تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أصل

المشهور بين أصحابنا أنّ الأمر بالشيئين أو الأشياء على وجه التخيير يقتضي إيجاب الجميع ، لكن تخييرا * (١)

________________________________

بحث في الواجب المخيّر (١) *

واعلم أنّ الأمر باعتبار الفعل المأمور به ينقسم إلى التعييني والتخييري ، وذلك لأنّ الأمر كائنا ما كان مسبوق حصوله على تصوّر الفعل المأمور به لا محالة ، فالآمر إمّا أن يتصوّر الشيء باعتبار مصلحة لا تتأتّى في الخارج إلاّ بحصول ذلك الشيء بعينه ، أو باعتبار مصلحة تتأتّى بحصوله وبحصول غيره ثنائيّا أو ثلاثيّا وهكذا لقيامها في الجميع.

فعلى الأوّل يسمّى الأمر المتعلّق بذلك الشيء : « تعيينيّا » والمأمور به واجبا معيّنا.

وعلى الثاني يسمّى الأمر : « تخييريّا » والمأمور به واجبا مخيّرا إن كان كلّ ممّا قام به المصلحة قابلا لتعلّق الطلب به ، بأن يكون من مقولة الأفعال الاختياريّة للمكلّف.

ومن خواصّ الأمر التعييني عدم حصول امتثاله إلاّ بأداء المأمور به المعيّن ، ومن لوازم الأمر التخييري حصول امتثاله بكلّ واحد من الأبدال الّتي تعلّق بها الطلب تخييرا ، ولا غرض يتعلّق بالواجب المعيّن في هذا الباب وإنّما المقصود بالأصالة من عقد الباب البحث عمّا يتعلّق بالواجب المخيّر ، فلذا لم يتعرّض الجماعة ومنهم المصنّف في هذا الباب لذكر المعيّن ، وأمّا الواجب المخيّر فتنقيح البحث فيه يستدعي رسم مقامات :

المقام الأوّل

في شرح ماهيّة الواجب المخيّر

ولمّا كان ذلك نوعا من الواجب فينبغي الإشارة أوّلا إلى ما يقضي بتحديد الواجب مطلقا.

٣

فنقول : إنّ الواجب باعتبار المبدأ مأخوذ عن الوجوب باعتبار معناه المبنيّ للمفعول ، ولمّا كان الوجوب باعتبار معناه للفاعل حسبما هو مأخوذ في مفهوم الأمر والصيغة عرفا ولغة ماهيّة مركّبة عن طلب الفعل المقرون بالمنع عن الترك فيعتبر معناه للمفعول الّذي هو أثر منه على حسبه ، فيكون الواجب المأخوذ منه عبارة : « عمّا طلب فعله ومنع عن تركه » فيخرج المباح بقيد « الطلب » والمحرّم والمكروه باعتبار تعلّقه بالفعل والمندوب بالقيد الأخير ، فسلم الحدّ في طرده ولا ينتقض في عكسه بالموسّع والمخيّر والكفائي ، لأنّ « المنع من الترك » الّذي هو فصل للوجوب لابدّ وأن يعتبر في مفهوم الواجب على حسب ما اعتبر فيه الطلب الّذي هو جنس للوجوب ، والمفروض اعتبار تعلّقه في الموسّع بالفعل في مجموع الوقت المضروب له ، فكان المنع متعلّقا بتركه في مجموع ذلك الوقت لا مطلقا ، بمعنى أنّ المطلوب لمّا كان هو الفعل في مجموع أجزاء الوقت فكان الممنوع تركه في مجموع الوقت لا مطلقا فتركه في بعض أجزائه ليس بممنوع.

واعتبار تعلّقه في المخيّر بين الإطعام والصيام ـ مثلا ـ بالإطعام المقيّد بعدم حصول الصيام ، والصيام المقيّد بعدم حصول الإطعام ، فكان المنع متعلّقا بترك المقيّدين لا الإطعام والصيام مطلقا ، بمعنى أنّ المطلوب فعل ما كان منهما مقرونا بترك الآخر ، فيكون الممنوع ترك ما كان منهما مقرونا بترك الآخر لا مطلقا ، فترك الصيام بعد حصول الإطعام ليس ممنوعا لأنّه لم يكن مطلوبا ، كما أنّ ترك الإطعام بعد حصول الصيام ليس ممنوعا لأنّه لم يكن مطلوبا.

واعتبار تعلّقه في الكفائي بجميع المكلّفين على نحو يسقط بفعل البعض عن الباقين ، فهو قبل حصول المسقط مطلوب من الكلّ فعله وممنوع تركه ، وارتفاع هذا المعنى بعد حصوله فيما لم يحصل أداؤه إنّما هو لانتفاء موضوعه ، فيصدق على كلّ واحد أنّه ما طلب فعله ومنع عن تركه ، وهذا هو الّذي يساعد إليه التدبّر في تحديد الواجب على وجه يتناول ما هو بحسب الشرع وما هو بحسب العرف في جميع أنواعه ممّا يضاف إلى العالي أو غيره.

وأمّا ما قيل في تحديده : من « أنّه ما يذمّ تاركه » ، أو « ما يذمّ تاركه لا إلى بدل » ، أو « ما يذمّ لا إلى بدل ولا عن عذر » ، أو « ما يعاقب تاركه » ، أو « ما يستحقّ تاركه العقاب » ، أو « ما يستحقّ تاركه لا إلى بدل العقاب » ، أو « ما يستحقّ تاركه لا إلى بدل الذمّ أو ذمّا » أو « ما يذمّ تاركه بوجه مّا » ، أو « ما يذمّ تاركه شرعا على بعض الوجوه » فليس شيء منها بشيء لابتنائها على اصطلاح صرف ، أو كونها تفسيرا للشيء بلازمه في أخصّ صوره ، موجبا

٤

لعدم تناوله لجملة من أنواع المحدود من جهة عراها عن استلزام الذمّ أو العقاب أو استحقاقهما كما لا يخفى ، مع انتقاض أكثرها في عكسها من جهات عديدة ، مع افتقار سلامة الباقي إلى تكلّفات واهية كما تقدّم الإشارة إليها في بحث المقدّمة.

وإن أبيت إلاّ عمّا يكون تحديدا على هذا النمط ، فالأجود أن تقول في تحديده : « بأنّه ما يذمّ تاركه ولو من جهة غيره » بالتقريب المتقدّم في البحث المذكور ، مع ما فيه من نوع تأمّل أيضا يظهر وجهه بأدنى التفات إلى ما سبق.

وأمّا المخيّر الّذي هو نوع من الواجب ومعقد للبحث هنا فلم نجد في كلام القوم حسبما حضرتنا من كتبهم تحديدا له إلاّ ما تعرّض له البهائي من حكاية تحديده بوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه في حاشية زبدته من أنّه : « ما يسقط الواجب بفعله ».

وثانيهما : ما ذكره في المتن من أنّه : « ما عيّن له الشارع بدلا من غير نوعه اختيارا » ثمّ قال ـ في توجيه القيود ـ : فخرج « بالتعيين » احتراق الميّت وبالثاني (١) صوم المسافر والموسّع والكفائي ، وبالأخير الوضوء ونحوه.

