تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

بالدلالة ، وعلى فرض وجود ما يحرز به الدلالة أيضا من القرائن ـ حاليّة أو مقاليّة ـ فهو أيضا في الغالب ظنّي خصوصا إذا كانت مقاليّة ، وكون الظنون الراجعة إلى الدلالة في الاعتبار كالعلم على معنى كونها معتبرة من باب الظنّ الخاصّ لعلّه مخصوص بمن له الخطاب أو من حضر مجلس الخطاب.

ومع الغضّ عن ذلك فالقرائن المحرزة للسند المفيدة للعلم بالصدور ـ على فرض وجودها ـ إنّما تكون غالبا من الامور الخارجة عن الخبر من غير مدخل لها في المتن ، ووجودها بالنسبة إلى أخبارنا الموجودة اليوم في غاية الندرة لو سلّمنا أصل الوجود.

واعتضاد الأخبار بعضها ببعض ، إن اريد به ما يبلغ حدّ التواتر لفظا أو معنى ، أو الاستفاضة الملزومة للعلم ولو بمعونة بعض القرائن الداخلة أو الخارجة ، فيتّفق ذلك نادرا فيما بين الأخبار الموجودة الآن ؛ ولو اريد به ما دون ذلك فإفادته القطع بالصدور بعيد ، خصوصا إذا حصل بين خبرين عارضهما ثالث كما هو الغالب.

نعم إنّما يوجب الاعتضاد حينئذ قوّة وترجيحا لو لم يزاحمه ما يوجب قوّة في المعارض ، كما يلاحظ ذلك كثيرا في الخبر الضعيف المنجبر بالعمل ، الموجب لطرح معارضاته ولو كانت أخبارا صحيحة.

وكون الراوي ثقة في نفسه أو في الرواية غير مستلزم للعلم بالصدق جزما بل هو أمارة غالبيّة للظنّ به.

بل الراوي الثقة كثيرا مّا لا يكون على قطع بالصدور في روايته ، لجواز أخذه لها ممّن يثق به تعبّدا أو ظنّا خاصّا أو مطلقا أو من غيره ظنّا مطلقا ، وفرض القطع له لا يستلزم حصول القطع لنا كما هو المقصود إذا كانت الشبهة ناشئة عمّا لا ينافي الوثاقة كالسهو والنسيان والذهول عن القرينة ، أو خفائها المحتملة في حقّ كلّ ثقة بلغ في الوثاقة ما بلغ.

واحتمال هذه الامور وإن كان لا يلتفت إليه في الغالب من جهة الأصل المعمول به عند العقلاء ، لكنّه حيثما كان قائما مناف للعلم والأصل لا يجدي في نفيه.

هذا كلّه على تقدير أن يحصل لنا العلم بوثاقته ، وإلاّ فالغالب ثبوتها بطريق الظنّ الاجتهادي ، وثبوتها في بعض الأحيان بامور تعبّدية من قول العدل ونحوه لا يستلزم كونه بطريق القطع ، فكيف يعقل حينئذ حصول القطع لنا بالصدور بمجرّد وثاقة الراوي ، مع كون النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات ، والغالب في رواة أخبارنا ثبوت وثاقتها بالظنون المطلقة أو الامور التعبّديّة.

٨١

وبالجملة كون وثاقة الراوي على تقدير العلم بها لو اتّفق نادرا بمجرّده من أسباب العلم بالصدور غير مسلّم ، بل لا نظنّ عاقلا يتفوّه به.

نعم لو كان الغرض من الوجه الأوّل أخذ المجموع من القرائن الحاليّة أو المقاليّة واعتضاد البعض ببعض ووثاقة الراوي من الأسباب المفيدة للعلم بالصدور فهو ليس بذلك البعيد ، غير أنّه فرض نادر يتّفق في أخبارنا قليلا ، ولا ينكره أهل القول بانسداد باب العلم في معظم الأحكام.

وأمّا عن الوجه الثاني : فبأكثر ما عرفت في جواب الوجه الأوّل ، وكون العالم الثقة مؤلّفا كتابه لرجوع الشيعة ولهداية الناس لا يستلزم علمه بصدور جميع ما فيه من الروايات ، لجواز اعتقاده فيه بكون ما فيه قطعيّ العمل ، ومعلوم أنّ العمل أعمّ من العلم بالصدور ، ولعلّه أخذ روايات كتابه ممّن يرى الأخذ منه تعبّدا أو ظنّا خاصّا ، أو مطلقا وهو يرى الظنّ المطلق حجّة مطلقا أو إذا تعلّق بالصدور.

وعلى [ فرض ] كونه قاطعا بالصدور فهو لا يستلزم قطع غيره به ممّن يرجع إلى كتابه ويأخذ برواياته ، لجواز تطرّق الدسّ أو الغلط أو السهو أو النسيان أو غيره إلى ما في كتابه ممّن سبقه أو عاصره أو لحقه ، من المعاندين أو الناسخين أو العاملين أو القاصرين من الأطفال وغيرهم ، مع أنّ القدر المعلوم في الغالب من المؤلّفين إذا لم يكونوا هم المشافهون ـ كما هو الغالب في الكتب الموجودة الآن ـ هو الاعتقاد بالصحّة ، وهو أعمّ من العلم بالصدور ، ولا سيّما الصحّة باصطلاح القدماء من المحدّثين ، ولا بعد في كونه أصل رجل أو روايته عن ظنّ إذا كان ممّن يرى جواز العمل بالظنّ مطلقا أو في المقام خاصّة ، ومع قيام هذا الاحتمال كيف يحصل العلم لغيره بالصدور بتأليفه؟

وأمّا عن الوجه الثالث : فيظهر أيضا بملاحظة ما ذكر ، فإنّ التمسّك بأحاديث الأصل من مؤلّفه أو غيره ممّن اعتمد عليه كثيرا مّا يكون لاعتقاد الصحّة أو من جهة التعبّد لدليل دلّ عليه وهو أعمّ من العلم بالصدور ، وقد عرفت أنّ علمه بالصدور لا يجدينا في العلم بالصدور ، فكيف مع اعتقاده بالصحّة أو تعيّن العمل به تعبّدا ولو من جهة الاجتزاء بالظنّ المطلق بالصدور ، كما هو احتمال قائم في كلّ مقام.

وأمّا عن الوجه الرابع ، فأوّلا : بأنّ الإجماع المذكور على تقدير العلم به لا يراد منه الإجماع المصطلح الكاشف عن قول الحجّة جزما ، فهو لمن حصّله وعلم به لا يفيد العلم

٨٢

بالمجمع عليه لعدم وجود المعصوم في المجمعين ، فيجوز على كلّ واحد منهم الخطأ ، أو كون اتّفاقهم عن ظنّ أو أمر تعبّدي.

وثانيا : بأنّه بالنسبة إلى ما عدا قائله ـ الّذي هو الكشّي ـ منقول ، فأقصى ما يفيده حينئذ هو الظنّ.

وثالثا : بأنّه منقول على لفظ غير واضح المعنى ، لما فيه من وجوه الاحتمال الّتي صار إلى كلّ واحد منها قائل ، وهي وجوه أربع :

أحدها : أنّ المراد به كون من قيل هذا في حقّه صحيح الحديث لا غير ، بحيث إذا كان في سند فوثّق من عداه أو صحّح السند ـ ولو بغير التوثيق ـ بالنسبة إلى غيره ، عدّ السند صحيحا ولا يتوقّف من جهته.

وثانيها : أنّ المراد به توثيق خصوص من قيل هذا في حقّه ، وعن قائل إسناده إلى الأكثر ، وعن صاحب الرسالة المسمّاة بلبّ اللباب اختياره وادّعائه إجماع العصابة عليه.

