عليه‌السلام : اجعلني من تلامذتك.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا هشام بن الحكم خذه إليك فعلّمه ـ وكان هشام معلّم أهل الشام وأهل مصر ـ الإيمان وحسّنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبد الله عليه‌السلام.

أقول : الظاهر أنّ الزنديق بعد ما بلغه عن أبي عبد الله عليه‌السلام من علمه وفضله ومناقبه أشياء خرج إليه متخاصما أو مستبصرا وتكلّمه عليه‌السلام معه في الطواف بما يتعلّق باسمه وكنيته تنبيها له على أنّ في الأسماء والأعلام والكنى شهادة بما كان ينكره الزنادقة من وجود الصانع للعالم المالك للسموات والأرضين المعبود بالحقّ فيها ، قصدا إلى كسر سورته ولأن يعتريه وهن في اعتقاده الفاسد ، ولمّا كان الخلوّ عن الضدّ المنافر شرطا في حصول العلم بالاستدلال وإنّ الشاكّ جاهل والجاهل لا حجّة له على العالم وبذلك يبطل خصومته فقصد عليه‌السلام قبل الاستدلال على وجود الصانع إلى إخلاء ذهن الزنديق عن اعتقاده المذكور بعد توهينه بما تقدّم تنبيها له على جهله وعلى عدم حجّة له عليه وتوصّلا إلى الاستدلال عليه بما أفاده العلم بوجود الصانع ، فأعطاه للإخلاء قاعدة كلّية يرشد إليها العقل والاعتبار وعبّر عنها عليه‌السلام بقوله عليه‌السلام : « عجبا لك لم تبلغ المشرق » إلى قوله : « وهل يجحد العاقل ما لا يعرف ».

وملخّص هذه القاعدة : أنّ ما لا دليل على عدمه لا سبيل إلى إنكار وجوده قطعا أو ظنّا ، وغايته الشكّ في الوجود والعدم ، كما أنّ ما لا دليل على امتناعه لا سبيل إلى إنكار إمكانه ، وأصل العدم لا يفيد شيئا وعلى تقدير إفادته الظنّ الضعيف فهو لا ينهض حجّة على العالم.

وإنّما فرض مورد هذه القاعدة فيما تحت الأرض وما في السماء وما خلف المشرق والمغرب ، تنظيرا لصانع العالم الّذي هو عند مثبتيه ليس في جهة ولا مكان وليس بمرئيّ بما هو على تقدير وجوده في مكان وفي جهة ومرئيّ لمن دخل تحت الأرض أو صعد السماء أو بلغ المشرق أو المغرب ، في أنّه لا يسوغ إنكار وجوده لمجرّد عدم معرفته وعدم قيام دليل على عدم وجوده ، بل هو أولى بعدم جواز إنكار وجوده من غير دليل.

وقوله : « إلاّ أنّي أظنّ أن ليس تحتها شيء » جري على ما هو متعارف في العادات من الجواب بالظنّ عند العجز عن الحكم بعنوان الجزم بأحد الطرفين لانسداد باب العلم أو عدم استفراغ الوسع في طلبه قال عليه‌السلام : « فالظنّ عجز لما لا تستيقن » ومعناه : أنّ جوابك

٣١٣

بالظنّ دون الحكم عجز من تركك طلب اليقين بالوجود بناء على كون « اللام » للتعليل ، وهذا تعريض على الزنديق بتقصيره في طلب اليقين بوجود الصانع ، إذ لو طلبه لوجده سريعا بالضرورة.

وأمّا دعوى الظنّ فإمّا لأنّه من أصله كان ظانّا أو لانقلاب جزمه ظنّا بتوهين الإمام عليه‌السلام أو إشعاره بالقاعدة المشار إليها ، أو لأنّ الظنّ قد يشتبه حاله فيظنّه صاحبه جزما لعدم التفاته إلى منشأ الاحتمال ، فسؤاله عليه‌السلام هنا أوجب التفاته إلى منشأ الاحتمال ، وقوله : « ما كلّمني بهذا أحد غيرك » اعتراف منه وإقرار بأنّه لا ينبغي للعاقل جحد ما لا يعرف ، ولو كلّمه بهذا لما جحد.