ولا يخفى ما في الأوّل منهما من الفساد الواضح ، فإنّ الموصول لو اريد به ما ليس بواجب يكون تحديدا بالمبائن ، إذ المفروض تحديد الواجب لا غيره ، ولو اريد به الواجب خاصّة ليكون المعنى : « واجب يسقط بفعله » يكون للواجب المعيّن بالخصوص أو متناولا له أيضا ، والمفروض إرادة تحديد الواجب المخيّر فلا يطّرد.

ولو اريد به ما يعمّ الواجب وغيره انتقض في طرده أيضا بفرد الكلّي ، وبفعل غير المكلّف ، وبفعل مكلّف غيره ، وبغير فعله المسبّب عن فعله ، وبفعله على وجه غير مشروع ، وبفعله إذا كان ضدّا للواجب المضيّق ، وبفعله إذا كان جزءا أخيرا من أجزاء الواجب ، وبالجزء الأخير من العلّة التامّة ، فإنّ الفرد مسقط للكلّي المأمور به ، واحتراق الميّت أو أكل السبع إيّاه مسقط لتغسيله الواجب ، ونزول المطر وورود السيل على النجس مسقط للغسل الواجب أو إزالة النجاسة عن المسجد ، ومثله نيابة الغير عنه في أداء دينه ونحوه ممّا يقبل النيابة ، والامتناع الرافع للتكليف المسبّب عن إيجاده اختيار [ ا ] سبب الامتناع مسقط لما في ذمّته من الواجب ، وكذلك غسله المحرّم كما إذا كان بماء مغصوب ، والوجه في البواقي ظاهر.

وأمّا الثاني : فيرد على عكسه التخيير في مقدّمات الواجب بناءا على وجوبها ، لعدم

__________________

(١) فإنّ له بدلا كما قال الله تعالى ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر ) ولكنّه بدل من نوعه. ( منه عفي عنه ).

٥

كون بدليّة بعض عن بعض فيها ناشئة عن تعيين الشارع ، والتخيير في غير الشرعيّات ، والتخيير فيما بين الركعتين والأربع الثابت شرعا في المواطن الأربع ، والتخيير فيما بين تسبيحة وثلاث ، وإصبع وأصابع ، وأربعين وخمسين من منزوحات البئر بناءا على وجوب القدر الزائد على الأقلّ ، إلاّ أن يراد بالمغايرة النوعيّة ما يشمل المغايرة العدديّة.

وقد يدفع أيضا بجعل التغاير في القصر والإتمام تغايرا نوعيّا ، فأورد على طرده بصوم المسافر تعليلا بأنّ مغايرة القضاء للأداء لا تقصر عن مغايرة القصر والإتمام.

ويرد على طرده أيضا التخيير في المندوبات مع أنّ البدليّة وتعيين البدل من توابع الأمر الوارد على وجه التخيير فيكون من باب التحديد باللازم ، مع أنّها وصف قائم بجميع المتعادلين لكون كلّ بدلا عن الآخر وإن كان في حدّ ذاته أصلا ، وقضيّة التعريف اختصاصها بالبعض الموجب لكون غيره أصلا على الإطلاق.

فالأولى أن يقال في تحديده : « بأنّه ما اعتبر في وجوبه قيد عدميّ راجع إلى غير شرط وجوده » فخرج المندوب المخيّر بقيد « الوجوب » وبالقيد « العدميّ » المعيّن ، وبالأخير الموسّع والكفائي والقضاء والبدل الاضطراري كالتيمّم ونحوه ، لرجوع القيد العدمي المعتبر في وجوبها إلى شروط الفعل من زمان ومكان وفاعل وتمكّن ، ولا يصير بسبب اشتماله على لفظ « الوجوب » دوريّا لعدم كونه تحديدا للواجب بل لوصفه الّذي هو « المخيّر » من حيث وقوعه وصفا للواجب الّذي علم حدّه وماهيّته ، فلا توقّف لمعرفة الوجوب المأخوذ فيه على معرفة الواجب المخيّر بل تتوقّف على معرفة الواجب المطلق وهي لا تتوقّف على هذا الحدّ ، ولا يرد على طرده الواجب المشروط إذا كان شرطه أمرا عدميّا كعدم الحيض لوجوب الصلاة على المرأة ، لأنّه ليس معتبرا في وجوب الواجب بل هو معتبر في وجوب ما ليس بواجب كما لا يخفى.

المقام الثاني

في تحقيق ما اختلف فيه أنظار الاصوليّين في الواجب المخيّر من تعيين ما تعلّق به الوجوب ، وقد ذكروا فيه أقوالا متشتّة يأتي الإشارة إليها تفصيلا والعمدة منها قولان :

أحدهما : ما عزى إلى أصحابنا وجمهور المعتزلة من أنّ الواجب كلّ واحد على البدل ، فلا يجب الجميع ولا يجوز الإخلال بالجميع وأيّها فعل كان واجبا في نفسه لا أنّه بدل عمّا

٦

هو واجب.

وثانيهما : ما نسب إلى الأشاعرة من أنّ الواجب أحدهما لا بعينه.

والحقّ مع الأوّلين إن أرادوا بما ذكروه ما نقرّره بعد ذلك ، فتحقيق القول فيه يستدعي النظر تارة فيما يقضي به القوّة العاقلة ويساعد عليه الوجدان.

واخرى فيما تساعد عليه العرف والظواهر الّتي تساق لإفادة الوجوب التخييري.

أمّا الجهة الاولى : فقد تقرّر في غير موضع أنّ الوجوب باعتبار إضافته إلى من ينشئه ماهيّة مركّبة عن طلب ومنع ، ومن المعلوم بضرورة الوجدان أنّ إنشاءه في كلّ موضع مسبوق بتصوّر محلّه ، فهو إمّا أن يكون أمرا واحدا أو أمرين فصاعدا ، والأوّل ممّا لا كلام فيه هنا.

وعلى الثاني فالأمران إمّا أن يكونا متشاركين في المصلحة أو لا.

والثاني خارج عن المبحث أيضا والأوّل هو محلّ البحث هنا ومحلّ للوجوب التخييري إذا كان الأمران قبل تعلّق الوجوب بهما مباحين أو مندوبين أو مختلفين ، دون ما إذا كان كلاهما أو أحدهما محرّما ، إذ لا يعقل تعلّق الوجوب بالمحرّم ولو تخييرا ، لأنّه ملزوم للمحبوبيّة والمحرّم ملزوم للمبغوضيّة ومن المستحيل انقلاب المبغوض محبوبا.

نعم ربّما يوجب حصول أحد الفردين عند امتثال الوجوب المتعلّق به وبمعادله تخييرا دخول ذلك المعادل في عنوان آخر كلّي محرّم فيحرم بهذا الاعتبار ، لا أنّه كان محرّما حيثما تعلّق به وبمعادله الوجوب ، كما في تزويج المرأة المطالبة للتزويج (١) من أحد الكفوين الخاطبين لها الواجب على الوليّ تخييرا ، فإنّ كلاّ منهما واجب تخييري ما لم يحصل أحدهما في الخارج ، وأمّا معه يصير الآخر محرّما لاندراجه في عنوان التزويج على ذات البعل ، وأمّا إذا كانا مباحين أو مندوبين أو مختلفين تعلّق بهما الوجوب تخييرا مقيّدين بقيد عدمي فكلّ منهما ما دام القيد باقيا واجب ولا إباحة فيه ولا ندب ما دام مقيّدا بذلك القيد ، وإذا ارتفع القيد عن أحدهما بحصول الآخر في الخارج رجع إلى ما كان عليه أوّلا من إباحة أو ندب.