وثالثها : أنّ المراد توثيق من روى عنه من قيل هذا في حقّه ، وعن الفوائد إسناده إلى توهّم بعض ، وقيل : لا ريب أنّ مراد القائل توثيق المقول في حقّه أيضا ، وعن الفصول قال ـ مشيرا إلى هذا القول ـ : « وربّما قيل بأنّها تدلّ على وثاقة الرجال الّذين بعده أيضا ».

ورابعها : أنّ المراد تصحيح روايته بحيث لو صحّت من أوّل السند إليه عدّت صحيحة من غير ملاحظة أحواله واحوال من يروي عنه إلى المعصوم عليه‌السلام ، وعزى ذلك إلى الشهرة تارة كما عن الفوائد الرجاليّة وإلى الأصحاب اخرى كما عن المحقّق الداماد.

وإذا كان مورد هذا الإجماع في كثرة الاحتمال والاختلاف بهذه المثابة فكيف يحصل به العلم بالمعنى المراد منه ، وعلى تقدير حصوله فالمعلوم إمّا كون من قيل هذا في حقّه صحيح الحديث ، أو كونه ثقة ، أو كونه مع من قبله ومن بعده إلى أوّل السند ثقات ، أو كون الحديث الّذي هو في سنده بشرط وثاقة الرجال الّذين من أوّل السند إليه ممّا يعدّ عندهم من الصحيح أو في حكم الصحيح ، وهو في شيء من التقادير ليس من العلم بصدور هذا الحديث أو غيره ممّا يرويه هو بنفسه عن المعصوم من دون واسطة ، خصوصا مع ملاحظة كون المراد بالصحّة هنا ما عليه اصطلاح القدماء لكون الكشّي منهم ، فلا يريد مصطلح غيره جزما.

والحاصل : أنّ هذا الإجماع لا يصلح مفيدا للعلم بالصدور إمّا لأنّه ليس من الإجماع المصطلح ، أو لأنّه منقول ، أو لأنّ مورده اللفظ المحتمل لوجوه كثيرة ، أو لأنّ العلم على

٨٣

تقدير حصوله علم بالصحّة أو الوثاقة وهو ليس من العلم بالصدور في شيء ولا هو مستلزم له ، هذا مضافا إلى ما في هذا المقام من الاختلاف في تعيين الأشخاص المجمع عليهم كما قرّر في محلّه ، وهذا أيضا ممّا يخلّ بالعلم.

وأمّا عن الوجه الخامس : فبأنّ التوثيق المذكور إنّما وصل إلينا بطريق الآحاد الغير المفيدة للعلم ، مع ما في أكثر هذه النصوص من المعارض المقتضي للقدح كما يظهر بمراجعة الرجال ، مع احتمال كون مراد المعصوم التوثيق بحسب ما يقتضيه الأمارات الحاصلة لديه من دون مراعاة العلم فيه بناء على عدم لزومه.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فالعلم بالوثاقة على تقدير حصوله لنا أعمّ من العلم بصدور ما يرويه هؤلاء عن المعصوم كما يظهر وجهه بمراجعة ما تقدّم.

وأمّا عن الوجه السادس : فبعد منع تسمية ما ذكره المشايخ الثلاث شهادة للزوم العلم في الشهادة مع كونه عن حسّ ، ومن الجائز كون تصريحهم بما صرّحوا به عن اعتقاد التعبّد أو عن الاعتقاد الظنّي الخاصّ أو المطلق ، وعلى فرض كونه عن علم فهو اعتقاد نشأ عن اجتهادهم ، كما يشعر به الاعتراف بأنّهم أخذوها عن الكتب المعتمدة والاصول المعتبرة ، فلا ملازمة بين هذا الاعتقاد ومطابقته للواقع ، لأنّ غاية ما شهدوا به إنّما هو صحّة ما أوردوه في كتبهم من الأخبار وكونها حجّة فيما بينهم وبين ربّهم.

وأيّا مّا كان فهو أعمّ من الصدور ومن كون الصدور على جهة بيان الواقع لا على جهة التقيّة ، ومن الثابت بالعلم الضروري وجود الأخبار الكاذبة والأخبار الصادرة على جهة التقيّة فيما بين الآحاد المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام وفي الاصول المشتملة على تلك الأخبار ، كما نطق به أيضا أخبار مستفيضة ففي النبوي المعروف : « ستكثر بعدي القالة عليّ ».

وفي المرويّ عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه ».

وفي الآخر عنه عليه‌السلام : « إنّا أهل البيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه ».

وفي الآخر : « إنّ المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي ، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا ».

وعن يونس أنّه قال : « وافيت العراق فوجدت قطعة من أصحاب أبي جعفر وأصحاب أبي عبد الله عليهما‌السلام متوافرين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم وعرضتها من بعد على أبي الحسن

٨٤

الرضا عليه‌السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقال : إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، لعن الله أبا الخطّاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون من هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ».

وفي جملة من الأخبار العلاجيّة : « أنّ ما خالف القرآن ».

وفي بعضها : « أنّ ما خالفه وخالف السنّة أنّي ما قلته ».

وفي آخر : الأمر بضرب مخالفه وجه الجدار ، إلى غير ذلك.

وغاية ما هنالك أنّ المشايخ بذلوا جهدهم وأتعبوا أنفسهم في نقل هذه الأحاديث وجمعها وضبطها وإخراج ما تبيّن فساده عندهم بحسب اجتهادهم عنها ، ومعلوم أنّ الاجتهاد غير مأمون من الخطاء ، ومع ذلك فكيف يحصل لغيرهم الوثوق بجميع ما في الكتب الأربعة فضلا عن العلم بصدق الجميع ، أو كون صدوره لا على وجه التقيّة ، مع أنّ المعهود من طريقة الشيخ في التهذيبين إعراضه عن كثير من الأخبار الموجودة فيها حملا لها على التقيّة ، وإن لا حظت الكتابين لوجدته كثيرا فيهما يضعّف الخبر أو يقدح في بعض سلسلة سنده ، مع أنّ المنقول عنه في العدّة كما عرفت الشهادة بصحّة ما عمل به من الأخبار ، وهذا ليس من الشهادة بصحّة ما جمعه من الأخبار في الكتابين بأجمعها.

ومن جملة الشواهد بأنّ هذه الأخبار لم تكن عند المشايخ علميّة ما عزى إلى الصدوق من أنّه كان كثيرا اعتمد على تصحيح وتضعيف شيخه ابن الوليد ، حتّى قال : « كلّما صحّحه شيخي فهو عندي صحيح » وعنه أيضا ـ أنّه بعد استضعافه لرواية محمّد بن موسى الهمداني : « أنّ كلما لم يصحّحه هذا الشيخ ولم يحكم بصحّته فهو عندنا متروك » انتهى.

وهذا كما ترى ممّا لا ربط له بضابطة علميّة الأخبار.

ومع هذا التصريح كيف يسند إليه أنّه أورد في كتابه ما علم بصدوره ، وكيف يقال بكون الأخبار الموجودة فيه بأجمعها علميّة عنده أو عنده أو عند غيره ، وليس ذلك إلاّ افتراء أو إغماضا عن الحقّ.

هذا مضافا إلى ما ستسمع عن الشيخ ممّا ينافي الشهادة بالصحّة أيضا.

وأمّا الجواب عن الوجوه المحكيّة عن الشيخ الكامل الحرّ في الوسائل ، فعن أوّلها : يظهر بملاحظة ما مرّ.

٨٥

وملخّصه : أنّ إحراز الصحّة في الكتب الأربعة بالاجتهاد كما هو مفاد الوجه المذكور على فرض التسليم بالمعنى المصطلح عليه عند القدماء أو المتأخّرين أعمّ من الصحّة الواقعيّة ، كما أنّ الصحّة الواقعيّة بالمعنى المذكور أعمّ من الصدور ، كما أنّ الأخذ من الاصول المعتبرة أعمّ من الأخذ بالأخبار الصادرة على وجه اليقين ، لعدم العلم بكون جميع الأدلّة معروضة على الأئمّة عليهم‌السلام بل المعلوم خلافه كما قيل ، وكون جميع ما في الكتب الأربعة وغيرها ممّا هو موجود الآن من الأخبار المعروضة عليهم عليهم‌السلام أيضا غير معلوم.

