تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

بعض الواجب بالشرطي فليس من مستحدثات متأخّر المتأخّرين ، ثمّ يذكر لإطلاق الواجب الشرطي موردان :

أحدهما ما في مسألة نزح البئر عند وقوع النجاسة فيها على القول بعدم الانفعال عن الشيخ من أنّه لا ينفعل ويجب النزح تعبّدا للأمر به ، ولكنّه شرط جواز الاستعمال فلو استعمله قبل النزح وصلّى أثم إذا كان الاستعمال عمدا ولا شيء عليه في السهو وصلاته صحيحة على التقديرين.

وثانيهما : ما في مسألة الوضوء للصلاة المندوبة ، وكذلك الأذان والإقامة من قولهم : « الوضوء واجب شرطي لها » فأورد عليهم : بأنّ المشروط إذا لم يكن واجبا فكيف يكون شرطه واجبا؟

واجيب : بأنّ الوضوء ليس واجبا لكن جواز فعل المشروط مشروط بالوضوء ، فإذا لم يتوضّأ حرم عليه فعل المشروط ، فالعقاب إنّما هو لفعل الحرام لا لترك الواجب الّذي هو الوضوء ، ثمّ يذكر لمعناه المراد منه وجهان :

الأوّل : كون النزح والوضوء واجبين بشرط إرادة الاستعمال والدخول في الصلاة ، بحيث يكون العقاب على تركهما لا على الاستعمال وفعل الصلاة.

والثاني : أن يكون النزح والوضوء شرطين لجواز المذكورات لا واجبين بحيث يكون العقاب على تقدير الترك على فعل الحرام وهو فعل المشروط بدون شرطه ، ومرجع الأمرين إلى أنّ الوضوء والنزح هل هما واجبان مشروطان بإرادة الفعل الآخر أم ليسا بواجبين أصلا ، بل شرطين لجواز الفعل الآخر فإنّه يحرم بدون الشرط.

أقول : وعلى هذا المعنى يصحّ إطلاق الواجب على الوضوء لمسّ كتابة القرآن ونحوه ، وعلى الغسل لدخول المسجدين ، وعلى طبخ اللحم ونحوه ممّا لا يجوز أكله إلاّ بعد الطبخ ونحو ذلك ممّا لا يخفى ، وهذا هو الأقرب بالاعتبار وإن كان الأوّل هو الأقرب بلفظ « الوجوب » وكلّ منهما كان فالإطلاق مجازيّ أمّا على الثاني فواضح ، وأمّا على الأوّل فلرجوعه حينئذ إلى الواجب المشروط وكونه نوعا منه ، لتوقّف وجوبه على شيء وهو الإرادة.

ثمّ إنّ الواجب قد ينقسم إلى التعبّدي والتوصّلي وقد تقدّم البحث عنهما ، وقد ينقسم باعتبار الزمان إلى الموقّت وغيره والأوّل إلى الموسّع والمضيّق والثاني إلى الفوري وغيره ، وباعتبار المكلّف إلى العيني والكفائي وباعتبار المكلّف به إلى التعييني والتخييري ، والكلام

٤٤١

في بعض منها قد تقدّم في المباحث السابقة وفي البعض الآخر سيأتي في المباحث اللاحقة.

المبحث الثالث (١)

فيما يتعلّق بالكلمة الثالثة من أجزاء القضيّة

وهو الجزء الأخير الّذي وقع خبرا للمبتدأ ، محمولا لموضوع القضيّة ، أعني قولنا : « واجبة » وليس في ذلك بعد ما تقرّر من المسائل المتقدّمة المتعلّقة بالواجب كلام إلاّ ما يرجع إلى تشخيص موضع النزاع من معنى الوجوب والواجب.

فللوجوب معان يطلق عليها في هذا المقام لابدّ من معرفتها لتوقّف معرفة موضع النزاع عليها ، وسيأتي ذكرها. والإشارة إلى ما هو موضع النزاع منها.

وأمّا الواجب فقد عرفت أنّ له أقساما حاصلة عن تقسيمات كثيرة ، ولكن موضع النزاع هنا يحرّر بالنسبة إلى أربع من تقسيماته ، وهي تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، وإلى التعبّدي والتوصّلي ، وإلى النفسي والغيري ، وإلى الأصلي والتبعي.

فأمّا بالنسبة إلى الأوّل منها وهو انقسامه إلى المطلق والمشروط ، فالحقّ أنّ محلّ النزاع هنا أعمّ من القسمين إذ معنى قولنا : « مقدّمة الواجب هل هي واجبة أولا؟ » أنّ المقدّمة هل لها وجوب من نحو وجوب ذيها ـ مطلقا كان أو مشروطا ـ أو لا؟ فالواجب إن كان مطلقا يكون [ النزاع ] في وجوب مقدّمته المطلق ، وإن كان مشروطا يكون النزاع في وجوب مقدّمته المشروط ، فعلى هذا كما أنّ الحجّ واجب مشروط فكذلك مقدّمته الّتي هي عبارة عن طيّ المسافة ونحوه ـ على القول بوجوبها ـ واجبة مشروطة ، وسيأتي زيادة بحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

وأمّا بالنسبة إلى الثاني وهو انقسامه إلى التعبّدي والتوصّلي فالنزاع إنّما هو في الوجوب التوصّلي ، فإنّ الواجب التوصّلي ـ على ما سبق شرحه ـ هو الّذي أمر به لأجل حصوله في الخارج ، والمقدّمة لمّا كانت بحيث يصير المكلّف بحصولها في الخارج أقرب إلى الإتيان بالمأمور به فصارت واجبة على القول به لأجل ذلك ، ولا ينافيه طروّ جهة التعبّد لها في بعض الأحيان بدليل خارجي كما في الطهارات الثلاث بالنظر إلى الصلاة ، لأنّ ذلك زيادة أثبتها الشارع لخصوصيّة فيها.