فما في تهذيب العلاّمة من تقسيم الأمر بالشيئين على الترتيب وعلى البدل على ثلاثة أقسام كما أشار إليه بقوله : « يصحّ الأمر بالشيئين على الترتيب وعلى البدل ، أمّا مع تحريم الجمع كأكل المباح والميتة والتزويج من كفوين ، أو مع إباحته كالوضوء والتيمّم وستر

__________________

(١) وفي المصدر : « للزوج » والصواب ما أثبتناه.

٧

العورة بثوبين ، أو مع ندبه كخصال الظهار وكفّارة الحنث » إن اريد به ما قرّرناه فمرحبا بالوفاق وإلاّ كان واضح المنع ، إذ الجمع بين الشيئين بما هو جمع بينهما لم يقرّر له في الشريعة حكم بالخصوص كما ذهب إلى بعض الأوهام أيضا.

وعلى أيّ حال كان فالغرض الأصلي في المقام النظر في كيفيّة تعلّق الوجوب المركّب من الطلب المضاف إلى الفعل والمنع المضاف إلى الترك بالشيئين المتشاركين في المصلحة حيثما كانا صالحين لذلك ، فهو ممّا يحتمل فيه وجوه :

أحدها : أن يقال : بأنّ الآمر بعد ما فرغ عن تصوّر الأمرين يطلب كلاّ منهما بالخصوص ويمنع عن ترك كلّ بانفراده لا بشرط عدم حصول الآخر ، فيكون كلّ واجبا على كلا تقديري وجود صاحبه وعدمه ، وهذا هو الّذي نقلوه عن بعض المعتزلة.

ولكن يبطله ـ مع أنّه خلاف ما يشهد به ضرورة الوجدان وإخراج لمفروض المقام عن محلّ الوجوب التخييري مفهوما ومصداقا ـ : أنّه إذا حصل أداء أحدهما حصل معه المصلحة الداعية إلى إيجابهما ، فإن بقي الباقي على ما كان عليه من الوجوب أدّى إلى طلب الحاصل لما هو المفروض من مشاركته مع الأوّل في المصلحة وأنّه محال.

لا يقال : لو صلح ذلك محذورا لسرى إلى كثير من الواجبات العينيّة إذا اجتمع منها على المكلّف واجبان فصاعدا ، لاشتراك الجميع في مصلحة التقرّب فإنّها تحصل لا محالة بأداء الواجب الأوّل فيفضي بقاء وجوب الباقي إلى تحصيل الحاصل ، لوضوح الفرق بين ما يتّحد من المصلحة نوعا وما يتّحد منها شخصيّا ، وقد يؤخذ فيها بالقياس إلى محلّها نحو إضافة توجب صيرورتها شخصا وجزئيّا حقيقيّا غير قابل للتعدّد كالتوصّل بالقياس إلى المقدّمة ، فإنّها تجب لمصلحة التوصّل إلى الواجب ولكن لا لنوع التوصّل بل التوصّل إلى هذا الواجب ، فإذا حصل ذلك بإيجاد مقدّمة مّا لا يعقل تحصيله بعد ذلك بإيجاد غيرها ممّا شاركه في وصف الإيصال ، بخلاف ما إذا كانت المصلحة بين الواجبين واحدة بالنوع فإنّ حصول أحد أفرادها بأداء أحدهما لا يقضي بحصول الفرد الآخر ، فلا مانع في حكم العقل لو بقي الآخر على وجوبه تحصيلا للفرد الآخر من نوع المصلحة.

ولا ريب أنّ مصلحة التقرّب من هذا القبيل ، إذ الّذي يحصل بأداء الواجب الأوّل إنّما هو مرتبة خاصّة من التقرّب والمقصود من إيجاب الواجب الثاني حصول مرتبة اخرى فوق تلك المرتبة وهكذا بخلاف محلّ البحث ، فإنّ المصلحة الملحوظة فيه ليس اتّحادها

٨

اتّحادا نوعيّا كما لا يخفى على المتأمّل.

وإن خرج عن كونه واجبا (١) بدعوى كون الأوّل مسقطا عنه ـ كما يزعمه بعض المعتزلة ـ قضى بكون إيجابه أوّلا سفها ، مع أنّ الإيجاب لابدّ فيه من محبوبيّة جانب الفعل ومبغوضيّة جانب الترك ، فترك ذلك إن فرض مع المبغوضيّة إمتنع سقوط الإيجاب عنه وإن فرض لا معها إمتنع تعلّق الإيجاب من أوّل الوهلة ، ولو فرض معها أوّلا ثمّ ارتفاعها عنه بحصول الواجب الأوّل رجع إلى فرض كون المبغوض تركه مع ترك ذلك الواجب ، وهو فرض آخر يقضي بوجوبه على تقدير عدم حصول ذلك الواجب لا مطلقا حتّى يكون واجبا على كلا تقديري حصوله وعدمه.

لا يقال : لزوم كون الإيجاب سفها لخلوّه عن الفائدة محذور يرد عليك في مواضع :

منها : في المضيّقين المتزاحمين إذا تشاغل المكلّف بأحدهما ، لحكم العقل بالتخيير ولا سيّما مع اتّفاقهما في الحقيقة.

ومنها : ما لو أوجد المكلّف في نفسه سبب امتناع الامتثال بعد استقرار التكليف.

ومنها : تكليف العصاة فإنّه مع علمه تعالى بأنّه يعصي عبث.

ومنها : تكليف الكافر بالفروع بل الاصول أيضا ، لعدم ترتّب فائدة التكليف وهو الامتثال على شيء.

لأنّ تعلّق التكليف بما يسقط وجوبه من المضيّقين ليس من جهة إيجابه بالخصوص ، بل الإيجاب بالنسبة إليه وإلى سائر الأفراد واحد وأثره يتعدّد باعتبار تعدّد تلك الأفراد ، وفي حصول فائدة هذا الإيجاب يكفي في نظر العقل والعرف حصول الامتثال في ضمن غير ذلك الفرد الّذي سقط عنه الأثر باعتبار تعذّر الإتيان به ، وأنّ فائدة التكليف غير منحصرة في الامتثال بل كثيرا مّا يصحّ لفائدة قطع العذر وإتمام الحجّة ونحو ذلك ، فعدم ترتّب فائدة الامتثال على تكليف من يعصي بإيجاد سبب الامتناع اختيارا ، أو بعدم إرادة الامتثال اختيارا ، أو بعدم إيجاده لشرط الامتثال اختيارا لا ينافي ترتّب فائدة اخرى عليه كما لا يخفى.

وثانيهما : أن يقال : بأنّه بعد ما فرغ من تصوّر الأمرين يطلب كلاّ منهما ويمنع عن ترك كلّ بشرط عدم اتّفاق حصول الآخر ، مع رجوع الشرط إلى الطلب (٢) والمنع معا حتّى يكون

__________________

(١) عطف على قوله : فإن بقي الباقي على ما كان عليه من الوجوب إلخ.