وقوله عليه‌السلام : « وأنت من ذلك في شكّ » طلب إقرار منه بشكّه وعدم كون جحده عن اعتقاد جزمي ولا ظنّي لزواله ـ لو كان ـ بما استشعر وتنبّه عليه من القاعدة في ضمن النظر.

قوله عليه‌السلام « فلعلّه هو » تفسير لصورة الشكّ العارضة للزنديق ، والضمير المتّصل فيه وفيما بعده راجع إلى « ما بينهنّ » مثلا والمنفصل من أسماء الصانع تعالى ، وقول الزنديق : « ولعلّ ذلك » أي لعلّني في شكّ من ذلك ، ولم يصرّح بكونه شاكّا وإنّما ذكره بصورة الاحتمال لكونه شاكّا في شكّه وإن بعد تحقّقه.

ثمّ إنّ الإمام عليه‌السلام بعد ما أحسّ خلوّ ذهن الزنديق عن الضدّ المنافر ألزمه بعدم حجّة له لكونه جاهلا عليه عليه‌السلام لكونه عالما ، فأمر بالتفهّم وتطلّب العلم بوجود الصانع ، واستدلّ له عليه بخمسة أوجه دعته إلى الإيمان والإقرار به.

ومن المعلوم أنّ جميع الزنادقة لو صنعوا مثل ما صنع هذا الزنديق وخرجوا في طلب العلم واستفراغ الوسع لاطّلعوا على الدليل الموصل إلى العلم وحصل لهم العلم.

فإن قلت : إنّ تكليف المخطىء بنقيض اجتهاده تكليف بما لا يطاق كما تقدّم في احتجاج الجاحظ.

قلت : المحال إنّما هو التكليف بالعلم بشرط مؤدّى الاجتهاد وهو الاعتقاد المخالف جزما أو ظنّا ، لا التكليف بالعلم حال الخلوّ عن هذا الاعتقاد ، فهذا المجتهد قبل اجتهاده المؤدّي إلى الاعتقاد المخالف كان مكلّفا بتحصيل المعارف لا محالة لبطلان عدم تكليفه بشيء بالضرورة.

وحينئذ فإمّا أنّه كان مكلّفا بنقيض اجتهاده وهو العلم ، أو بمؤدّاه وهو الاعتقاد

٣١٤

المخالف ولو ظنّا ، أو بأحد الأمرين على وجه التخيير ، أو أحدهما على وجه الترتيب ، على معنى كون تكليفه بالاعتقاد المخالف معلّقا على فوات العلم وعدم اتّفاق حصوله.

فإن اريد الأوّل فهو وإن كان صحيحا غير أنّ نفي التكليف بنقيض الاجتهاد لا يوافقه إلاّ إذا اريد به نفي بقاء التكليف بالعلم ، لئلاّ يلزم من بقائه التكليف بما لا يطاق ، ومرجعه إلى دعوى سقوط التكليف بالعلم.

ولا ريب أنّ السقوط لا بدّ له من مسقط ، وهو إمّا حصول الامتثال ، أو حصول العصيان بناء على سقوط الخطاب في زمان المعصية بنفس المعصية ، أو طروّ العذر.

والأوّل خلاف الفرض ، فإنّ الامتثال إنّما يحصل بأداء المكلّف به ولم يحصل هنا.

والثاني يثبت المطلوب ، وهو الإثم الناشىء عن التقصير المفضي إلى العذاب الدائم ، فإنّ عدم اتّفاق حصول العلم مع وفور الأدلّة الموصلة إليه ووضوحها يكشف عن تسامحه في طلبه واستفراغ الوسع لتحصيله فيكون مقصّرا ، وهذا في معنى تركه الامتثال اختيارا كتارك الخروج مع الرفقة بعد الاستطاعة الّذي هو في معنى ترك الحجّ في موسمه ، فهذا هو الإثم الموجب للعذاب الدائم المستلزم لسقوط الخطاب ، إذ لا معنى لبقائه في زمان المعصية.

غاية الأمر أنّ سقوطه قارن تأدية الاجتهاد المقصّر فيه إلى طروّ الاعتقاد المخالف ، وهو لا يرفع الإثم المتحقّق بل ولا حكمه وهو استحقاق العذاب الدائم.