__________________

(١) تقدّم المبحث الثاني في ص ٣٨١.

٤٤٢

ولكن يشكل الأمر في ذلك من جهة أنّ المقدّمة لو اعتبر فيها قصد فإنّما هو قصد التوصّل إلى الغير الّذي هو ذو المقدّمة ، فكيف يجتمع ذلك مع جهة التعبّد الّتي يلزمها قصد امتثال الأمر بالمقدّمة من حيث كونه أمرا بها.

ويمكن دفعه : بتعميم الواجب التعبّدي بحيث يشمل المقدّمة الّتي لها جهة تعبّديّة ، بأن يقال في تعريفه : « إنّه ما كان الغرض الأصلي من الأمر به الامتثال وحصول التقرّب ، سواء كان ذلك الامتثال مطلوبا لنفسه بأن يكون غاية الغايات فهو ذو المقدّمة الواجب كالصلاة مثلا ، أو مطلوبا لأجل الامتثال بالغير والوصلة إليه فهو المقدّمة الواجبة كالوضوء مثلا.

وأمّا بالنسبة إلى الثالث وهو انقسامه إلى النفسي والغيري ، فالظاهر أنّ محلّ النزاع هو الوجوب الغيري ، بل هو المقطوع به إذا لم يقل أحد بالوجوب النفسي في المقدّمة ، بل ولو قاله أحد لبادرنا بتخطئته بعنوان الجزم ، لخروجه عن الاصطلاح واشتباهه لمحلّ النزاع بالغير.

وأمّا بالنسبة إلى الرابع وهو انقسامه إلى الأصلي والتبعي فلا إشكال في أنّ النزاع في وجوبها بالمعنى الثاني ، فلا ينبغي أن يكون في الوجوب الأصلي بالمعنى الّذي قدّمنا ذكره ، وهو أن يكون طلبه مقصودا بالخطاب بالأصل ، سواء سيق الخطاب لإفادته أو لإفادة طلب آخر يستفاد منه طلبه أيضا على سبيل الاستقلال.

والوجه في ذلك : أنّ كثيرا مّا نطلب شيئا مع الغفلة عن ذات مقدّمته فضلا عن طلبها فما يكون قابلا لهذا المعنى فلا معنى لوجوبه أصالة أصلا.

فما صرّح به بعض الأعلام من أنّ النزاع في الوجوب الأصلي تعليلا بخروج الوجوب التبعي من جهة الاتّفاق على الوجوب حينئذ عن محلّ النزاع ، اشتباه في محلّ النزاع فلا يعبأ به.

فعلى ما ذكرناه من أنّ النزاع في الوجوب التبعي يكون معنى العنوان : أنّ مقدّمة الواجب وإن لم يكن الشارع قصد طلبها عند طلب ذيها إلاّ أنّها مطلوبة له بالتبع بحيث لا يرضى بتركها لو التفت إليها لأجل أنّ تركها مفض إلى ترك ذيها.

فصار حاصل الفرق بين الواجب الأصلي والواجب التبعي هو الطلب التفصيلي والإجمالي ، أو الطلب الفعلي والشأني ، فالواجب الأصلي ما كان مطلوبا بالتفصيل أو بالفعل ، والتبعي ما كان مطلوبا بالإجمال أو بالشأن والقوّة ، وإن شئت تسمّيه بالأصلي.

ولعلّ توهّم من جعله في محلّ النزاع أصليّا يرجع إلى هذا المعنى ، فيكون النزاع بينه وبين غيره لفظيّا ولكنّه خلاف ما يقتضيه صريح كلامه.

٤٤٣

مطلقا يقتضي إيجاب ما لا يتمّ إلاّ به شرطا كان أو مسببا أو غيرهما *

__________________

فعلى ما ذكرناه لابدّ من التصرّف في الواجب التبعي بحمله على وجوب لوازم الواجب ، بدعوى انحصاره فيما لو لم يكن اللوازم مقدّمات لوجود الملزوم ، فإنّها أيضا واجبة بمعنى أنّها محبوبة لا لأجل ذاتها ولا لأجل كونها مقدّمات للواجب ، بل لأجل أنّ وجوداتها تقارن وجود الواجب من جهة عدم انفكاك الواجب عنها في الوجود الخارجي ، فلا يحبّ المولى تركها بل يبغضه لأجل ملازمة تركها لترك ملزوماتها الّتي هي المطلوبة أصالة والمقصودة بالطلب ذاتا.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الوجوب له معان عديدة ليس من محلّ النزاع إلاّ بعضها وسيأتي ذكرها ليتبيّن به ما هو حقيقة المقام.