(٢) بأن يكون معنى قوله : « افعل هذا أو ذاك » بحسب اللبّ إلى أن يقال : « افعل هذا إن لم تفعل ذاك ، وافعل ذاك إن

٩

الوجوب مشروطا باعتبار جنسه وفصله ، أو إلى المنع فقط حتّى يكون الوجوب مشروطا باعتبار فصله ومطلقا باعتبار جنسه.

وفيه ـ مع أنّ الاشتراط في الوجوب ممّا نفيناه رأسا عن العالم بالعواقب ـ : أنّه في خصوص المقام ممّا لا يكاد ينتظم ، فإنّ المعيار في عدم الحصول إن كان مجرّد عدم الوجود الخارجي فهما قبل الإتيان بأحدهما غير حاصلين فينبغي أن يكون كلاهما واجبين ، وإن كان عدم إرادة الإيجاد أو إرادة عدم الإيجاد فالمكلّف قد لا يريد إيجادهما معا ، أو يريد عدم إيجادهما معا فينبغي أن يكون كلاهما واجبين أيضا ، وقد يريد إيجادهما معا فينبغي أن لا يجب شيء منهما أبدا ، وقد يريد إيجاد أحدهما دون الآخر فينبغي أن يختلف الواجب باختلاف المكلّفين في الرأي ، وهو يشبه بمقالة تبرأ عنها كلّ من المعتزلة والأشاعرة ويسندها كلّ إلى صاحبه على أحد احتمالاتها.

وبالجملة لا خفاء في سخافة هذا الوجه بحيث لا ينبغي الالتفات إليه فضلا عن ذكره.

وأمّا احتمال رجوع الشرط إلى المنع فقط فهو أوضح فسادا ، فإنّ الفصل تابع للجنس في تعلّقه فعلا وعدمه فكيف يعقل فرض الجنس مطلقا والفصل مشروطا ، ضرورة استحالة تخلّف التابع عن المتبوع.

وثالثها : أن يقال : بأنّه بعد الفراغ عن التصوّر يطلب كلاّ منهما ويمنع عن تركه بشرط عدم اتّفاق حصول الآخر مع رجوع الشرط إلى المطلوب ، حتّى يكون الوجوب مطلقا والواجب مقيّدا.

وقضيّة ذلك انقسام كلّ منهما إلى قسمين باعتبار قيدين متقابلين ، أحدهما واجب وهو ما يصادف منهما عدم حصول الآخر.

وثانيهما غير واجب وهو ما يصادف منهما حصول الآخر ، فالّذي يتّصف بالوجوب من خصال الكفّارة الإطعام المصادف لعدم حصول الكسوة والتحرير ، والكسوة المصادفة لعدم حصول التحرير والإطعام ، والتحرير المصادف لعدم حصول الكسوة والإطعام ، وأمّا ما صادف منها حصول أحد الآخرين أو كليهما فليس بواجب لا مطلقا ولا مشروطا ، وهذا هو الأوجه الّذي يساعد عليه الوجدان كما ستعرفه.

__________________

لم تفعل هذا » أو يقال : « إن لم تفعل هذا فافعل ذاك ، وإن لم تفعل ذاك فافعل هذا » هذا في الفرض الأوّل ، وفي الفرض الثاني يكون معناه : « أطلب منك كلاّ من هذا أو ذاك وأمنع عن ترك هذا إن تركت ذاك وعن ترك ذاك إن تركت هذا » وهكذا. ( منه عفي عنه ).

١٠

ورابعها : أن يقال : بأنّه بعد الفراغ عن التصوّر يطلب كلاّ منهما بانفراده ويمنع عن ترك المجموع منهما من حيث المجموع ، بمعنى كون الممنوع منه والمبغوض في نظره ترك كلّ مع معادله لا ترك البعض مع أداء البعض الآخر.

وقضيّة ذلك تعلّق جنس الوجوب بالقياس إلى كلّ منهما بأمر بسيط وتعلّق فصله بأمر مركّب وهو ترك هذا وترك ذاك ، فيرتفع المنع بانتفاء أحد الجزئين ويتبعه في الارتفاع الطلب الّذي هو جنس ، إذ لا بقاء له بدون الفصل.

وهذا الوجه ما يستفاد عن بعض الأفاضل حيث قال : « إنّ حقيقة الوجوب كما عرفت هي مطلوبيّة الفعل على سبيل الحتم والجزم في الجملة ، بأن يريد الآمر صدور الفعل من المكلّف ولا يرضى بتركه بالمرّة ، فإذا أمر المكلّف بأفعال عديدة على سبيل التخيير فقد أراد حصول كلّ واحد منها على وجه المنع من ترك الجميع ، بأن لا يكون تاركا للكلّ ـ إلى أن قال ـ : فالطلب متعلّق بكلّ واحد من الأفعال الّتي وقع التخيير بينها ـ إلى أن قال ـ : لا يقال : إنّ قضيّة ما ذكر من تعلّق الطلب بكلّ واحد من الأفعال الّتي وقع التخيير بينها ـ إلى أن قال ـ : لا يقال : إنّ قضيّة ما ذكر من تعلّق الطلب بكلّ واحد منها حصول الامتثال بالفعل الثاني والثالث مثلا من تلك الأفعال وإن ارتفع المنع من الترك بفعل الأوّل مع أنّ الحال على خلاف ذلك ، إذ بعد الإتيان بواحد منها لا يبقى هناك تكليف أصلا.

لأنّا نقول : إنّ الطلب الحتمي الحاصل في المقام المتعلّق بكلّ منهما متقوّم بالمنع من الترك الملحوظ على الوجه المذكور ، فإذا فرض ارتفاع المنع من الترك بفعل واحد منها قضى ذلك بارتفاع الطلب المتقوّم به ، فلا وجه لتحقّق الامتثال بعد ذلك » انتهى.

ولا يخفى ما فيه من الوهن أيضا ، فإنّ الجنس والفصل ذاتيّان لشيء واحد فلا بدّ من تواردهما على محلّ واحد ، فالطلب إذا أضيف إلى فعل شيء يجب أن يضاف المنع أيضا إلى ترك ذلك الشيء دون غيره ممّا يبائنه ، أو المجموع منه ومن غيره ، أو الأمر المردّد بينه وبين غيره ، إذ لا يعقل تعلّق الجنس بشيء وتعلّق فصله بغير ذلك الشيء وإلاّ لم يكن فصلا له.

ألا ترى أنّ العلم بقيام زيد مركّب عن جنس وهو الاعتقاد الراجح وفصل وهو الجزم والمطابقة للواقع ، وكلّ منهما متعلّق بالقيام ولا يعقل بعد تعلّق الاعتقاد به تعلّق الجزم والمطابقة بما يبائنه وهو القعود ، ولا بالمجموع منه ومن القعود ، ولا بما يتردّد بينهما وإلاّ لما كان علما بالقيام بالخصوص ، فإذا فرض في محلّ الكلام تعلّق الطلب بكلّ واحد من الأفعال بانفراده فكيف يعقل تعلّق المنع بترك المجموع منه ومن معادلاته مع أنّه فصل له ،

١١

وترك المجموع مغاير لترك البعض ، والطلب متعلّق بفعل ذلك البعض ، بل لابدّ وأن يتعلّق المنع بترك كلّ بانفراده ليكون كلّ واجبا برأسه على سبيل التعيين ، وهو خلاف الفرض بل عدول عن مذهب الأصحاب إلى ما ذهب إليه بعض المعتزلة ، مع أنّ المقيّد إذا ورد على شيء لا يتخلّف عنه قيده وإلاّ لم يكن مقيّدا ، كما أنّ الملزوم إذا حصل في شيء لابدّ وأن يحصل فيه لازمه استحالة تخلّف اللازم عن الملزوم.