وعن ثانيها : أيضا يعلم ممّا ذكر ، فإنّ كلاّ من تمهيد اصول معتبرة والأمر بكتابة الأحاديث المسموعة وجمعها وتأليفها والعمل بها في الحضور والغيبة وكون جملة من تلك الاصول معروضة عليهم أمر معلوم لا إشكال فيه ولا ينكره أحد ، غير أنّه لا يقضي بعلميّة جميع ما في الكتب الأربعة حتّى بالقياس إلى أربابها ، وإذعانهم بالاعتبار والحجّية ـ لو سلّمناه في جميع ما فيها ـ ليس من الإذعان بالصدور في شيء ، وانقطاع أهل زمان الغيبة عن الاصول المعلومة صدورا أو اعتبارا بكيد الكائدين وعناد المعاندين أو غير ذلك من الأسباب الخارجيّة والدواعي الطارئة لا ينافي حصول العمل بمقتضى الحكمة والخروج عن عهدة موجبات الشفقة والرأفة ، كيف وهو ليس بأعظم من انقطاعنا عن نفس الحجّة الّذي هو الأصل والعمدة.

وعن ثالثها : أيضا يعلم ممّا تقدّم ، فإنّ الشهادة الناشئة عن الاجتهاد الغير المأمون عن الخطأ لا تفيد العلم بالمشهود به وإن تعدّدت وتكثّرت.

هذا مع ما عرفت عن الصدوق من الاكتفاء بتصحيح شيخه ، وعن الشيخ من استضعاف جملة من أخبار التهذيبين وحمل جملة منها على التقيّة مع عدم كون المحكيّ عنه في العدّة صريحا في الشهادة بصحّة جميع ما أورده فيهما ، بل غايته التصريح بالاقتصار في العمل على الصحاح ، وكون اتّفاق شهاداتهم أولى في إفادة العلم ممّا نقله ثقة واحد من فتوى أبي حنيفة وغيره في محلّ المنع ، لأنّ ذلك نقل عن علم مستند إلى الحسّ بخلاف شهاداتهم الناشئة عن الاجتهاد ، وعلى فرض إفادتها العلم فهو علم بالصحّة أو الاعتبار ، لكون المشهود به بتلك الشهادة هو هذا والعلم بهما أعمّ من العلم بالصدور ، وليس في شهادتهم ما يوجب حصوله جزما.

هذا كلّه بناء على الإغماض عمّا هو بيان الواقع ، وإلاّ ففي أوّل التهذيبين ما ينافي

٨٦

الشهادة بصحّة جميع ما فيها من الأخبار والأحاديث ، فقال في أوّل التهذيب : « ذاكرني بعض الأصدقاء أيّده الله تعالى ممّن أوجب حقّه بأحاديث أصحابنا أيّدهم الله ورحم السلف منهم ، وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضادّ ، حتّى لا يكاد يتّفق خبر إلاّ وبإزائه ما يضادّه ، ولا يسلم حديث إلاّ وفي مقابله ما ينافيه ، حتّى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا ، وتطرّقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا » ـ إلى أن قال ـ : و « ذكر ـ يعني بعض الأصدقاء ـ أنّه إذا كان الأمر على هذه الجملة ، فالاشتغال بشرح كتاب يحتوي على تأويل الأخبار المختلفة والأحاديث المتنافية من أعظم المهمّات في الدين ، ومن أقرب القربات إلى الله تعالى ، لما فيه من كثرة النفع للمبتدئ والريض في العلم.

وسألني أن أقصد إلى رسالة شيخنا أبي عبد الله أيّده الله الموسومة بالمقنعة. ـ إلى أن قال ـ : وأن أقصد إلى أوّل باب يتعلّق بالطهارة ـ إلى أن قال ـ : وأن اترجم كلّ باب على حسب ما ترجمه ، وأذكر مسألة مسألة فأستدلّ عليها إمّا من ظاهر القرآن أو صريحه أو فحواه أو دليله أو معناه (١) ، وإمّا من السنّة المقطوع بها من الأخبار المتواترة أو الأخبار الّتي تقترن إليها القرائن الّتي تدلّ على صحّتها ، وإمّا من إجماع المسلمين إن كان فيها أو إجماع الفرقة المحقّة.

ثمّ أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك ، وأنظر فيما ورد بعد ذلك ما ينافيها ويضادّها ، وابيّن الوجه فيها إمّا بتأويل أجمع بينها وبينها ، أو أذكر وجه الفساد فيها إمّا من ضعف أسنادها أو عمل العصابة بخلاف متضمّنها ـ إلى أن قال ـ : ومهما تمكّنت من تأويل بعض الأحاديث من غير أن أطعن في أسانيدها فإنّي لا أتعدّاه ، وأجتهد أن أروي في معنى ما أتأوّل الحديث عليه حديثا آخر متضمّن ذلك المعنى إمّا من صريحه أو فحواه ، حتّى أكون عاملا على الفتيا والتأويل بالأثر ، وإن كان هذا ممّا لا يجب علينا لكنّه ممّا يؤنس بالتمسّك بالأحاديث ... » إلخ.

وقال في أوّل الاستبصار : « واعلم أنّ الأخبار على ضربين متواتر وغير متواتر ، فالمتواتر ما أوجب العلم فما هذا سبيله يجب العمل به ـ إلى أن قال ـ : وما ليس بمتواتر على ضربين ، فضرب منه يوجب العلم أيضا وهو كلّ خبر يقترن إليه قرينة توجب العلم ،

__________________

(١) الفحوى : هو مفهوم الموافقة ، والدليل : هو مفهوم المخالفة ، وقوله : « أو معناه » قيل في توجيهه : الظاهر أنّ المراد به ما يفهم منه الكلام بقرينة ( منه ).

٨٧

وما يجري هذا المجرى يجب أيضا العمل به ، وهو لا حق بالقسم الأوّل ـ إلى أن قال ـ :

وأمّا القسم الآخر فهو كلّ خبر لا يكون متواترا ويتعرّى من واحد من هذه القرائن فإنّ ذلك خبر واحد ويجوز العمل به على شروط.

إلى أن قال : وأنت إذا فكّرت في هذه الجملة وجدت الأخبار كلّها لا تخلو من هذه الأقسام ، ووجدت أيضا ما عملنا عليه في هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال والحرام لا يخلو من واحد من هذه الأقسام » ، إلخ.

وقضيّة كلامه في الكتابين أنّ الخبر ما لم يبلغ حدّ التواتر ولم يقترنه القرائن المفيدة للعلم بالصدق لا يكون معلوم الصدق والصدور ، ولذا كان العمل به جائزا على شروط ، كما أنّ صريحه فيهما عدم انحصار الأخبار الموجودة فيهما في النوعين المذكورين ، ومعه كيف يسند إليه الشهادة الموجبة للعلم بصدور جميع ما في كتابيه؟

وممّا يدلّ على مشروعيّة الاجتهاد في أعصار الغيبة وحجّيّة ظنون المجتهد الجامع للشرائط المتعلّقة بالأحكام وموضوعاتها الكلّية إجماع علماء الامّة من العامّة والخاصّة ، المعلوم منهم عملا وفتوى ، كما يعلم من كتبهم الاستدلاليّة قديما وحديثا ، مضافا إلى دعوى الضرورة [ من ] الدين كما نصّ عليهما غير واحد من أصحابنا وغيرهم ، فمنهم المصنّف حيث قال : « ولكنّ التعويل في اعتماد ظنّ المجتهد المطلق إنّما هو على دليل قطعي وهو إجماع الامّة عليه وقضاء الضرورة به ».