* واعلم أنّ تقييد « الواجب » في العنوان بالإطلاق هو الواقع في كلام جماعة ، وصرّح غير واحد في بيان فائدته بأنّه لاخراج الواجب المشروط الّذي يتوقّف وجوبه على شرط كالحجّ والزكاة بالقياس إلى الاستطاعة وملكيّة النصاب ، إذ لا نزاع في عدم وجوب ما يتوقّف عليه ذلك الوجوب.

وقد يعلّلها : بأنّه لولا ذلك للزم وجوب الشيء بشرط وجوده أو على تقدير وجوده وهو محال.

وقد يعترض عليه : بأنّ « الأمر » حقيقة في المطلق ومجاز في المشروط ، فلا حاجة إلى تقييده بالمطلق لظهور اللفظ في معناه الحقيقي ، فالاحتراز حاصل بذلك الظهور ، أو يقال : إنّ الخروج فرع الدخول ، والواجب المشروط لا يدخل في مفهوم « الأمر » الّذي هو حقيقة في المطلق ليحتاج إلى الإخراج.

والظاهر أنّ أوّل من سبق بهذا الاعتراض إنّما هو شيخنا البهائي في الزبدة حيث قال : « وتقييدهم الواجب بالمطلق لإخراج الاستطاعة وتحصيل النصاب مستغنى عنه إذ الكلام بعد الوجوب لا قبله ».

وقال في الحاشية : اعلم أنّ قدماء الاصوليين عبّروا عن وجوب مقدّمة الواجب بقولهم : « ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب » ولم يقيّدوا الواجب بالمطلق.

واعترض عليهم بعض المتأخّرين : بأنّه لابدّ من تقييده به ليخرج الواجب المشروط كالحجّ والزكاة مثلا ، فإنّ وجوبهما لا يتمّ إلاّ بعد الاستطاعة وملكيّة النصاب وليس شيء

٤٤٤

منهما بواجب ، فلا يصحّ أخذ العنوان مطلقا بل لابدّ من تقييده بالمطلق.

وغرضنا دفع كلام هذا المعترض لأنّ القدماء [ يريدون ] بالواجب ما هو واجب بالفعل وهو الواجب حقيقة ، لأنّ إطلاق الواجب على ما يجب في المستقبل مجاز اتّفاقا كما تقرّر في المبادئ اللغويّة من أنّه لا خلاف في أنّ إطلاق [ المشتقّ ] على ما سيتّصف بالمبدأ في الاستقبال مجاز.

فهذا المعترض حمل « الواجب » في كلامهم على ما يعمّ الواجب حقيقة ومجازا ثمّ اعترض عليهم ، فلو أبقاه على حقيقته لم يرد عليه شيء إذ معناه : كلّما وجب فعله وجبت مقدّمته.

أقول : ومع الغضّ عمّا ذكر يحصل الاحتراز عن شرائط الوجوب في الواجب المشروط بقولهم : « ما لا يتمّ الواجب إلاّ به » حيثما وقعت لفظة « الواجب » فاعلا لـ « يتمّ » أو الضمير الراجع إليها.

وعبارة المصنّف يحتمله بناء على عود الضمير إلى « الشيء » كما هو الظاهر لا « الأمر ».

والوجه في ذلك : أنّ شرائط الوجوب ليست ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به بل ممّا لا يتمّ الوجوب إلاّ به ، وفائدة هذا الاعتبار حصول الاحتراز عنها على جميع الأقوال في الأمر حتّى القول باشتراكه بين الإطلاق والتقييد لفظا أو معنى ، فإنّ التعويل على الوجه الأوّل في الإخراج ربّما يمكن المناقشة فيه بعدم اطّراده بالنسبة إلى جميع المذاهب.

فمن يرى « الأمر » أو « الواجب » مجازا في المشروط فله التعويل في الإخراج على ظهور اللفظ في معناه الحقيقي المجرّد عمّا يصرفه عن ذلك ، كما أنّ له التعويل على ما ذكرناه.

ومن لا يراه كذلك يقول على ذلك خاصّة.

وعلى كلّ تقدير يخرج قيد « الإطلاق » في كلامهم بلا فائدة.

ويمكن أن يقال : بكونه لتعميم العنوان بحيث يشمل قسمي الأمر أو الإيجاب اللفظي واللبّي.

فإنّ محلّ النزاع لا يخصّ بما ثبت وجوبه بالأوامر اللفظيّة ، بل الظاهر أنّ ذلك هو الداعي إلى التقييد لا ما ذكروه.

وربّما يوجّه القيد بكونه لتعميم أفراد المقدّمة من السبب والشرط إجمالا وقوله : « شرطا كان أو سببا أو غيرهما » تفصيل لذلك الإجمال.

وأنت خبير بأنّ ذلك إن صحّ فإنّما يتمشّى في كلام من عبّر عن العنوان بقوله : « مقدّمة الواجب واجبة » وأمّا من يعبّر عنه : « بالأمر بالشيء » كالمصنّف ، أو « بأنّ إيجاب الشيء

٤٤٥

يقتضي إيجاب ما لا يتمّ إلاّ به » مع ذكر القيد مقدّما على ذكر « ما لا يتمّ إلاّ به » فلا يجري في كلامه هذا التوجيه أصلا ، والوجه واضح بعد التأمّل.