فلو سلّمنا أنّ المنع من الترك ليس فصلا للوجوب بل كان قيدا خارجا عن ماهيّته أو لازما من لوازمه لما تمّ الوجه المذكور ، لجريان قضيّة الاستحالة في الجميع على حدّ سواء.

وخامسها : أن يقال : بأنّه بعد الفراغ عن تصوّرهما ينتزع منهما أمرا مشتركا بينهما اعتبارا كمفهوم « أحدهما » فيطلبه بعينه ويمنع عن تركه ، فيكون المتّصف بالوجوب جنسا وفصلا هو القدر المشترك الاعتباري دون الخصوصيّتين ، وهذا هو الّذي نسبوه إلى الأشاعرة ولكنّه اشتباه صرف لما سيأتي.

وفيه : أنّا نجد من أنفسنا عند إنشاء التخيير الإيجابي خلاف ذلك ، فإنّ الملحوظ قبل الإنشاء ليس إلاّ الخصوصيّتين والصفة المقتضية للطلب الإلزامي ليست قائمة إلاّ بكلّ من الخصوصيّتين على تقدير عدم حصول الخصوصيّة الاخرى ، والحبّ والبغض النفسانيّين اللّذان يحرّكان إلى الإيجاب ثابتان في كلّ منهما على التقدير المذكور ، ولا داعي إلى العدول عن إيجاب الخصوصيّتين على هذا التقدير إلى إيجاب غيرهما من الأمر الانتزاعي ، بل الإيجاب أيضا يتبع سائر الامور المذكورة في تعلّقه بكلّ منهما مقيّدا بعدم حصول غيرها بحكم الوجدان.

نعم قد يتعلّق الإيجاب بذلك القدر المشترك فيما إذا كان أفراده غير محصورة ولا ملحوظة إلاّ على سبيل الإجمال ، ونظيره أفراد الواجب المعيّن على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد لا الطبائع ، فإنّ الأفراد حينئذ تلاحظ إجمالا وينتزع منها مفهوم « الأحد » فيطلب على سبيل الحتم والإلزام ، والمقام ليس منه جزما.

فبالجملة لا ريب في أنّ التخيير الإيجابي لا يقع إلاّ بين شيئين فصاعدا مع تقييد كلّ منهما بحالة عدم حصول الآخر ، فيكون الواجب هو المقيّد منهما بتلك الحالة لا مطلقا ، والتخيير يقع بين المقيّدين لا بينهما على الإطلاق ، فهما مع انتفاء القيد ليسا بواجبين أصلا لا تعيينا ولا تخييرا.

١٢

لنا على ذلك : مضافا إلى شهادة الوجدان ، دوران صفة الوجوب الكاشفة عن المحبوبيّة والمبغوضيّة وجودا وعدما مع التقييد بذلك القيد وجودا وعدما ، فنرى أنّ ترك هذا حال ترك ذاك مبغوض كما أنّ ترك ذاك حال ترك هذا مبغوض ، بخلاف ترك هذا حال فعل ذلك وترك ذاك حال فعل هذا ، إذ لا مبغوضيّة فيهما أصلا ، فيكون الممنوع ترك هذا حال عدم حصول ذاك ، وترك ذاك حال عدم حصول هذا ، وإذا انضمّ إليه الطلب الكاشف عن محبوبيّة الفعل يكون المحصّل : أنّ الواجب فعل هذا حال عدم حصول ذاك ، وفعل ذاك حال عدم حصول هذا.

وقضيّة ذلك أن لا يكون فعل هذا حال حصول ذاك ولا فعل ذلك حال حصول هذا واجبا ، والمراد بحالة الحصول حال دخول أحدهما في حيّز الوجود لا مطلق التشاغل ، بل لابدّ معه من الفراغ عن الفعل حتّى يكون الآخر غير واجب لانتفاء قيد وجوبه الموجب لعدم مبغوضيّة تركه.

وأيضا قد عرفت مرارا أنّ الوجوب مركّب من طلب ومنع ، وأنّهما ملزومان لمحبوبيّة ومبغوضيّة ، ولا إشكال في أنّ المبغوض في نظر الآمر عند الإيجاب التخييري فيما بين الشيئين كأكل الرمّان وشرب الرقي مثلا إنّما هو ترك الشيئين معا لا ترك أحدهما مع فعل الآخر ، وهو في معنى ترك هذا حال عدم حصول ذاك وترك ذاك حال عدم حصول هذا ، وظاهر أنّ « هذا حال عدم ذاك » و « ذاك حال عدم هذا » مفهوم مقيّد إذا اضيف إليه الترك كان مبغوضا.

وقضيّة ذلك كون المحبوب نقيض ذلك الترك ، وهو الفعل إذا اضيف إلى هذا المقيّد لا مطلقا ، فإنّ الوصفين المتناقضين يستدعيان موصوفين متناقضين ، ولا يعقل التناقض بين الموصوفين وهما الفعل والترك إلاّ إذا تواردا على محلّ واحد لمكان اشتراطه بوحدة الموضوع بالمعنى المتناول لجميع الوحدات الثمانية ، فإذا كان محلّ أحد المتناقضين وهو الترك المبغوض شيئا مقيّدا لابدّ وأن يكون محلّ المتناقض الآخر وهو الفعل المحبوب أيضا هذا الشيء المقيّد ، فيكون الواجب في المثال المذكور أكل الرمان مقيّدا بحالة عدم حصول شرب الرقي ، وشرب الرقي مقيّدا بحالة عدم حصول أكل الرمّان ، فأكل الرمّان حال حصول شرب الرقي وشرب الرقي حال حصول أكل الرمّان ليس بواجب ، لا سابقا على حصول ما حصل ولا لاحقا بحصوله ولا مقارنا لحصوله ، فيتحقّق بملاحظة الإيجاب على النحو المذكور بالنسبة إلى كلّ من « أكل الرمّان » و « شرب الرقي » مفهومان مقيّدان بقيدين

١٣

متقابلين تقابل الإيجاب والسلب ، والواجب من هذين المفهومين أحدهما والآخر باق على ما عليه ذلك الشيء قبل الإيجاب بعنوانه الكلّي من الحكم المقرّر له شرعا ولو بحكم الأصل من إباحة أو استحباب ، فالأصحاب مع أكثر المعتزلة إن أرادوا بما قالوه من عدم وجوب الجميع وعدم جواز الإخلال بالجميع وأيّها فعل كان نفس الواجب هذا المعنى فمرحبا بالوفاق ، وإلاّ فمع أنّه ممّا لا يكاد يتعقّل مردود عليهم.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما أوردنا في إبطال الأوّل من الوجوه المذكورة على من أوجب الجميع بعينه مع سقوط البعض بفعل غيره ، من لزوم كون إيجاب ما زاد على الواحد عبثا منافيا للحكمة ، لا يتّجه على ما قرّرناه وإن كان المقيّد الّذي هو محلّ الوجوب بحسب لحاظ الذهن متعدّدا باعتبار تعدّد الشيئين ، فإنّ المكلّف به حينئذ واحد على كلّ حال والتكليف أيضا واحد على كلّ تقدير ، وذلك لاستحالة تحقّق القيدين معا في الخارج من جهة مناقضة كلّ مقيّد لقيد الآخر.