ومنهم العلاّمة البهبهاني في الفائدة التاسعة من فوائده ، فإنّه بعد ما ادّعى إجماع جميع الامّة على أنّ الظنّ في نفسه ليس بحجّة كما سمعته سابقا قال : « وخرج من جميع ذلك ظنّ المجتهد بالإجماع وقضاء الضرورة ، إذ المسلمون أجمعوا على أنّ من استفرغ وسعه في درك الحكم الشرعي وراعى عند ذلك جميع ماله دخل في استحكام المدرك وتشبيده وتشديده وحصّل ما هو أحرى يكون ذلك حجّة عليه ، والضرورة قاضية بأنّه لو كان ظنّ حجّة فهذا الظنّ حجّة ، وكذا لو كان لا بدّ من العمل بالظنّ جاز التعويل على ذلك ».

وصرّح أيضا بالإجماع والضرورة في غير موضع من رسالته المعمولة في الاجتهاد والأخبار.

ومنهم بعض الفضلاء قائلا : « أمّا المجتهد المطلق فلا ريب في أنّ ظنونه الّتي أدّى نظره إلى حجّيّتها حجّة في حقّه وحقّ مقلّديه مع تحقّق الشرائط وهو إجماعي بل ضروري ».

٨٨

ومنهم العلاّمة وغيره من الخاصّة والعامّة.

فعن النهاية : « الرجل إن اجتهد وغلب على ظنّه حكم لم يجز له أن يقلّد مخالفه ويعمل بظنّ غيره إجماعا ».

وعن المنية : « أنّ المكلّف إن كان عالما بلغ رتبة الاجتهاد واجتهد تعيّن عليه العمل بما أدّاه إليه اجتهاده ولم يجز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أدّاه إليه اجتهاده إجماعا ».

وعن التمهيد « لا يجوز للمجتهد بعد اجتهاده تقليد غيره اتّفاقا ».

وعن الإحكام : « المكلّف إذا كان قد حصلت له أهليّة الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل واجتهد فيها وأدّاه اجتهاده إلى حكم فيها فقد اتّفق الكلّ على أنّه لا يجوز له تقليد غيره. من المجتهدين في خلاف ما أوجبه ظنّه وترك ظنّه ».

وعن شرح المختصر : « المجتهد إذا اجتهد فأدّاه اجتهاده إلى حكم فهو ممنوع من تقليد مجتهد آخر اتّفاقا ».

واعترض على الإجماع هنا تارة : بمنع الإجماع بادّعاء ظهور أنّ هذه المسألة ممّا لم يسأل عنها الإمام عليه‌السلام ، ومنع العلم به بدعوى : أنّ المسألة الّتي لا يوجد فيها نصّ شرعي ممّا لا يمكن العلم بالإجماع فيها.

واخرى : بما حكي عن بعض الأخباريّين قائلا :

« والجواب أوّلا : بمنع حجّية الإجماع ، إذ لم يوردوا عليها دليلا قطعيّا ، والاعتماد على الظنّ في الاصول غير معقول ، بل الدليل الظنّي الّذي أوردوه غير تامّ ولا سالم عن المعارضة بما هو أقوى منه.

وثانيا : بمنع انعقاد الإجماع هنا بمخالفة المتقدّمين والمتأخّرين ، وتصريحاتهم بذلك يطول الكلام بنقلها.

وثالثا : على تقدير انعقاد الإجماع فهو دليل ظنّي لا يجوز العمل به في الاصول.

ورابعا : أنّه ظنّي لا يجوز الاستدلال به على الظنّ إذ يلزم منه الدور.

وخامسا : المعارضة بمثله ، فقد نقل الشيخ في العدّة الإجماع على خلافه ، وهو مقدّم لتقدّمه وتواتر النصوص به.

وسادسا : إنّ الإجماع عند محقّقيهم إنّما يعتبر مع العلم بدخول الإمام عليه‌السلام ولا سبيل إلى تحقّق ذلك هنا.

٨٩

وسابعا : أنّه على تقدير ثبوت قول الإمام هنا فالحجّة قول الإمام لا الإجماع ، وهو على ذلك التقدير خبر واحد لا يعارض المتواتر.

وثامنا : أنّه على تقدير ثبوت قول الإمام هنا فهو خلاف الآيات الصريحة ، ومعارضه من قول الأئمّة عليهم‌السلام موافق لها فتعيّن المصير إليه للأمر بالعرض على الكتاب.

وتاسعا : أنّه على ذلك التقدير موافق للعامّة فتعيّن حمله على التقيّة والعمل بما يعارضه لعدم احتمال التقيّة ، ونظيره الإجماع على بيعة أبي بكر فقد دخل فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يدلّ دخوله على صحّتها للتقيّة ، وهذا أقوى المرجّحات المنصوصة على تقدير وجود المعارض الصحيح ، فكيف وهو هنا غير موجود » انتهى.

وهذان الاعتراضان في الوهن بمكان من الوضوح لا يحتاج إلى البيان ، فإنّ المعتبر في الإجماع بحسب تحقّقه الواقعي كونه عن مستند قطعي عثر عليه المجمعون ، سواء كان ذلك المستند قولا للإمام في خصوص المسألة مع سبق السؤال وعدمه ، أو تقريرا له أو فعلا له أو آية كتابيّة أو ضابطة كلّية عقليّة أو شرعيّة يقول بموجبهما الإمام ، ولا يعتبر في العلم به سبق العلم بذلك المستند كائنا ما كان ، ولا العلم بسبق السؤال عن المسألة ولا العلم بورود النصّ ، وإلاّ كان ذلك المعلوم رافعا للحاجة إلى التعويل على الإجماع كما لا يخفى.

ومن المعلوم بحكم الضرورة أنّ الإجماع لا يستكشف عنه بالنصّ ، بل النصّ بالمعنى المتناول لفعل المعصوم وتقريره يستكشف عنه بالإجماع ، ولذا يقال : « الإجماع سنّة إجماليّة » لكون العلم به متضمّنا للعلم بقول الإمام أو رأيه ورضاه على سبيل الإجمال ، وحجّية الإجماع حيثما كان كاشفا عن أحد الامور المذكورة ـ كما عليه مبنى كلام الأصحاب في حجّيته ـ لا تحتاج إلى دلالة خارجة ، لكونها على تقدير الكشف من القضايا الّتي قياساتها معها ، ولعلّ المعترض كان مسبوقا بما هو طريقة العامّة في الإجماع ، أو تخيّل كون مراد من ذكره واستند إليه هنا منقوله كما يشهد لهما قوله : « بل الدليل الظنّي الّذي أورده غير تامّ » مع قوله : « فهو دليل ظنّي لا يجوز العمل به في الاصول ».

وأنت بعد التأمّل فيما قرّرناه تعرف أنّه ليس كذلك ، وبذلك تبيّن فساد قوله : « فهو دليل ظنّي » فإنّ الإجماع حيثما انعقد على الطريقة المذكورة يكون من الأدلّة القطعيّة المفيدة للقطع بالمطلب.

نعم قد يتطرّق شبهة الظنّيّة فيما لو كان معقده لفظا عامّا أو مطلقا قابلا للتخصيص أو

٩٠

التقييد ، بأن انعقد على عبارة عامّة أو مطلقة وكشف عن صدورها بعينها عن المعصوم ، وليس المقام من هذا الباب لانعقاده على قضيّة شخصيّة معقولة لا يعقل فيها الظنّية.

ففسد بذلك أيضا ما أورده من شبهة لزوم الدور ، بل ما أورده أيضا من شبهة المعارضة بالمثل ، فإنّ إجماع الشيخ على فرض ثبوته منقول فلا يصلح معارضا لقطعيّ إجماعا أو غيره ، كيف وهو غير ثابت أو غير مناف للمدّعى كما عرفت وجهه فيما سبق.