والعجب من بعض الأفاضل كيف غفل عمّا ذكرناه ، فأجاب عن التوجيه : بأنّه يلزم حينئذ اندراج غير القدرة من مقدّمات الواجب المشروط في العنوان مع خروجها عن محلّ النزاع.

ثمّ استشعر اعتراضا بقوله : ولو اجيب بأنّ إطلاق الأمر بالشيء إنّما ينصرف إلى المطلق دون المشروط لعدم تعلّق الأمر به قبل وجود شرطه.

فدفعه : بأنّ ذلك إن تمّ لجرى بالنسبة إلى ما صار من مقدّمات الواجب المطلق غير مقدورة فلا حاجة إلى قيد « المقدوريّة » في العنوان ، إذ لا فرق بين المقدّمة المذكورة وسائر مقدّمات الواجب المشروط.

وغرضه بذلك الردّ على من ذكر من المحقّقين التوجيه المذكور في كلام المصنّف لتصحيح ما اعتبره من قيد « المقدوريّة » حيث قال ـ بعد ما ذكر من التوجيه ـ : وحينئذ يحتاج إلى قوله : « مقدورا ».

وإنّما ذكر ذلك لدفع ما أورده أوّلا على ما اعتبره من قيد الإطلاق على تقدير كونه لإخراج مقدّمات الواجب المشروط من قوله : « وحينئذ لا احتياج ـ إلى قوله ـ مع كونه مقدورا لأنّ الواجب بالنسبة إلى المقدّمة الغير المقدورة واجب مقيّد ، إلاّ أن يقال : إنّه للتوضيح.

وأنت خبير بأنّ كلّ ذلك تكلّف ركيك ناش عن عدم فهم ما هو حقيقة المراد من العبارة وما هو فائدة القيدين.

فتحقيق المقام : ما أشرنا إليه من أنّ قيد الإطلاق لتعميم الأمر والإيجاب بالنسبة إلى ما يستفاد من الأدلّة اللفظيّة وما يستفاد من الأدلّة اللبّية وقيد « المقدوريّة » لاخراج ما يصير من مقدّمات الواجب المطلق غير مقدور ، إذ لا معنى لوجوبه ما دام عدم القدرة عليه.

وأمّا مقدّمات الوجوب في الواجب المشروط فتخرج بأحد الأمرين من انصراف الأمر والإيجاب إلى المطلق ، وظهور ما لا يتمّ الواجب إلاّ به في مقدّمات وجود الواجب وعدم شموله لمقدّمات وجوبه كما عرفت.

ولو أورد عليه : بأنّ ذلك لو صلح لإخراج مقدّمات الواجب المشروط لحصل الغناء عن اعتبار قيد « المقدوريّة » فيما بعد ، لكون الواجب بالنسبة إلى المقدّمة الغير المقدورة أيضا واجبا مشروطا ، والمفروض خروجه بما ذكر كما عرفت التعرّض لذكره عن بعض الأفاضل.

٤٤٦

لدفعناه : بأنّ خروج الواجب المشروط عن العنوان إمّا من جهة كون الواجب حقيقة في المطلق وكذلك « الأمر » فلا يشملان مجرّدين عن القرينة لغيره لكونه معنى مجازيّا ، أو من جهة ظهور ما لا يتمّ الواجب إلاّ به في مقدّمات الوجود ، والأوّل لا يحسم مادّة الإشكال بتمامه حتّى على القول بالاشتراك بين المطلق والمشروط لفظا أو معنى.

والثاني لا ينافي ما صار غير مقدور من مقدّمات الواجب المطلق ، كطيّ مسافة الحجّ بعد حصول الاستطاعة إذا لم يقدر عليه المكلّف ، لأنّه أيضا ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به.

غاية الأمر حينئذ يصير مشروطا بالنسبة إلى القدرة عليه لا بالنسبة إلى وجوده ، لأنّ وجوده بعد القدرة مقدّمة لوجود الواجب لا لوجوبه ، فمن يعتمد في الاحتراز عن مقدّمات المشروط على ظهور ما لا يتمّ إلاّ به فلابدّ له من اعتبار قيد « المقدوريّة » ليحترز به عن المقدّمة المذكورة جزما.

وأمّا ما ذكره بعض المحقّقين بعد ما ذكره من التوجيه المذكور وتصحيح قيد « المقدوريّة » في كلام المصنّف من قوله : « لكن لابدّ لقيد آخر لإخراج المقدّمات المقدورة بالنسبة إلى الواجب المقيّد » فيشبه لما في مناهج النراقي من قوله : « واعلم أنّ الواجب الّذي وقع الخلاف في مقدّمته هو الواجب المطلق ، وأمّا مقدّمة المقيّد فلا خلاف في عدم وجوبها بل ادّعى بعضهم كونه بديهيّا » ويشبههما في إطلاق القول بالخروج كلام غيرهما.

وأنت خبير بما في تلك العبارات من الإهمال الموجب للإخلال ، ومع ذلك فإن أرادوا بمقدّمات الواجب المقيّد ما هي شرائط لوجوبه فلا كلام ، لأنّها الّتي ادّعي الاتّفاق على خروجها في حدّ الاستفاضة وقضت الضرورة بعدم وجوبها نظرا إلى عدم معقوليّة الوجوب حينئذ.