والثالث يدفعه : أنّ العذر الطارىء إن كان فقد المقتضي للوصول إلى الواقع فقد عرفت وجود الأدلّة القاطعة المفيدة للعلم ووفورها ووضوح دلالاتها ، وإن كان انتفاء شرط اقتضائه فإن كان الشرط أمرا اختياريا كالنظر وطلب الدليل واستفراغ الوسع في طلبه فانتفاؤه مستند إلى اختيار المكلّف ، والقول به التزام بالتقصير المفوّت للامتثال الملازم للإثم وهو المطلوب ، وإن كان أمرا خارجا من الاختيار كالقدرة على النظر والتمكّن من استفراغ الوسع ففرض انتفائه خروج من مفروض المسألة ، إذ الكلام في المجتهد الجامع لشروط الاختيار المتمكّن من النظر كما هو حقّه.

وإن كان وجود المانع من الاقتضاء كسبق الشبهة وهو الاعتقاد المخالف المفروض حصوله.

ففيه : أنّ طروّ هذا المانع مسبوق بالتقصير المتحقّق من جهة التسامح في الاستنباط فيكون تحقّق الإثم سابقا على طروّ الشبهة ، ومن الظاهر أنّ العذر اللاحق لا يرفع الإثم

٣١٥

السابق ولا أثره ولو فرضت الشبهة سابقة على الاجتهاد ، فعدم زوالها بالاجتهاد أيضا يكشف عن عدم استفراغ الوسع كما هو حقّه ولو بالرجوع إلى أهل العلم وغيرهم ممّن لم يسبقه هذه الشبهة كما رجع الزنديق إلى الإمام عليه‌السلام فزالت شبهته.

وإن اريد الثاني ففيه : أنّه لم نقف من العلماء على من التزم بوقوع التكليف في المعارف على الاعتقاد المخالف خاصّة ولو ظنّا ، فهو باطل لعدم قائل به مع مخالفة الأدلّة القاطعة القاضية بإناطة التكليف في اصول الدين بالعلم.

نعم ربّما يظهر من الكلمات المتقدّمة في الاعتراض على ثاني تقريري حجّة الجمهور وجود القول بوقوع التكليف على الظنّ وإن لم يطابق ، حيث قيل فيه : « بمنع نصب الأدلّة القاطعة وتمكّن العقلاء من معرفتها ، ولو سلّم فهو لا يقتضي أمرهم بالعلم ، فجاز كونهم مأمورين بالظنّ الغالب سواء كان مطابقا أو لا فيعذر الآتي به ، ويدلّ على أنّ التكليف إنّما وقع بالظنّ إنّ اليقين التامّ المتولّد من البديهيّتين متعسّرا لا يصل إليه إلاّ الآحاد فلا يقع التكليف به لجميع الخلق لقوله عليه‌السلام : « بعثت بالشريعة السهلة السمحة » ولا حرج أعظم من تكليف الإنسان في لحظة واحدة بمعرفة ما عجز الخلق عن معرفته في خمسمائة سنة ، ولأنّا نعلم أنّ الصحابة لم يكونوا عالمين بهذه الأدلّة والدقائق والجواب عن شبهات الفلاسفة » انتهى ملخّصا.

والجواب : أنّ تجويز وقوع التكليف في الاصول بالظنّ ـ وإن لم يطابق ـ طرح للآيات المتكاثرة الواردة في ذمّ متّبعي الظنّ في الاصول ، مع كون موردها الكفّار واشتمال بعضها على التعليل بأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا ، فيفيد مطلوبيّة العلم فيها وعدم مطلوبيّة الظنّ أصلا ، إمّا لأنّ معناه : أنّ الظنّ ليس بدائم المصادفة للواقع بناء على كون المراد من الحقّ هو الواقع ، أو لأنّ معناه أنّ الظنّ لا يقوم مقام العلم بناء على كون المراد من الحقّ هو العلم.

وأمّا الاستدلال على الجواز بتعسّر اليقين التامّ المتولّد من البديهيّتين ، ففيه : أنّا لا نعتبر اليقين بل نكتفي بالعلم وهو متيسّر الحصول لجميع الخلق مع انتفاء القصور ، ولو اعتبرنا اليقين فلا نعتبر فيه كونه متولّدا من البديهيّتين بالخصوص بل نعمّمه بالقياس إليه وممّا تولّد من النظريّتين وبديهيّة ونظريّة فلا تعسّر فيه أيضا ، ولم يقل أحد بوجود تحصيل المعارف كلّها في لحظة واحدة بل في زمان يسعه ، ويختلف على حسب اختلاف الأشخاص والأفهام ومراتب الإدراك ، وما ليس فيها ما يقتضي عجز الخلق عن معرفتها في شهر أو

٣١٦

سنة فضلا عن خمسمائة سنة.