وبملاحظة ذلك يمنع عليه دعوى مخالفة المتقدّمين والمتأخّرين وتصريحاتهم بذلك ، إذ قد عرفت أنّه ليس في كلام أحد من الفريقين ما ينافي المطلب ، والمعتبر في الإجماع ـ على التحقيق ـ انكشاف رأي الإمام ومعتقده ورضاه ، وهو لا يستلزم العلم بدخوله في جملة المجمعين حتّى يناقش في إمكان تحقّقه هنا ، وإطلاق الحجّة عليه من جهة أنّه الوسط الموصل إلى الحجّة على الحكم ، وهو قول الإمام بواسطة قياس موضوع كبراه ومحمول صغراه الإجماع ، لا أنّه بنفسه حجّة يتوصّل إلى الحكم.

نعم الحجّة على الحكم نفسه إنّما هو الإجماع على طريقة العامّة ، وهو بمعزل عن مقصود المستدلّ.

والخبر الواحد إذا علم بصدوره مع كونه بحسب الدلالة نصّا في المطلب من جملة الأدلة القطعيّة الّتي لا يعارضها شيء.

وبذلك يعلم فساد ما توهّمه من مخالفته للآيات الصريحة ، فإنّها ليست إلاّ عمومات أو مطلقات أو مجملات.

وعلى أيّ تقدير فلا يقدح مخالفتها في نهوض الحجّة القطعيّة على المطلب ، بل هي حينئذ تنهض مخصّصة أو مقيّدة أو مبيّنة لها ، وليس في قول الأئمّة ما يعارضها ليطلب العلاج بينهما بالعرض على الكتاب ويؤخذ بما يوافقه ويطرح ما يخالفه حملا له على التقيّة وغيرها إلاّ أخبار كثيرة تقدّم منع الاحتجاج بها على منع الاجتهاد ، ومنع دلالتها صراحة ولا ظهورا على المنع ، لتعارض الحجّة القائمة في المقام.

ولو سلّم منافاتها لها يجب تأويلها أو إطراحها ، لما عرفت من أنّ الحجّة حيثما كانت قطعيّة لا يقابلها شيء ، ومعه خرج المقام عن قاعدة عرض المتعارضين على الكتاب ثمّ الأخذ بما يوافقه ، وموافقة العامّة على فرض الانكشاف القطعي للحكم لا حكم لها في الحكم بخروج الموافق مخرج التقيّة ، لأنّ فرض الانكشاف بنفسه مخرج للمقام عن التقيّة.

٩١

هذا مع توجّه المنع إلى أصل الموافقة المتوهّمة المقرّبة إلى التقيّة ، فإنّ مذهب العامّة في الاجتهاد ـ على ما سبق تحقيقه ـ إنّما هو الأخذ بالظنون الناشئة من الطرق الممنوعة في ضرورة مذهبنا من قياس واستحسان ونحوهما ، والإجماع المذكور على ما عرفت قائم بالظنون الناشئة من الكتاب والسنّة وغيرهما ممّا يرجع بالأخرة إليهما.

وجعل ما نحن فيه نظير الإجماع على بيعة أبي بكر قياس ، ومع الفارق لو سلّم دخول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا الإجماع ، للعلم بجهة دخوله من حيث كونه مجبورا على البيعة.

نعم ربّما يخدش في هذا الإجماع منع انعقاده على أمر واحد بحيث ينكشف كونه لا غير معتقد الإمام ومرضيّه كما يعلم ذلك بعد ملاحظة اختلاف أصحابنا الإماميّة في الطريقة من حيث كونهم بين مجتهد وأخباري ومتوسّط ، نظير ما لو اجتمعوا على شرب مائع هو في الواقع خمر ، بأن شربه فرقة على أنّه خمر ، واخرى على أنّه ماء ، وثالثة على أنّه خلّ ، أو اجتمعوا على شربه مع اعتقاد الخمريّة غير أنّ فرقة شربته لحظّ النفس ، واخرى لدفع المرض المهلك ، وثالثة لدفع العطش المهلك وهكذا ، فإنّه في الأوّل لا يكشف عن حلّية الخمر ولا في الثاني عن حلّية شرب الخمر من حيث إنّه شرب الخمر ليثبت به الحلّية المطلقة.

وإن شئت فقل في المقام : إنّ فرقة من أصحابنا تعبّدوا بمؤدّيات الاجتهاد على أنّها امور قطعيّة لكونها مستفادة من الكتاب والسنّة القطعيّة من المتواترة والمحفوفة بالقرائن القطعيّة.

واخرى تعبّدوا بها على أنّها مستفادة من الروايات أو الآيات المفسّرة بالروايات.

وثالثة تعبّدوا بها على أنّها ظنون خاصّة قام باعتبار كلّ واحد بالخصوص دليل شرعي.

ورابعة تعبّدوا بها على أنّها ظنون مطلقة اجتهاديّة دعا الضرورة والاضطرار إلى التعبّد بها ، وليس هذا من الإجماع على التعبّد بالظنّ المطلق ليكشف عن كون التعبّد بهذا العنوان مرضيّا للإمام كما هو المطلوب.

ويمكن الذبّ عنه ـ بعد إخراج الفرقة الأخباريّة ، للقطع بأنّ مخالفتهم في الطريقة لكونها ناشئة من شبه مقطوع بفسادها غير قادحة في انعقاد الإجماع على مرجعيّة مؤدّيات الأدلّة الظنّيّة من الكتاب والسنّة كائنة ما كانت في امتثال أحكام الله تعالى ـ : بأنّ الاختلاف في

٩٢

جهة التعبّد لا ينافي الإجماع على مرجعيّة ما يتعبّد به عند الكلّ ، وهو أمر واحد ينكشف بالإجماع كونه المرجع الّذي رضي به الإمام ، كما لو اجتمعوا على التعبّد بقول العدل مع اعتقادهم بانتفاء طريق آخر فأخذوا بمؤدّاه لكنّه عند بعضهم لكونه مفيدا للعلم بالواقع ، وعند غيره لكونه معلوم الاعتبار بدليل بلغه ، وعند غيرهما لكونه مفيدا للظنّ بالواقع ، وهذا كما ترى اختلاف في جهة المسألة وعلّة الحكم فيها لا في نفسها ، ولذا لو انكشف لكلّ من هؤلاء فساد الجهة وخطائه في العلّة لم يوجب ذلك عدوله عن المسألة ورفع اليد عنها ، نظيره في الفروع ما لو اجتمعوا على حرمة الخمر ، غير أنّ بعضهم علّله بأصل العنوان ، وآخر بإسكاره ، وثالث بنجاسته مثلا.

ولا ريب أنّ كذب العلّة على بعض هذه الطرق لا يستلزم كذب أصل القضيّة في نظر من علّلها بتلك العلّة ، والظاهر أنّ محلّ البحث من هذا الباب لا من باب المثالين المتقدّمين.

وضابطه الكلّي كلّ اختلاف لم يرجع إلى الاختلاف في موضوع القضيّة أو محمولها بحيث لزم من تعدّد القول فيه تعدّد القضيّة المقول بها ، بأن رجع قول كلّ إلى دعوى قضيّة غير منافية لما ادّعاها الآخر ، لتعدّد في موضوعيهما أو محموليهما.

وإن شئت فقل : كلّ اختلاف في المسألة لم يوجب تعدّد عنوان المسألة موضوعا ومحمولا ، وذلك فيما لو اتّفق الكلّ على دعوى قضيّة واحدة في موضوع واحد ومحمول واحد صالحة لجهات عديدة على البدل ، صار إلى اختيار كلّ جهة بعض من هؤلاء المتّفقين.

وهذا الاختلاف كما ترى لا تعلّق له بأصل القضيّة ولا أطرافها ، فلا يكون منافيا للاتّفاق عليها.