ولكن يرد على الأوّل : عدم الحاجة إلى قيد آخر لإخراج تلك المقدّمات لكفاية ما ذكرناه من أحد الأمرين في إخراجها.

وإن أرادوا بها ما هي من مقدّمات وجوده ففي توهّم خروجها عن محلّ النزاع فساد واضح ، وتنزيل دعوى الاتّفاق والبداهة على خروجها أفسد منه ، كيف وأنّ التفكيك بين المطلق والمقيّد بالنظر إلى الخلاف في وجوب مقدّماتهما الوجوديّة غير معقول ، فإنّ وجوب المقدّمة على القول به يتبع وجوب ذيها إن مطلقا فمطلق وإن مشروطا فمشروط ، فيجيء النزاع حينئذ في وجوبها بالقياس إلى كلا قسمي الوجوب الثابت في ذيها ، فإن كان واجبا [ مشروطا ] يتبعه مقدّمة وجوده فتصير واجبة مشروطة ، وإن كان واجبا مطلقا يتبعه

٤٤٧

مع كونه مقدورا * ، وفصّل بعضهم فوافق في السبب وخالف في غيره ، فقال :

__________________

مقدّمة وجوده فتصير واجبة مطلقة.

فعلى هذا يدخل طيّ المسافة وغيره من مقدّمات وجود الحجّ الّذي هو واجب مقيّد قبل تحقّق شرط وجوبه في موضع النزاع ، فكما أنّه بعد تحقّق الشرط يجري النزاع في وجوبه وعدم وجوبه فكذلك قبل تحقّق الشرط ، ولا يعقل التفكيك بينهما.

غاية الفرق أنّ الوجوب المتنازع فيه على الأوّل مطلق وعلى الثاني مقيّد.

نعم لابدّ من تقييدها في الواجب المقيّد بكونها مقدّمة وجوديّة صرفة ليحترز به عمّا تكون مقدّمة للوجوب أيضا مع كونها مقدّمة للوجود (١) لما عرفت من خروج ما يكون مقدّمة للوجوب عن موضع النزاع ، وفي حكمها ما يكون مقدّمة للوجوب والوجود معا ، إذ لا يعقل القول بوجوبها سواء اريد به الوجوب المشروط أو المطلق قبل وجودها أو بعده.

أمّا الأوّل : فلأنّه وجوب شيء بشرط وجوده.

وأمّا الثاني : فلأنّه وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها.

وأمّا الثالث : فلأنّه وجوب شيء بعد وجوده وهو تحصيل للحاصل.

وبما قرّرناه تبيّن فساد ما أفاده بعض الفضلاء بعد ما أخذ قيد « الإطلاق » في عنوان المسألة بقوله : « وإنّما قيّدنا الأمر بكونه مطلقا احترازا عن مقدّمات الأمر المشروط قبل حصول الشرط ، فإنّها لا تجب من حيث كونها مقدّمة له إجماعا ، لظهور أنّ وجوب المقدّمة على القول به يتوقّف على وجوب ذي المقدّمة فيمتنع بدونه ».

ولا يخفى أنّ ذلك صريح في خروج المقدّمات الوجوديّة فإن أراد بعدم وجوبها الّذي قام الإجماع عليه عدم وجوبها المطلق فهو كذلك ، ولكنّه لا وجه لإخراجها عن المتنازع فيه بالمرّة ، إذ النزاع في وجوبها المشروط جار.

وإن أراد به عدم وجوبها مطلقا حتّى الوجوب المشروط

ففيه : ما مرّ ، مضافا إلى أنّه يناقضه قوله ـ في ذيل المسألة ـ : « بأنّ الكلام في مقدّمات الواجب المشروط كالكلام في مقدّمات الواجب المطلق فيجب مقدّماته بالوجوب الشرطي ، حيث يجب مقدّمات الواجب المطلق بالوجوب المطلق ».

* وهذا القيد أيضا واقع في كلام جماعة منهم البهائي رحمه‌الله إلاّ أنّه قال في الحاشية : إنّ

__________________

(١) وفي الأصل « مع كونها مقدّمة للوجوب » وهو سهو ، ولذا صحّحناه بما في المتن.

٤٤٨

التقييد بقولنا : « مقدورا » مبنيّ على الإغماض عمّا سنذكره فيما بعد من أنّ الكلام بعد الوجوب لا قبله ، إذ كلّ ما وجب فمقدّمته مقدورة البتة وإلاّ لزم تكليف ما لا يطاق ».

ولقد نقلنا ما ذكره فيما بعد بعين عبارته ، وغرضه بذلك الاعتراض على القيد بنحو ما مرّ من أنّ الكلام في مقدّمات ما وجب بالفعل لا ما يجب فيما بعد ، والواجب بالنسبة إلى مقدّمته الغير المقدورة مشروط ، ومعه لا حاجة إلى اعتبار هذا القيد إمّا لخروج الواجب المشروط بكون الواجب حقيقة في المطلق ومجازا في المشروط ، أو لكفاية ما اعتبرتم من قيد « الإطلاق » في إخراج ذلك.