وأمّا الاستدلال بعدم علم الصحابة بتلك الأدلّة والدقائق والجواب عن شبهات الفلاسفة.

ففيه : أنّه إن اريد من الصحابة الجبت والطاغوت وأتباعهما فهم لم يكونوا عالمين بها بل بما دونها ، وإن اريد بهم الوصيّ وأبا ذر وسلمان ومقداد وأضرابهم فهم كانوا عالمين بها بل بما فوقها فلا اعتداد بعدم علم الطائفة الاولى ، على أنّ في أصل إيمان هؤلاء بل وإسلامهم ألف كلام.

وبالجملة نحو الكلمات المذكورة في الضعف والسقوط بمثابة لا ينبغي الإصغاء إليها.

وإذا ظهر بطلان الوجه الثاني يظهر منه بطلان الوجهين الآخرين أيضا إذا التخيير بين العلم وخلافه غير معقول ، لأن غير الواقع في اصول الدين ممّا لم يتعلّق بالاعتقاد به غرض الشارع أيضا فيقبح أخذه طرفا للتخيير ، غاية ما هنالك أنّ من لم يتمكّن من العلم لقصوره ونحوه لا تكليف عليه في اصول الدين ، لا أنّ تكليفه في الاعتقاد المخالف جزما أو ظنّا.

ومن هنا ظهر سقوط احتمال الوجه الأخير ، إذ غاية ما يلزم من عدم التمكّن من العلم في الواقع إنّما هو سقوط التكليف رأسا لا تعلّقه بما ليس بمطلوب للشارع أصلا ، فالقاصرون من الكفّار لعدم تماميّة الحجّة عليهم لا تكليف عليهم في موارد قصورهم بالواقع لا أنّهم مكلّفون بخلاف الواقع.

فظهر أنّ ما عليه الجمهور من إثبات الإثم على المخطىء في العقائد عن نظر واجتهاد لتقصيره وعدم استيفائه النظر وعدم استفراغه الوسع في طلب الأدلّة القاطعة الموصلة إلى الواقع أوفق بالصواب.

لكن هذا كلّه في كلّيات المعارف واصولها الكلّية من نحو وجود الباري عزّ وجلّ وتوحيده وصفات كماله الراجعة إلى العلم والقدرة ونفي الحدوث ، والحاجة بنبوّة نبيّنا وما جاء به من الله ، وإمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام ومعاد الآخرة في الجملة وغير ذلك ممّا يمتاز به فرق الكفر عن أهل الإسلام ، وأمّا جزئيّاتها وتفاصيلها الّتي يختصّ الخلاف بها بالمسلمين على فرقهم المختلفة كتجرّده تعالى وعينيّة صفاته وعدم إمكان رؤيته وعدم جسميّته وعدم كونه خالقا لأفعال العباد ، وصفات النبيّ والوصيّ وغير ذلك ممّا لا يحكم بكفر مخالف الواقع ومنكر الحقّ فيها بالذات ـ وإن كان قد يكفر لعارض مثل صيرورته

٣١٧

ضروريّا من الدين أو المذهب ـ فالمخطئ فيها عن نظر واجتهاد قد يتكلّم في حكمه من حيث الكفر وعدمه ، وقد يتكلّم فيه من حيث [ الإصابة ] وعدمه.

وأمّا الكلام في الإصابة والخطأ فهو مستغنى عنه ، لأنّ الواقع في غير الامور الجعليّة ممّا لا يقبل التعدّد ولا الاختلاف ، فلئلاّ يلزم اجتماع النقيضين ولا الضدّين لابدّ وأن يكون المصيب من المختلفين في المسائل المذكورة واحدا وغيره مخطئا. وأمّا كفر المخطئ فينبغي القطع بعدمه ، لما أشرنا إليه من أنّ إنكار الحقّ في أمثال هذه المسائل لا يوجب بالذات كفر منكره ، ولا يخرج بإنكاره من حيث هو عن ربقة المسلمين ، وأمّا الإثم وعدمه فيدوران على التقصير في النظر والاجتهاد وعدمه ، فالحكم الكبروي بعد تحقّق موضوعه من التقصير والقصور واضح لا ينبغي التأمّل فيه ، فالمقصّر آثم لا محالة كما أنّ القاصر لا إثم عليه بالضرورة ، وإنّما يتحقّق القصور هنا كثيرا من تعارض أدلّة أكثر هذه المسائل وظنّيتها ، ومن شأن الأدلّة المتعارضة والأدلّة الظنّية بعثها على خطاء الناظر فيها كثيرا.