والمفروض من الاختلاف في محلّ البحث من هذا القبيل بعينه ، وذلك لأنّ الأصحاب بعد اتّفاقهم على أن لا طريق في امتثال أحكام الله تعالى سوى مؤدّيات الأدلّة الظنّية من الكتاب والسنّة وما يرجع إليهما ، وعلى أنّ المرجع منحصر فيها ، اختلفوا هذا الاختلاف ، كما يعلم ذلك من بنائهم على منع التعبّد بالقياس وغيره من الطرق المعمولة عند العامّة ، وعلى منع التعبّد بالنوم والرمل والجفر وما أشبه ذلك ، وعلى عدم وقوع التعبّد بالاحتياط الكلّي ، ولذا لو تبيّن لمن قال بمقالة السيّد ونظرائه فساد ما اعتقده من علميّة الأحكام لم يكن خارجا من الكتاب والسنّة وما يرجع إليهما ، كما أنّه كذلك لو تبيّن لمن زعمها من باب الظنّ الخاصّ فساد الاعتقاد ، وكذلك أيضا لو تبيّن لمن يأخذ بهما من باب الظنّ

٩٣

المطلق فساد ما اعتقده من انسداد باب العلم بالمعنى الأعمّ ، بأن بلغه مثلا من الشرع ما قضى بتعيّن العمل بهما بالخصوص أو بما يرجع إليهما كذلك.

والحاصل : أنّ هاهنا قضيّتين مرتّبتين حصل الوفاق في إحداهما وهي : انحصار طريق الامتثال في الآيات والروايات وما يرجع إليهما ، والخلاف في اخراهما وهي : علميّة مفاد هذين الأمرين المغنية عمّا ليس بعلميّ كأخبار الآحاد الغير المحفوفة بالقرائن ، أو علميّة العمل بهما ولو مع عدم علميّة مفاديهما ، أو ظنّية مفاديهما في الغالب مع عدم قيام ما يقضي بعلميّة العمل بهما بالخصوص.

فالخارج عن الوفاق في القضيّة الاولى إذا أراد أخذه حجّة لنفسه يستكشف من جهته عن كون القضيّة المتّفق عليها ممّا رضي بها الإمام وأمضاها ، ثمّ ينظر فيها بلحاظ الواقع ليعرف ما هو جهة التعبّد بالآيات والروايات بحسب الواقع ، فإذا وجد انتفاء جهة العلميّة عنهما مفادا في الغالب وعملا في الكلّ على تقدير انتفاء جهة علميّة المفاد بفقد ما يوجبهما من العقل والنقل ، تبيّن عنده أنّ الجهة الّتي رضي لأجلها الإمام بتلك القضيّة إنّما هي جهة ظنّية المفاد ، ولو لأجل ظنّية الأسناد كما في أخبار الآحاد ، بناء على عدم تماميّة دليل التعبّد بها بالخصوص ، وهذا هو معنى الإجماع على حجّية الظنون الاجتهاديّة المتعلّقة بالكتاب والسنّة بالمعنى الأعمّ ، ممّا يشتمل على الألفاظ الغير الصريحة وأخبار الآحاد مع ظنّية ألفاظها أيضا متنا ودلالة أو صراحتها بعد إحراز الأسناد بالظنّ.

ووجه إخراج الأخباريّة هنا ـ مع أنّهم كغيرهم في العدول إلى اختيار العمل بالأخبار من باب الظنّ الخاصّ أو الظنّ المطلق على فرض انكشاف فساد عقيدتهم في دعوى علميّة الأخبار الموجودة الآن مطلقا أو خصوص الأخبار المودعة في الكتب الأربعة من حيث الصدور فقط كما هو ظاهرهم ، أو من حيث الصدور والدلالة معا على احتمال بعيد ـ خروجهم عن القضيّة الاولى المجمع عليها في الجملة ، فإنّهم لا يقولون بمرجعيّة الكتاب على إطلاقه حتّى ما لم يكن من آياته مفسّرة بالروايات ، غير أنّ هذا الخلاف منهم ـ لكونه ناشئا عن شبه عرضت لهم وقد فرغنا عن القطع بفسادها ـ لا يقدح في انعقاد الإجماع بالقياس إلى ما انعقد فيه.

ومن هنا يقال ـ في المقام ـ : بعدم الاعتداد بخلافهم ووفاقهم معا.

وبما قرّرناه في تحقيق الإجماع هنا يندفع ما عساه يورد عليه : من أنّه نظير

٩٤

ما لو حصل إجماعهم على طهارة شيء ـ كماء الغسالة ـ مع اختلافهم في المستند ، بأن استند بعضهم إلى دليل ظنّي بلغه ، والبعض الآخر إلى أصالة الطهارة في الأشياء الثابتة بالنقل ، والثالث إلى قاعدة عدم الدليل ، والرابع إلى أصالة البراءة من وجوب الاجتناب ، والخامس إلى استصحاب الطهارة السابقة ، والسادس إلى استصحاب البراءة الأصليّة الثابتة قبل زمان تعلّق التكليف وهكذا ، نظرا إلى أنّ فرقة من المجمعين هنا يتمسّكون بقاعدة الانسداد ، وهي نظير أصل البراءة ونحوه في المثال المذكور.

ولا ريب أنّ مثل هذا الإجماع لا يصلح كاشفا عن قول الإمام ، لجواز كون مذهبه بحسب الواقع نجاسة هذا الشيء.

ووجه الاندفاع أمّا أوّلا : فلأنّ الإجماع المفروض في المثال المذكور إمّا أن يكون مفروضا في حقّ العالم بمستند المجمعين أو في حقّ الجاهل بالمستند ، والأوّل خارج عن مورد التمسّك بالإجماع لاشتراطه بعدم العلم بالمستند تفصيلا ، ضرورة أنّه مع العلم به كذلك إن كان ممّن يقول باعتبار ذلك المستند وحجّيته فمستنده في معرفة الحكم هو ذلك المستند لا الإجماع ، ولذا يتبع الحكم في قطعيّته وظنّيته لذلك المستند ، ولا يعقل مع كون المستند المعلوم ظنّيا القطع بالحكم من جهة الإجماع ، وهو آية عدم تأثير للإجماع في هذا الفرض ، نظرا إلى أنّه يعدّ عندهم من الأدلّة القطعيّة.

وإن كان ممّن لا يقول باعتبار ذلك المستند فلا يحصل له شيء من القطع والظنّ بالحكم بهذا الإجماع ، لوضوح أنّ فساد المبنيّ عليه يقضي بفساد المبني.

والثاني غير ضائر في حصول الانكشاف للجاهل المطّلع على أصل الإجماع.

غاية الأمر أنّ المنكشف في حقّه على تقدير عدم المطابقة لمذهب الإمام بحسب الواقع يصير حكما فعليّا ظاهريّا باعتبار الواقع ، وإن كان هو ممّن يتعبّد به باعتقاد الواقع ولا بأس به ، نظرا إلى أنّ الأدلّة القطعيّة يراد بها ما يفيد القطع بالواقع ، ولا يشترط فيها المصادفة للواقع ، وهكذا يقال في محلّ البحث على معنى أنّ الإجماع المذكور إنّما ينهض دليلا لمن لم يطّلع على مستند المجمعين وأنّه بالنسبة إلى بعضهم ليس إلاّ قاعدة الانسداد ، وحينئذ فلا مانع من حصول الانكشاف بالنسبة إليه ، وإن بعد تحقّق هذا الفرض في الخارج بعد ملاحظة اشتهار هذا القول بما لا يكاد يخفى على أحد ، خصوصا بعد مراعاة التتبّع التامّ في الكتب الاصوليّة والفقهيّة.