ووافقه في ذلك الاعتراض جماعة فقالوا : بأنّ قيد « الإطلاق » يقضي بخروج الواجب المشروط مطلقا ، إذ لا ريب في أنّ التكاليف كلّها مقيّدة بالنسبة إلى القدرة على نفس الواجب وعلى مقدّماته ، فلا يكون الأمر بالشيء مع عدم القدرة على مقدّمته مطلقا ليحتاج في إخراجه إلى التقييد بكونها مقدورة.

وأجاب عنه المحقّق الخوانساري رحمه‌الله : بأنّ الواجب المطلق ليس بالنسبة إلى مقدّماته الغير المقدورة من قبيل الواجب المشروط الّذي هو عبارة عندهم عمّا توقّف وجوبه على وجود المقدّمة ، إذ ليس وجوبه مشروطا بوجود تلك المقدّمات بل مشروط بمقدوريّتها فيكون الواجب بالنسبة إليها من قبيل المطلق.

ثمّ قال : نعم يرد على هذا أيضا أنّه لا حاجة إلى القيد المذكور ، لأنّ المقدّمة حينئذ أيضا واجبة على القول بوجوبها لكن وجوبها مشروط بمقدوريّة المقدّمة فلا حاجة إلى القيد ، إذ لا شكّ أنّ ما يقال وجوب الشيء يستلزم وجوب مقدّمته ليس معناه أنّه يستلزم وجوب مقدّمته مطلقا من دون اشتراطه بشيء أصلا ، بل ظاهر أنّ المراد وجوبها مثل وجوب ذي المقدّمة ، فإن كان وجوبه مشروطا بشيء كان وجوبها أيضا كذلك وإلاّ فلا.

ووافقه على هذا الإيراد مع الجواب عمّا ذكره الجماعة في وجه القيد شيخنا الاستاد ـ زيد فضلا ـ فقال : بمنع اختصاص النزاع بما عدا الواجب المشروط ، مع منع كون الواجب موقوفا وجوبه على غير المقدورة من المقدّمة بل هو موقوف على القدرة على نفسه ، فكونه مشروطا إنّما هو بالإضافة إلى القدرة لا الغير المقدور ، فهو بالإضافة إليه مطلق كالمسافة بالنسبة إلى الحجّ إذا فرض كونها غير مقدورة ، فإنّ الحجّ بالنسبة إليها مطلق لعدم توقّف وجوبه على وجودها ، ولا منافاة بين كونه مشروطا من جهة ومطلقا من اخرى ، لما

٤٤٩

بعدم وجوبه. واشتهرت حكاية هذا القول عن المرتضى رضى الله عنه وكلامه في الذريعة والشافي غير مطابق للحكاية. ولكنّه يوهم ذلك في بادئ الرأي ، حيث حكى فيهما عن بعض العامّة إطلاق القول بأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلاّ به. وقال : « إنّ الصحيح في ذلك التفصيل بأنّه إن كان الّذي لا يتمّ الشيء إلاّ به سببا ، فالأمر بالمسبّب يجب أن يكون أمرا به. وإن كان غير سبب ، وإنّما هو مقدّمة للفعل وشرط فيه ، لم يجب أن يعقل من مجرّد الأمر أنّه أمر به ».

__________________

هو المقرّر من أنّ الإضافات تختلف باختلاف الجهات.

وربّما يوجّه ذلك القيد أيضا : بأنّ المراد بالقيد الأوّل إنّما هو الإطلاق بحسب اللفظ ، أي ما لم يقيّد وهو لا يستلزم الإطلاق بالمعنى المصطلح في ذلك المقام ، فهو مخرج لما يكون مقيّدا بحسب اللفظ فيبقى ما يكون مقيّدا بحسب المعنى من غير أن يذكر القيد في اللفظ محتاجا إلى قيد آخر فاحتيج إلى اعتبار قيد « المقدوريّة ».

وأنت خبير بوهن كلّ هذه الكلمات وكونها ناشئة عن اشتباه المراد من القيد ، فإنّ الاعتراضات مع ما ذكر من التوجيهات إنّما تستقيم إذا كان مرادهم من المقدّمة الغير المقدورة ما صارت غير مقدورة بالعرض ، كمسافة الحجّ ونظائرها إذا طرأها عدم القدرة عليها وهو ظاهر الفساد ، بل المراد بها ما تنبّه عليه غير واحد من شرّاح المختصر ما كانت غير مقدورة للمكلّف بالذات ، كالقدرة على الفعل واليد في الكتابة ، والرجل في المشي ، وحضور الإمام وتمام العدد في الجمعة ، فإنّها لا تكون واجبة بل عدمها تمنع الوجوب على أنّها قبل الوجود ممتنعة وبعده واجبة.

وعلى التقديرين خارجة عن قدرة المكلّف فلا تصلح موردا للتكليف ، مضافا إلى أداء إيجابها بعد الوجود إلى طلب الحاصل وهو محال ، وإلى أنّها مع الغضّ عن ذلك لا تصلح بالذات لأن يتعلّق بها الوجوب الّذي هو من عوارض فعل المكلّف وهي ليست منه ، فلابدّ من اعتبار قيد يوجب خروجها عن المتنازع فيه ، لما يصدق على كلّ واحد من أنّه ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فيشملها العنوان لولا القيد المذكور.