وأمّا التكلّم في تقصير المخطئ فيها كلّيا أو قصوره كذلك ، أو التقصير في الجملة والقصور كذلك الّذي هو كلام في الصغرى فممّا لم يحم حوله أحد.

والّذي يظهر من طريقة الأصحاب إمساكهم عن الحكم بالإثم لمجرّد ذلك مع قطع النظر عن موجباته الاخر ، كيف ولزم منه إثبات التقصير على فحول علمائنا الصالحين وأعيان فضلاء مجتهدينا الماضين المختلفين في كثير من تفاصيل المعارف ، وهو في معنى تفسيقهم بل تكفيرهم في بعض الأحيان ، وهو كما ترى ممّا لم يعهد الجرءة عليه من أحد.

ألا ترى أنّه قد وقع بين الشيخ المفيد وعلم الهدى قدس‌سرهما من الاختلاف في العقائد ما يقرب من مائتين على ما ضبطوه ، وظاهر أنّ المحقّ منهما في الجميع أحدهما ولم يحكم أحد بفسق واحد منهما.

المسألة الثانية

في التخطئة والتصويب في العقليّات الاصوليّة أعني مسائل اصول الفقه ، وحيث إنّها أيضا من الامور الواقعيّة الغير المنوطة بالجعل فالواقع فيها أيضا ممّا لا يتحمّل التعدّد ولا الاختلاف ، ولا يتكثّر على حسب كثرة الآراء والاعتقادات ، فمن أدركه في المسائل الخلافيّة فهو مصيب وغيره مخطئ ، لا أنّ الجميع مصيب دفعا لاجتماع المتناقضين أو المتضادّين.

٣١٨

وينبغي القطع بعدم كون المخطئ فيها كافرا ، إذ ليس فيها ما يوجب إنكاره أو القول به الكفر إذا كان خلاف الواقع لا بالذات ولا لعارض ، لعدم كون شيء منها ممّا أخذ الاعتقاد به في الإيمان ، ولا ممّا يستلزم إنكاره إنكار أصل من اصول الدين.

وتوهّم أنّ بعض مسائل الحجّية كحجّية ظواهر الكتاب أو خبر الواحد أو نحوه إذا علم كونه ممّا أتى به الرسول فإنكاره يوجب الكفر لاستلزامه تكذيب الرسول.

يدفعه : أنّ شرط لزوم الكفر من هذه الجهة أن يعلم المنكر كونه ممّا جاء به الرسول فأنكره كما في إنكار الضروريّات ، وهذا الفرض في المسائل الخلافيّة غير متحقّق من منكر الحجّية لو كان هو المخطئ ، لأنّ مرجع إنكاره إلى إنكار كونه ممّا جاء به النبيّ لا إنكار كونه حكم الله مع الإذعان والإقرار بكونه ما أخبر به النبيّ ، وهذا واضح.

نعم لو اتّفق من أنكره على الوجه الثاني أو رجع إنكاره إلى الامتناع من التديّن به وبالأحكام المستفادة منه فلا إشكال في الكفر إلاّ أنّه خارج من مفروض المسألة لأنّه معاند.

وهل يأثم المخطئ فيها إذا كان مقصّرا في اجتهاده واستقصائه النظر؟ فالوجه العدم ، لأنّ الإثم المستتبع للعقاب فرع على الخطاب ، لأنّه عبارة عن مخالفة الخطاب في الواجبات النفسيّة والمحرّمات الذاتيّة.