ومن البيّن استحالة الجمع بين المتناقضين فيستحيل الجمع بين المقيّدين مع المقارنة ومع الترتيب فيستحيل التكليف بهما معا ، بل الّذي يتحقّق في الخارج واحد وهو أحد المقيّدين ، فيكون الإيجاب واحدا ولا تعدّد فيه حتّى يلزم خروج ما زاد على الواحد عبثا كما هو قضيّة الوجه الأوّل ممّا تقدّم ، ولمّا كان كلّ من هذين المقيّدين في لحاظ الذهن ملحوظا بقيد الخصوصيّة فتعلّق الإيجاب به بهذا الاعتبار لا أنّه تعلّق بالمفهوم المشترك بينهما لا بقيد الخصوصيّة ، ولمّا كان كلّ منهما في تعلّق الإيجاب به مع قيد الخصوصيّة لم يعتبر فيه تعيين بالنسبة إلى إيجاده المحصّل للامتثال فحصل التخيير بينهما بهذا الاعتبار.

فعلى هذا يصحّ أن يقال : إنّ الواجب أحدهما لا على التعيين مع اعتبار الخصوصيّة ، لا مع عدم اعتبارها ليكون الواجب مفهوم « الأحد » بعنوانه الكلّي الغير الملحوظ معه الخصوصيّة ، بأن لا يكون للخصوصيّة مدخل في الاتّصاف بالوجوب. وإلى ذلك يمكن إرجاع مقالة الأشاعرة من أنّ الواجب أحد الأبدال ، بأن يراد بالواجب ما يستقرّ في ذمّة المكلّف ، إذ من الظاهر أنّ الذمّة لا يستقرّ فيها إلاّ ما أمكن وجوده في الخارج ، ولا يوجد فيه إلاّ « الأحد » الملحوظ معه الخصوصيّة ، وأمّا مفهوم « الأحد » بما هو مفهوم ليس إلاّ أمرا ذهنيّا ولا يعقل له وجود فضلا عن إمكانه ، فيكون ما يستقرّ في ذمّة المكلّف أحد المقيّدين مع الخصوصيّة لا بشرط التعيين لينافي قضيّة التخيير ولا بشرط عدم التعيين ليمتنع إيجاده.

١٤

وإلى ذلك ينادي مثالهم المعروف من أنّ السيّد إذا قال لعبده : « أمرتك أن تخيط هذا الثوب أو تبني هذا الحائط في هذا اليوم أيّهما فعلت اكتفيت به ، وإن تركت الجميع عاقبتك ، ولست آمرك أن تجمع بينهما بل أمرتك أن تفعل واحدا منهما لا بعينه ».

وفي بيان المختصر عند تصحيح هذا المقال : « أنّ هذا الكلام معقول ولا يمكن أن يقال لم يكن مأمورا بشيء لأنّ غرضه العقاب بترك الجميع ، ولا يمكن أن يقال الجميع مأمور به فإنّه صرّح بنقيضه ، ولا واحد بعينه لأنّه صرّح بالتخيير ، فلا يبقى إلاّ أن يقال : المأمور به واحد لا بعينه » فإنّه إن لم يكن نصّا ظاهر فيما قرّرناه من أنّ الممنوع والمبغوض ترك الجميع ، فيكون الواجب أحدهما مع الخصوصيّة لا على التعيين ، ولا يتّجه ذلك إلاّ إذا لوحظ كلّ منهما بالخصوص حال عدم حصول الآخر ، لمكان التنصيص بـ « لست آمرك أن تجمع بينهما » فقولهم : « لا بعينه » وصف للواجب لا أنّه قيد لما حصل له وصف الوجوب وشرط فيه ، بمعنى أنّ الواجب شيء لم يعتبر فيه تعيين كما في الواجب المعيّن لا أنّه شيء بشرط عدم التعيين.

وأقوى ما يرشد إليه أيضا ما ذكره الحاجبي عند دفع اعتراض المعتزلة على الأشاعرة في مقالتهم بأنّ غير المعيّن مجهول ويستحيل وقوعه فلا يكلّف به ، من أنّه معيّن من حيث هو واجب وهو واحد من الثلاثة فينتفي الخصوص ، فصحّ إطلاق غير المعيّن عليه.

وحاصل مراده : أنّ واحدا من الثلاثة له اعتبارات ثلاث :

أحدها : الواحد بشرط التعيين.

وثانيها : الواحد بشرط عدم التعيين.

وثالثها : الواحد لا بشرط التعيين ولا بشرط عدم التعيين.

والأوّل باطل لمنافاته قضيّة التخيير ، والاعتراض إنّما يتّجه لو كان الواجب الواحد باعتباره الثاني وليس بمراد في المقام ، فتعيّن الواحد بالاعتبار الثالث وهو لكونه لم يعتبر فيه تعيين من جهة إلغاء خصوصيّته المتشخّصة حين الإيجاب صحّ وصفه بغير المعيّن ، ووصفه بغير المعيّن من جهة عدم اعتبار تعيين فيه لا ينافي كونه معيّنا في حدّ ذاته من جهة كونه بالخصوص محلاّ للوجوب لا باعتبار المفهوم المشترك بينه وبين غيره من الثلاثة ، ولكونه لم يعتبر فيه عدم التعيين صحّ تعلّق التكليف به.

وعلى هذا فلا وقع لما أورده بعض الفضلاء على أصحاب تلك المقالة بقوله : « من قال بأنّ الواجب في صورة التخيير هو أحد الامور إن أراد به مصداقا لا بعينه.

١٥

ورد عليه ما مرّ من امتناع وجوده في الخارج ، وإن أراد به المفهوم الحاصل في ضمن الأفراد كما نصّ عليه الحاجبي والعضدي اتّجه عليه إشكالان :

الأوّل : أنّه لا يتمّ على عدم وجود الطبائع في الخارج كما يراه الحاجبي حيث اختار عدم تعلّق الأمر بالطبيعة وخصّ تعلّقه بالأفراد ، واحتجّ عليه بامتناع وجود الكلّي في الخارج مع أنّه قد اختار في المقام أنّ الواجب مفهوم « الأحد » الحاصل في الأفراد فبين ما اختار في المقامين تدافع.

والثاني : في أنّ الطلب المتعلّق بمفهوم « الأحد » غير متعلّق به باعتبار كونه مفهوم « أحد » وإلاّ لامتثل بإتيان غير المذكور ، بل متعلّق به باعتبار كونه مقيّدا بأحد الامور المذكورة.

ولا ريب أنّ المفهوم المقيّد بكلّ واحد يبائن المفهوم المقيّد بالآخر كنفس القيد ، إذ قضيّة مبائنة القيود مبائنة التقييد المقتضية لمبائنة المقيّدات من حيث كونها مقيّدات ، فإن تعلّق الوجوب بواحد من تلك القيودات لا بعينه كان مبهما وورد عليه ما مرّ من أنّه ممتنع ، وإن تعلّق بمفهوم أحدها عاد الكلام إليه » انتهى.