ولكنّه مع الإغماض عمّا ذكرنا من خروج الواجب المشروط بجميع أنواعه بظهور

٤٥٠

اللفظ في معناه الحقيقي الّذي هو المطلق ، وعمّا اعتبروه من قيد « الإطلاق » الكافي عن قيد آخر. نعم على رأي من لا يراه حقيقة خاصّة في المطلق ولا يأخذ « الإطلاق » قيدا في العنوان لا إشكال فيه أصلا ، إلاّ من جهة عدم وفائه بإخراج جميع مقدّمات الوجوب حتّى ما كانت مقدورة للمكلّف كاستطاعة الحجّ ونصاب الزكاة.

وعلى ما اخترنا أيضا يستقيم القيد لو اعتبرنا الامور المذكورة بعد وجودها لما ذكرناه من الوجوه.

وأمّا ما يقال عليه : من أنّ الإخراج فرع الدخول ، والمقدّمة المذكورة لا مدخل لها في العنوان حتّى يحتاج إلى الإخراج ، لأنّ الكلام في وجوب المقدّمة وهو من عوارض فعل المكلّف ، فالمراد بالمقدّمة المتنازع في وجوبها ما يكون من مقولة أفعال المكلّف ، وما فرض من المقدّمات ليس منها حتّى يشملها الجنس وهو الموصول في قولهم : « ما لا يتمّ الواجب إلاّ به » فوهنه أوضح ممّا تقدّم.

فإنّ العبرة في شمول الجنس إن كان بما هو المراد في نفس الأمر ، ففيه : أنّه نقض لقاعدتهم المقرّرة في جميع التعاريف بالنسبة إلى اعتبار قيود يتمّ بها الانعكاس والاطّراد المعتبران فيها.

وإن كان العبرة بما هو من مقتضى وضع اللفظ بحسب العرف واللغة.

فلا ريب أنّ الموصول بحسب ما له من الوضع شامل لما ليس من أفعال المكلّف شموله لما هو من أفعاله ، مع أنّه يمكن اعتبار ما يكون من مقولة الأفعال مضافا إلى تلك الامور حتّى يصلح لكونه موردا للوجوب من نحو تحصيل وما يؤدّي مؤدّاه.

فالحقّ : أنّ القيد محتاج إليه في المقام في الجملة حتّى على المختار واعتبار قيد « الإطلاق » لما قدّمناه.

فما أفاده الاستاد أيضا من أنّ الإنصاف عدم الحاجة إلى ذلك القيد ، لأنّ الكلام في وجوب مقدّمة وجود الواجب بعد الفراغ عن تحقّق الامور الأربع المعتبرة في وجوب ذلك الواجب وبعد إحراز الوجوب فيه.

ومن المعلوم أنّ الواجب لا يحرز له الوجوب إلاّ بعد تحقّق الامور الأربع ، فإذا كان إحدى مقدّمات وجوده غير مقدورة لم يكن الوجوب محرزا له لسراية عدم القدرة من مقدّمته إليه ، وكلّما يحرز الوجوب في الواجب ولم يحصل الفراغ عن تحقق الامور الأربع

٤٥١

لم يكن من محلّ النزاع في شيء ، فإذا كان بنفسه خارجا لا حاجة إلى قيد يخرجه.

ليس بسديد ، لما ذكرناه من أنّ العبرة في العنوان بظاهر اللفظ كما في التعاريف ، ومعلوم أنّ الموصول شامل للقدرة أيضا.

نعم يبقى الإشكال فيه من جهة أنّ خروج هذه الامور من جملة الواضحات الّتي لم تكد تخفى على أحد فلا داعي إلى اعتباره ، ولكن الخطب في ذلك سهل.

ثمّ اعلم أنّ المقدّمة إمّا أن يكون مقدورة للمكلّف بالذات أو غير مقدورة له بالذات.

وعلى الأوّل إمّا أن يطرؤها امتناع بالعارض أو لا.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون المانع عقليّا أو خارجيّا أو شرعيّا فهذه خمسة أنواع ، لا يدخل في العنوان المتنازع فيه إلاّ واحد منها وهو الثاني ، لخروج البواقي من غير إشكال.

أمّا الأوّل : فلضرورة استحالة تعلّق الوجوب بما يكون غير مقدور بالذات ، كدخول وقت الفريضة وحضور إمام الجمعة وتمام العدد المعتبر فيها ، من غير فرق في ذلك بين الوجوب المطلق والوجوب المشروط ، مع أنّ تعلّق الحكم التكليفي بما لا يكون فعلا للمكلّف أو يكون فعلا لمكلّف غيره متّضح الفساد.

وأمّا الثالث والرابع : فلانتفاء القدرة المعتبرة في التكليف أيضا فلا تتّصف المقدّمة بالوجوب المطلق إذا طرأها مانع عقلي كالزمن بالنسبة إلى قطع مسافة الحجّ للمزمن ، أو مانع خارجي كالخوف على المال أو النفس بالنسبة إلى طريق الحجّ أيضا عند قيام اللصّ أو العدوّ فيه.

وأمّا الوجوب المشروط فهو ثابت ولكن الشرط هو القدرة على المقدّمة لا وجودها لئلاّ يلزم وجوب الشيء بشرط وجوده ، بل الاشتراط في الحقيقة هو الّذي كان ثابتا بالقياس إلى الاستطاعة ، فإنّها مع قيام ما ذكر غير تامّة فلذا صرّحوا بكون التمكّن عن المسير ممّا له مدخليّة في حصولها.