ولا ريب أنّ مسائل اصول الفقه ليست موردا لخطاب الشرع على وجه يكون معرفتها وتحصيلها من الواجبات النفسيّة الّتي يعاقب على تركها لا إلى بدل ومن غير عذر ، ليكون التقصير في الاجتهاد المؤدّي إلى الوقوع في مخالفة الواقع فيها في معنى ترك المعرفة الواجبة اختيارا.

لا يقال : إنّ معرفة اصول الفقه ـ على ما تقدّم في بيان شروط الاجتهاد ـ من مبادئ الاجتهاد ومقدّمات الاستنباط ، فمن وجب عليه الاستنباط عينا أو كفاية وجب استحصال مقدّماته الّتي منها معرفة هذا العلم ، فيلزم الإثم بالتقصير في تحصيلها.

لمنع كونها من مقدّمات أصل الاستنباط الّذي يقال له الاجتهاد ، بل هو كسائر الشروط ـ على ما بيّنّاه سابقا ـ من شروط الاجتهاد الملكي ، فالملكة الّتي يقتدر بها على الاستنباط موقوفة على هذه المعرفة ، وأمّا نفس الاستنباط فهو موقوف على إعمال مسائل هذا العلم

٣١٩

بعد معرفتها كلّ في الموضع اللائق به.

ولو سلّم كونها أيضا ممّا يتوقّف عليه الاستنباط ، غاية الأمر كونها شرطا بالواسطة ، بضابطة : أنّ شرط الشرط شرط ، والقائل بوجوب المقدّمة لا يخصّ الوجوب بمقدّمات نفس الواجب بل يعمّه بالقياس إلى مقدّمات المقدّمات ومقدّمات مقدّماتها وهكذا.

لكن نقول : إنّ هذا الوجوب ـ على تقدير تسليمه المبنيّ على تسليم وجوب الاستنباط على فاقد الملكة أيضا ـ غيريّ مقدّمي ، وقد تقرّر في محله أنّ الواجبات الغيريّة الصرفة الّتي منها مقدّمات الواجبات لا يستحقّ الثواب بفعلها ولا العقاب بتركها من حيث هو ، فلا إثم على ترك المعرفة من حيث هو.

نعم هذا المقصّر إذا استنبط أحكاما فلا تكون مستنبطاته أحكاما فعليّة له ولا لغيره ممّن أراد تقليده ، لأنّ الّذي ظهر من أدلّة حجّية مستنبطات المجتهد إنّما هو كون مستنبطات المجتهد الغير المقصّر في مقدّمات اجتهاده أحكاما فعليّة في حقّه وحقّ مقلّديه لا غير.

وحينئذ فلو أفتى بتلك المستنبطات كان من الإفتاء بما لا يعلم ، ومن الحكم بغير ما أنزل الله ، وهذا حرام بنصّ الآيات والروايات بل بالأدلّة الأربعة ، ولو عمل بها لنفسه كان من التديّن بما لا يعلم كونه من قبل المولى وهو قبيح عقلا وفاعله مستحقّ للذمّ والعقاب.

وهذا كلّه وإن كان من الإثم المستتبع للعقاب غير أنّه ليس من الإثم على المخطئ في مسائل اصول الفقه من تقصير في النظر من حيث إنّه مقصّر فيها كما هو واضح.

ويجري هذا الكلام بعينه في سائر مبادئ الاستنباط ومقدّماته لو فرض المخطئ فيها مقصّرا.

وربّما يشكل الحال في نفي الإثم من جهة إطلاق بعض الإجماعات المنقولة على إثم المخطئ في العقليّات كما تقدّم عن الشهيد في تمهيد القواعد بعين عبارته.

إلاّ أن يدفع : بدعوى انصرافه إلى ما يكون من العقليّات موردا للوجوب النفسي كالمعارف.

ويقوى الإشكال ـ مع عدم جريان هذا الوجه ـ بالنظر إلى كلام الشيخ في العدّة المصرّح بكون المخطئ ضالاّ فاسقا حتّى في نحو قولنا : « الظلم والعبث والكذب قبيح » و « إنّ شكر المنعم وردّ الوديعة والإنصاف حسن » كما تقدّم أيضا بعين عبارته ، بل الإشكال في كلامه من وجهين فتارة : باعتبار إثبات التقصير على المخطئ هنا إذ القاصر لا إثم عليه ، واخرى : من جهة إثبات الاثم على المقصّر كما هو لازم الفسق ، لكون مسألة التحسين

٣٢٠