لجواز أن يختار الشقّ الأوّل ويدفع المحذور بجعل « لا بعينه » وصفا للواجب بعد تعلّق الوجوب به باعتبار خصوصيّته المتعيّنة من جهة عدم اعتبار تعيين فيه من حيث عدم انحصار طريق الامتثال في أدائه ، لا قيدا فيما يحصل له وصف الوجوب ليكون له مدخل في الاتّصاف به.

وأن يختار الشقّ الثاني ـ وإن كان خلاف التحقيق بملاحظة ما قرّرناه في إبطال الأخير من الوجوه المتقدّمة ـ ويذبّ عن أوّل الإشكالين بإبداء الفرق بين المقامين بكون مفهوم « الأحد » هنا كلّيا منتزعا عن الأفراد باعتبار إلغاء ما فيها من الخصوصيّة مع عدم اعتبار التعيين في شيء منها ، فلم لا يجوز كونه في إرادتهم منتزعا عنها بعد تعلّق الوجوب بها بالخصوص على غير جهة التعيين ، فإطلاق كونه واجبا من جهة كونه منتزعا عن الواجب لا أنّه واجب بنفسه على وجه تعلّق الحكم به على سبيل الحقيقة ، مع أنّ الملازمة بين المقامين ممنوعة من وجه آخر ينشأ عن التأمّل في كون أحد الامور كلّيا وإن أطلق عليه المفهوم ، لأنّ الكلّي حسبما عرّفوه : « ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين » فالمراد بفرض صدقه على كثيرين تجويز العقل لاتّحاده في الخارج مع امور متكثّرة أو صحّة حمله على امور متكثّرة كمفهوم « الإنسان » بالقياس إلى زيد وعمرو وبكر وغيره من أفراده الغير المتناهية.

١٦

ولا ريب أنّ مفهوم « أحد الأفراد » ليس بهذه المثابة ، إذ لا يجوّز العقل اتّحاده مع زيد وعمرو وبكر في آن واحد لمنافاة الوحدة للكثرة ، وكذا لا يصحّ حمله على الكثرة بأن يقال : زيد وعمرو وبكر أحد الأفراد ، ومثله في هذا الحكم « فرد مّا » في مدلول النكرة.

نعم يصدق على كلّ من الامور المذكورة بدلا عن صدقه على الآخر في آنات متبادلة ، وهو من لوازم ما اعتبر فيه من الابهام وإلغاء التعيين ومجرّد ذلك لا يقضي بكونه كلّيا.

فالحقّ أنّه مفهوم كالجزئي مطابق لمصداقه يحصل له من جهة إلغاء خصوصيّته المشخّصة له بعد إلغاء تعيينه حين اعتبار النسبة بينه وبين ما نسب إليه ، ولذا يقال له :

المفهوم الاعتباري والكلّي الانتزاعي ، فهو في الحقيقة جزئي كالمنتزع عنه وتسميتها بالكلّي مجاز لمشاركته له في عدم اعتبار الخصوصيّة معه.

إلاّ أن يقال : بأنّ المأخوذ في حدّ الكلّي من صدقه على الكثيرين أعمّ من الصدق الآني والصدق التبادلي وهو غير ظاهر بل الظاهر خلافه.

وعن ثانيهما : بنحو ما تقدّم من الفرق بين أخذ « لا بعينه » وصفا للواجب باعتبار عدم اعتبار تعيين فيه ، أو قيدا لما حصل له وصف الوجوب حتّى يكون شرطا في الامتثال ، والإشكال إنّما يرد على الثاني دون الأوّل.

وبالجملة الّذي يظهر من تضاعيف كلمات الأشاعرة استدلالا ونقضا وإبراما ودفعا للنقوض الواردة عليهم أنّه لا يغاير مقالتهم لمقالة المعتزلة وإن غايرتها في العبارة ، وكأنّ الموهم للمغايرة ما في كلامهم من أنّ الواجب أحد الأبدال لا بعينه بزعم أنّ مرادهم به المفهوم المعرّى عن اعتبار الخصوصيّة واعتبار التعيين وقد عرفت خلافه ، وسيأتي زيادة توضيح في ذلك في شرح عبارة المصنّف.

وأمّا الجهة الثانية : فمن جملة الظواهر ما ورد في الكتاب العزيز من قوله تعالى ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ )(١) الآية.

وعن ابن عبّاس قوله : ( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) أي بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنيّة.

وقيل : وقرأ عقدتم بالتخفيف وعاقدتم ، والمعنى : ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم ،

__________________

(١) المائدة : ٨٩.

١٧

والنكث النقض ومنه قوله تعالى : ( نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ )(١) أي نقضوها ، والعقد الشدّ والميثاق ومنه قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢).

وفي المجمع : هي جمع عقد بمعنى العقود وهي أوكد العهود ، والفرق بين العهد والعقد أنّ العقد فيه معنى الاستيثاق والشدّ ولا يكون إلاّ من متعاقدين ، والعهد قد يتفرّد به الواحد. والكفّارة التغطية ، لأنّه تكفّر الذنب عن الإنسان أي تمحوه وتستره وتغطّيه ، وكلمة « الفاء » في قوله : « فكفّارته » يمكن كونها للتفريع على ما سبق ذكره من نكث ما عقدوه الّذي يؤاخذ الله به ، وكونها الجزاء لشرط مقدّر فيكون المعنى : وإن نكثتم أيمانكم بعد ما عقّدتموها فكفّارته إطعام عشرة مساكين إلى آخره ، وهذا هو محلّ الاستشهاد.

وعن أصحاب القول بأنّ الواجب في المخيّر كلّ واحد على البدل الاحتجاج بظاهر الآية ، تعليلا بأنّ المتبادر منها إيجاب الاطعام والتحرير على سبيل البدليّة.

وعن الأشاعرة أيضا الاحتجاج به تعليلا بأنّ كلمة « أو » لأحد الشيئين أو الأشياء وتعلّق الأمر بواحد منهم محقّق ومستقيم والنصّ دالّ عليه بظاهره فيجب العمل بمقتضاه.

ومن الأعلام من استوجه كلا الوجهين ، ولا بأس بأن نشير إلى دقيقة حسبما يساعده العرف والقواعد ليتّضح بها مفاد الآية ونظائرها ممّا يرد في العرف وفي الشرع كتابا وسنّة ، وهي أنّ كلمة « أو » على ما يشهد به الاستعمالات المتداولة في العرف ترد لمعان :

أحدها : التنويع القاضي بكون كلّ ممّا بعدها قسما لما قبلها المأخوذ موضوعا في القضيّة ومن لوازمه وقوعها في حيّز الخبر خاصّة.