٩٥

وأمّا ثانيا : فلما عرفت من أنّ هذا الإجماع إنّما يثمر إذا فرضنا انعقاده في نفي طريقيّة كلّ ما يحتمل كونه طريقا سوى الكتاب والسنّة وما يرجع إليهما ، وانحصار الطريق المجعول في نظر الإمام فيهما ، فإذا علمنا من جهته بأنّ الإمام لا يرضى بطريق غيرهما وعلمنا أيضا من جهة الخارج بأنّهما في الغالب ليسا إلاّ ظنّيين نعلم بأنّ الطريق المجعول في نظره بالنسبة إلينا إنّما هو الظنون المتعلّقة بهما كائنة ما كانت ، ولا يضرّ في ذلك علمنا باختلاف المجمعين في المشرب ، لما عرفت من أنّه في الحقيقة اختلاف في جهة التعبّد لا في تعيين ما يتعبّد به حتّى بالقياس إلى من يتمسّك بدليل الانسداد ، نظرا إلى أنّه بعد إحراز مقدّمة الانسداد وإثبات أنّهما في الغالب ليسا إلاّ ظنّيين إنّما يتمسّك به لنفي جهة العلميّة ، على معنى رجوع كلامه إلى القول بأنّ جهة التعبّد بهما لا ينبغي أن يكون كونهما علميّين مفيدين للعلم ، ليكون المطلوب من الرجوع إليهما تحصيل العلم بالواقع لئلاّ يلزم التكليف بغير المقدور ، فتعيّن أن يكون المطلوب من الرجوع إليهما هو الظنّ بالواقع ، وهذا معنى كون التعبّد بهما عند هذا القائل لجهة الظنّية ، ولذا تراه أنّ دليله لا يتمّ إلاّ بعد إحراز مقدّمات غير مقدّمة الانسداد يبطل بها جميع الاحتمالات المانعة عن الإنتاج الراجعة إلى مرجعيّة غيرهما بالإجماع ونحوه.

نعم المتمسّك بهذا الإجماع لابدّ له من أن يقطع النظر عن هذا الدليل لو كان تامّا في نظره ، أو يكون ممّن يناقش في بعض مقدّماته ، كأن يكون ممّن يجوّز التكليف بغير المقدور ، أو يكون مقصوده من التمسّك به إقامة الحجّة على الخصم الغافل عن دليل الانسداد ، أو المناقش في بعض مقدّماته وإن كان قد يفضي ذلك إلى إخراج المستندين إلى هذا الدليل عن مورد هذا الإجماع كالأخباريّة ، بمعنى فرض كون دخولهم مع المجمعين في القضيّة المجمع عليها كالحجر الموضوع في جنب الإنسان ، لفرض كون دخولهم معهم عن مدرك غير تامّ ، فيختصّ الإجماع الحقيقي الكاشف عن رأي الحجّة بغيرهم وفيه الكفاية ، نظرا إلى أنّ إجماعهم على نفي طريقيّة غير الكتاب والسنّة بالمعنى الأعمّ وانحصار الطريق فيهما اليوم معلوم ، ومستندهم في ذلك غير معلوم ، فينكشف بإجماعهم كون الطريق المرضيّ للحجّة مع ملاحظة ما ذكرنا من عدم كونهما علميّين في الغالب هو الظنون المتعلّقة بهما سندا ومتنا ودلالة ومعارضة.

لكن يبقى الإشكال في أنّ كون المرجع المرضيّ للحجّة هو الكتاب والسنّة مع انتفاء

٩٦

جهة العلميّة عنهما في الغالب لا يقضي بكون النظر في التعبّد بهما إلى جهة الظنّية باعتبار الغالب ، ليكون المرجع بحسب الحقيقة هو الظنون المتعلّقة بهما سندا ومتنا ودلالة ومعارضة كما هو المطلوب من الاستدلال بالإجماع ، لجواز كون النظر في التعبّد بهما إليهما من حيث هما مع قطع النظر عن الظنّ وجهاته المذكورة.

ومحصّله كونهما مرجعان من باب السببيّة المطلقة على قياس ما هو الحال في الأمارات التعبّديّة الغير المنوطة بالظنّ كالبيّنة ونحوها.

والحاصل لم يعلم من الإجماع المذكور كون مناط التعبّد بهما الظنّ المتعلّق بهما من الجهات المذكورة.

ويمكن دفعه : بأنّ الحكم المجمع عليه معلّق على عنوان واقعي لا بدّ من إحرازه بطريق علمي أو ما يقوم مقامه على تقدير تعذّره وهو الظنّ بمعنى الوثوق والاطمئنان وسكون النفس ، والمراد بهذا العنوان « الكتاب والسنّة » الّتي هي عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره ، والكتاب من هذا العنوان وإن كان محرزا بطريق علمي للعلم بصدوره المستند إلى التواتر.

وأمّا السنّة منه فالمحرز منها بطريق علمي في غاية الندرة كما هو المفروض ، فلو كان نظر الإمام في التعبّد بهما إلى هذا المقدار لزم إلغاء أكثر الأحكام الشرعيّة الثابتة في الواقع ونفس الأمر بل غالبها ، على معنى كونه لا يريد امتثالها أصلا وهو خلاف الإجماع والضرورة من الدين ، فيستفاد منه الرخصة في الرجوع إلى الظنّ بالمعنى المذكور لإحراز ما تعذّر إحرازه من السنّة بطريق علمي ، على معنى تحصيل الوثوق والاطمئنان وسكون النفس في قول أو فعل أو تقرير محكيّ عن الإمام إلى كونه قوله وفعله وتقريره ، ولو لا ذلك عاد المحذور ، إذ لا سنّة عندنا عدا السنّة المعلومة النادرة حتّى نأخذها مرجعا ونتعبّد بها في امتثال أحكام الله تعالى ، وهذا هو معنى تعلّق الظنّ بالكتاب والسنّة سندا ، وإلى اعتبار هذا المعنى يشير اصطلاح القدماء في صحيح الحديث الّذي بنوا على حجّيته والتعبّد به يريدون به ما كان راويه متحرّزا عن الكذب.

وقضيّة ذلك بناؤهم في إحراز السنّة على لزوم مراعاة الوثوق والاطمئنان والسكون إلى الصدق ، إذ بملاحظة التحرّز عن الكذب يحصل ذلك جدّا.

ثمّ بعد الفراغ من إحراز الكتاب والسنّة باعتبار السند بأحد الطريقين لا بدّ من استفادة

٩٧

الأحكام الشرعيّة اللازم امتثالهما منهما ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بعد إحرازهما متنا ودلالة ومعارضة بطريق علمي أو ظنّي أيضا يقوم مقامه ، والأوّل منتف في الغالب جدّا ، فتعيّن الرجوع إلى الثاني لئلاّ يلزم المحذور المذكور من لزوم إلغاء غالب الأحكام بعدم إرادة امتثالها.

وهذا هو معنى قولنا : إنّ المرجع المرضيّ للحجّة بمقتضى الإجماع المذكور هو الظنون المتعلّقة بالكتاب والسنّة سندا ومتنا ودلالة ومعارضة.

هذا مع أنّ الإجماعات المنقولة المتقدّمة صريحة في الظنّ أو في الاجتهاد المأخوذ فيه الظنّ على ما تقدّم من استقرار الاصطلاح عليه.

وهاهنا إشكال آخر وهو : أنّ إثبات الظنّ المطلق بهذا الطريق ربّما يوهم كونه خلاف المعنى المعهود من الظنّ المطلق عند أهل القول به ، لأنّ مرادهم به على ما هو المصرّح به في كلامهم مرجعيّة الظنّ من أيّ سبب حصل وهو في المقام مقصور على الكتاب والسنّة.

ويمكن دفعه : بأنّ مرادهم بالأسباب الّتي يفرض الإطلاق بالنسبة إليها مضافة إلى ظواهر الكتاب وأخبار الآحاد بعد إخراج القياس ونحوه امور مخصوصة مضبوطة لديهم ، وهي : الإجماع الظنّي ، والإجماع المنقول ، والشهرة محقّقة ومحكيّة والاستقراء ، وهذه الامور وإن خصّ كلّ واحد باسم وصار كلّ واحد لأجله عنوانا على حدة غير أنّ مرجع الجميع عند التحقيق إلى الكتاب والسنّة ، والظنّ المستفاد منها ظنّ بالكتاب والسنّة ، ولذا تكرّر منّا عند ذكر الكتاب والسنّة ذكر ما يرجع إليهما أيضا.

وبيان ذلك أمّا بالنسبة إلى الإجماع الظنّي : فلأنّ الظنّ بالإجماع الكاشف عن قول المعصوم ظنّ بقول المعصوم فيكون ظنّا بالسنّة.

وأمّا بالنسبة إلى الإجماع المنقول : فلأنّ بنقل الثقة للإجماع الكاشف عن قول المعصوم يحصل الظنّ بتحقّق الإجماع بهذا المعنى وهو يستلزم الظنّ بقول المعصوم.

وأمّا بالنسبة إلى الشهرة : فلأنّها تكشف حيثما أفادت الظنّ عن وجود مدرك معتبر للمعظم من قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، فيكون الظنّ المستفاد منها ظنّا بالسنّة.

وأمّا بالنسبة إلى الاستقراء حيثما أفاد الظنّ : فلأنّ ملاحظة ثبوت الحكم في مورد الغالب بدليله من آية كتابيّة أو رواية نبويّة أو إماميّة مع عدم وجود فرد مخالف في الحكم توجب الظنّ بكون هذا الحكم الثابت من لوازم الكلّي الجامع للأفراد الغالبة والفرد المشكوك

٩٨

فيه صنفا أو نوعا أو جنسا ، ويلزم منه الظنّ بثبوته للفرد المشكوك فيه لكونه ملزوما للكلّي فيكون ملزوما للازمه المذكور ، وهذا الظنّ كما ترى مستند في حصوله إلى دليل الحكم في الأفراد الغالبة وهو لا يخلو من كونه كتابا أو سنّة ولو ظنّية.

نعم يشكل إجراء هذا البيان في الأولويّة الظنّية الّتي هي عندهم أيضا من أسباب الظنّ المطلق ، لعدم استناد الظنّ الناشئ منها إلى كتاب ولا سنّة وعدم تعلّقه بهما كما لا يخفى ، فالمتّجه في هذا الظنّ المنع من التعويل عليه.

ومن هنا ظهر الوجه في منع العمل بالقياس ونحوه وإن أفاد الظنّ لعدم رجوعه إلى الظنون المتعلّقة بالكتاب والسنّة ، ضرورة أنّ الظنّ بالحكم فيه مستند إلى ظنّ العلّة المستند إلى الدوران والترديد وغيره من وجوه استنباط العلّة المعمولة لدى العامّة.

وهذا ممّا لا مدخل فيه للكتاب والسنّة ، فخروجه عن الظنون المطلقة ليس من باب التخصيص في الدليل القطعي وهو الإجماع.

وهذا هو الوجه أيضا في استثنائه عن دليل الانسداد أيضا على تقدير الاستناد إليه في إثبات الظنّ المطلق ، فإنّه ليس من باب التخصيص في حكم العقل ، على معنى أنّ خروجه عن دليل الانسداد خروج موضوعي لا أنّه خروج حكمي.

وتوضيحه : أنّ موضوع دليل الانسداد ـ عند التحقيق وفي النظر الدقيق ـ إنّما هو الظنون المتعلّقة بالكتاب والسنّة بإحدى الجهات المذكورة كما يعلم ذلك من ملاحظة تقريرهم الانسداد الّذي هو العمدة من مقدّماته ، حيث يقال : باب العلم بمعظم الأحكام الشرعيّة مسدود لظنّية أدلّتها غالبا.

أمّا الكتاب : فلأنّه وإن كان قطعيّ السند إلاّ أنّه ظنّي الدلالة في الغالب.

وأمّا السنّة : فلأنّ المتواتر منها والواحد المحفوف بالقرائن في غاية الندرة ، بل الغالب منها ظنّي السند والدلالة معا.

وأمّا الإجماع : فمحصّله نادر ومنقوله ظنّي ، فتعيّن العمل بالظنّ حذرا عن التكليف بغير المقدور والخروج عن الدين.

ولا ريب أنّ المراد بالظنّ ما غلب وجوده مكان العلم المسدود بابه ، وليس ذلك إلاّ في الكتاب والسنّة ، وقد عرفت أنّ غيرهما من أسباب الظنّ المتقدّم إليها الإشارة راجع إليهما في الحقيقة.

٩٩

ولا ريب أنّ الظنّ القياسي على ما بيّنّاه ليس من هذا الموضوع ، ومثله الظنّ الاستحساني والرملي والجفري والنومي وغيرها.

فإن قلت : ظنّ العلّة في القياس يفيد ظنّ الحكم ويستلزم ذلك الظنّ كون هذا الحكم ممّا قال به المعصوم ، وهذا أيضا ظنّ بالسنّة على حدّ ما ذكرته في الإجماع الظنّي وغيره.

قلت : ليس كذلك ، فإنّ المعتبر من ظنّ السنّة ما كان الحكم الشرعي تابعا للسنّة المظنونة مستندا ظنّه إليها ، والمتحقّق في القياس على عكس ذلك ، فإنّ السنّة المظنونة فيه تابعة لظنّ الحكم مستند ظنّها إلى ظنّه وهو خارج عن مورد الدليل.

والحاصل : المستفاد من دليل الإجماع وغيره أنّ الله سبحانه يريد الاستناد في امتثال أحكامه إلى كتابه وسنّة نبيّه أو خلفائه ، والاستناد بهذا المعنى منتف في القياس كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر الجواب عمّا لو قرّر تطبيق القياس على ما ذكرناه من الضابط بأنّ ظنّ العلّة من أيّ سبب حصل يستلزم الظنّ بالحكم ، فإنّ ذلك أيضا في معنى عزل السنّة عن التأثير ، إذ الحكم في الحقيقة مستند إلى ظنّ العلّة الغير المستند إلى ظنّ السنّة بل الظنّ بالسنّة مستند إليه.

وممّا يدلّ على مرجعيّة الكتاب والسنّة والظنون المتعلّقة بهما سندا ومتنا ودلالة ومعارضة الأخبار المأثورة عن أهل بيت العصمة البالغة في الكثرة فوق حدّ التواتر ، وهي على أنواع :

منها : ما ورد من الروايات والخطب والوصايا في ذمّ أهل البدع والضلال المتديّنين بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم على سبيل الاستقلال ، المعلّلة تارة : بلزوم انتفاء فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب لو كان سلوك هذا الطريق ممّا رضي به الله سبحانه ، واخرى : بأنّه تعالى لم يدع شيئا ممّا يكتفون به ويحتاجون إليه إلى يوم القيام إلاّ وأنزله إلى نبيّه وبيّنه في كتابه وسنّة نبيّه.

ومنها : ما ورد في الروايات المستفيضة من أنّه تعالى أكمل دينه وجعل لكلّ شيء حكما وأنزل لبيان كلّ شيء كتابا وأرسل لتبليغها رسوله ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدع شيئا منها إلاّ وبيّنها لامّته ، وأنّها محفوظة عند أهل بيته وخلفائه المعصومين عليهم‌السلام ، وأنّهم عليهم‌السلام ما قصّروا في حفظها وتعليمها لشيعتهم وأصحابهم.

ومنها : أخبار الثقلين وهي كثيرة جدّا ، ومن جملتها الحديث الشريف المدّعى كونه متواترا بين الفريقين : « إنّي تارك فيكم الثقلين [ ما ] إن تمسّكم بهما لن تضلّوا بعدي : كتاب

١٠٠