وثانيها : الترديد القاضي بكون الحكم فيما بين الموضوع وأحد الأمرين أو الامور على جهة التشكيك مع المنع عن كلّ من الاجتماع والافتراق كما في الانفصال الحقيقي ، أو عن الاجتماع فقط كما في منع الجمع ، أو عن الافتراق فقط كما في منع الخلو ، وهو كسابقه في اختصاصها بوقوعها في حيّز الخبر أيضا ويمتاز عنه بعموم موضوع القضيّة في الأوّل وكونه من الماهيّات الملحوظة لا بشرط وخصوص محمولها مع تعدّده ، وخصوص موضوعها وكونه جزئيّا حقيقيّا أو إضافيّا في الثاني مع عموم محمولها وتعدّده ، فقولنا : « العدد زوج أو فرد » من قبيل الأوّل ، كما أنّ « هذا العدد زوج أو فرد » من قبيل الثاني وقس عليهما كلّما يرد عليك من الأمثلة ، ويكثر في الثاني تعقّب الجملة لها أسميّة أو فعليّة

__________________

(١) التوبة : ١٢.

(٢) المائدة : ١.

١٨

بخلاف الأوّل إذ لا يتعقّبها فيه إلاّ المفرد.

وثالثها : التخيير القاضي بالرخصة في كلّ من طرفي الفعل والترك ، فيكون إباحة أو جعل الاختيار في أداء ما يحصّل ـ من الامور المصحوبة لها ـ به الغرض الباعث على إيجاب تلك الامور لا على جهة التعيين ، فلا يلاحظ معه عموم ولا خصوص في الموضوع ولا المحمول ، بل هو ممّا يلازم الإنشاء على خلاف الأوّلين ، مع كون القضيّة باعتبار وضعها إنشائيّة أو لا مع اشتمالها على الغرض الّذي هو مصلحة الطلب بعنوان وروده للتعليل أو متعلّقا لذلك الطلب أو موضوعا في القضيّة المسوقة لإفادته ، فقولك : « اضرب اليتيم أو احبسه للتأديب » و « أدّب اليتيم بالضرب أو الحبس » و « تأديب اليتيم ضربه أو حبسه » و « اضرب اليتيم أو احبسه » يرد في جميع عباراته لإفادة معنى واحد ولكن العبارات تختلف في تطرّق تجوّز إلى بعضها دون بعض ، فإنّ الأوّل والأخير لا تجوّز فيهما أصلا مع الفرق بينهما في الاشتمال على علّة الحكم وعدمه ، بخلاف الثانية والثالثة لأنّ في « أدّب اليتيم بالضرب أو الحبس » مجازا عقليّا من جهة أنّ مقصود المتكلّم في مثل ذلك إيجاب السبب ، ولكن يأتي بالعبارة على وجه يكون الأمر واردا على المسبّب توسّعا مع التنبيه على الحكم وعلّته ، وفي « تأديب اليتيم ضربه أو حبسه » مجازا لغويّا من وجهين :

الأوّل : من جهة إطلاق الإخبار في موضوع الإنشاء.

والثاني : من جهة إطلاق المسبّب على سببه أو بالعكس.

وتوضيح ذلك : أنّ السبب قد يطلق ويراد المسبّب كما في « رعينا الغيث » كما أنّ المسبّب قد يطلق ويراد به السبب كما في « أمطرت السماء نباتا ».

ولا ريب أنّ اللفظ إذا استعمل في معنى مجازي يؤول باعتبار ما تضمّنه الاستعمال من النسبة التقييديّة عند التحليل إلى جملة خبريّة تشتمل على المعنى المستعمل فيه موضوعا واللفظ المستعمل محمولا ، فيقال في المثالين : « النبات غيث » و « المطر نبات » ولمّا كان الحمل ممّا يقتضي الاتّحاد الموجب لامتناع حمل المبائن فلا مناص في تلك القضيّة أيضا من تجوّز في موضوعها ، بأن يراد بالنبات في المثال الأوّل ما يحصل به النبات من باب تسمية السبب باسم المسبّب ، وبالمطر في المثال الثاني ما يحصل بالمطر من باب تسمية المسبّب باسم السبب ، أو في محمولها بأن يراد بالغيث في المثال الأوّل ما يحصل بالغيث من باب تسمية المسبّب باسم السبب ، وبالنبات في المثال الثاني ما يحصل به النبات من

١٩

باب تسمية السبب باسم المسبّب ، وإلى أيّهما تطرّق التجوّز بقي الآخر على حقيقته.

وعلى هذا القياس قولك : « تأديب اليتيم ضربه أو حبسه » فإمّا أن يراد بالتأديب ما يحصل به التأديب مجازا ، أو بالضرب ما يحصل بالضرب ، وبالحبس ما يحصل بالحبس من باب ذكر المسبّب أو السبب وإرادة السبب أو المسبّب ، والنكتة في هذا التجوّز التنبيه على الحكم وعلّته معا.

وإلى ذلك ينظر قوله تعالى : ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ضرورة أنّ الكفّارة مصلحة للأمر مسبّبة عن الامور المذكورة لا نفس المأمور به ، كما يومئ إليه بعض العبائر ، ولا كلّي مشترك بين تلك الامور كما يستفاد من بعض الأعلام في قوله : « فالخطاب بالكفّارة عينيّ يستتبع التخيير في أفرادها ، والخطاب بأحد الخصال تخييريّ » فإنّ محو الذنب ما يتسبّب عن الخصال لا أنّها بعينها محو ، فذكرها في الكلام تنبيه على علّة الطلب الإيجابي وهو مستفاد من الهيئة التركيبيّة ومتعلّق بالخصال لا بالكفّارة ، وهي إمّا أن يكون المراد بها ما يحصل به الكفّارة أو تكون على حقيقتها ، ويراد بالخصال المذكورة ما يحصل بها ، وأيّا مّا كان فهو مجاز بالعلاقة المذكورة ويفيد مفاد هذا التركيب قولك : « أطعم المساكين أو اكسهم أو حرّر رقبة للكفّارة » وقولك : « كفّر بإطعام المساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ».

وكلمة « أو » في هذه التراكيب لا يعقل كونها تنويعيّة لما عرفت من قضيّة اختصاصها بالإخبار فلا تلائم المقام ، مع عدم ملائمتها لكلمة « الفاء » سواء جعلناها تفريعيّة أو جزائيّة ، مضافا إلى انتفاء شرط التنويع هنا من عموم موضوع القضيّة وخصوص محمولها ، ولا ترديديّة لمنافاة الإنشاء للإخبار مع امتناع الجهل والتشكيك هنا ، مع أنّ الترديد الملازم للتشكيك إن اخذ بالقياس إلى الطلب فهو ممّا لا محصّل له بل لا يكاد يعقل ، أو بالقياس إلى المطلوب فكذلك لأنّ الشكّ في متعلّق الطلب بعد الجزم بصدوره ممّا لا معنى له ، فقول الأشاعرة بأنّ « أو » لأحد الشيئين أو الأشياء إن كان منزّلا إلى هذا المعنى فهو مقطوع بفساده ، غير أنّه قد عرفت أنّ مقالتهم لا تغائر بالذات لمقالة الأصحاب وأكثر المعتزلة ، فيكون مرادهم به ما يرجع إلى ما ذكروه من كون الواجب كلّ واحد على البدل ، بمعنى تعلّق الوجوب بالخصوصيّات مع إلغاء ما في كلّ منها من التعيين الّذي هو مفاد التخيير.

وقضيّة ذلك أن يحمل الاستدلال على إرادة أنّ « أو » للدلالة على أنّ ما يستقرّ في ذمّة

٢٠