وأمّا الخامس : فهو أيضا كسابقيه فلا تجب المقدّمة مع قيام المنع الشرعي عنها من ترك واجب أو فعل محرّم ، كترك الواجب المضيّق لفعل الموسّع بناء على كونه مقدّمة ، والركوب على الدابّة المغصوبة في الذهاب إلى الحجّ ، والاغتراف بالآنية المغصوبة في الطهارة الحدثيّة مع الانحصار ، وكذلك استعمال آنية الذهب أو الفضّة للتطهير معه ، لاستحالة تعلّق الوجوب والحرمة بشيء واحد لأدائه إلى التكليف بالمحال من جهة امتناع الامتثال لهما ، مع قبح طلب القبيح على الحكيم الّذي يمتنع عليه فعل القبيح.

٤٥٢

بل هو على التحقيق راجع إلى النوع الأوّل ، حيث لا يعقل فيه وجوب مشروط أيضا ، نظرا إلى أنّه ليس له تقدير يصحّ معه تعلّق الوجوب به كالقدرة في النوعين السابقين ، إلاّ أن يفرض الاشتراط بالنسبة إلى رفع المنع الشرعي عنه وهو كما ترى فرض لا تحقّق له إلاّ في موارد النسخ الّذي هو في نظائر المقام عادم النظير.

وتجويز الدخول في الأرض المغصوبة لإنقاذ النفس المحترمة لا مدخل له في ذلك الفرض ، لأنّه وجوب مطلق غلّب على المنع منه من باب تقديم الأهمّ على غيره واختيار أقلّ القبيحين على أكثرهما ، وإذا كانت المقدّمة في امتناع الوجوب بهذه المثابة فذو المقدّمة أولى بذلك ، فيستحيل فرض الوجوب فيه بشرط لا حذرا عن التكليف بالمحال إذ الكلام في صورة الانحصار ، ولا فرضه بشرط شيء وإلاّ لعاد المحذور السابق من تعلّق الوجوب والحرمة بشيء واحد والأمر بالقبيح ، وفرضه لا بشرط وإن أمكن لعدم أدائه إلى شيء من المحاذير إلاّ أنّه عدول عن القول بوجوب المقدّمة ، إذ الكلام إنّما هو على هذا التقدير ، هذا بناء على الإغماض وإلاّ فالأمر بالشيء مع امتناع مقدّمته شرعا تكليف بالمحال.

نعم لو بنى المكلّف على عدم الاعتناء بمنع الشرع وارتكب الممنوع عصيانا أو سها أو نسي فارتكبه يجب عليه الإتيان به لارتفاع المانع حينئذ عن جميع الجهات.

وإلى ذلك ينظر ما ذهب إليه بعض المشايخ ـ على ما حكي عنه في كشف الغطاء ـ من صحّة المأتيّ في الصور المفروضة مع انحصار مقدّمته في الحرمة ، تعليلا بأنّه لا مانع من أن يقول المولى : « إن عزمت على المعصية بترك كذا فافعل كذا ».

وكأنّ منه ينشأ أيضا ما عن المحقّق الثاني في شرحه للقواعد من ذهابه إلى الصحّة أيضا خلافا للمشهور على ما حكي ، لذهابهم إلى عدم الصحّة تعليلا بأنّها فرع الأمر والوجوب فلو وجب الفعل مع انحصار مقدّمته في المحرّمة لأدّى إلى وجوب الحرام قضيّة لوجوب المقدّمة وهو محال ، لأنّ القبيح لا يؤمر به والتكليف بالمحال محال ، فحيث بنينا على الصحّة والوجوب بعد الإتيان بالمقدّمة المحرّمة فهل هو قبل ذلك كان وجوبا مشروطا فصار مطلقا بعد حصول المقدّمة المحرّمة ، أو وجوبا مطلقا كشف عن سبق ثبوته حصول تلك المقدّمة؟ وجهان.

ظاهر ما حكي عن كشف الغطاء من التعليل المذكور هو الأوّل ، إلاّ أنّه ظاهر في اشتراط الوجوب بالعزم على المعصية.

٤٥٣

وجزم بعض الفضلاء بالثاني ، حيث قال ـ بعد ما جعل وجوب الحجّ من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة مع توقّف فعله على مجيء وقته ، من باب ما تعلّق وجوبه بالمكلّف وتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له ، في مقابلة ما تعلّق وجوبه به ولم يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة ، وفرّق بينه وبين المشروط بكون التوقّف في المشروط للوجوب وفيه للواجب. وبعبارة اخرى : كون الزمان الّذي هو غير مقدور للمكلّف في المشروط قيدا للطلب والوجوب ، وفيه قيدا للمطلوب والواجب ـ : بأنّه « كما يصحّ أن يكون وجوب الواجب على تقدير حصول أمر غير مقدور وقد عرفت بيانه ، كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله ، وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله ، وذلك كما لو توقّف الحجّ المنذور على ركوب الدابّة المغصوبة.

فالتحقيق : أنّ وجوب الواجب حينئذ ثابت على تقدير حصول تلك المقدّمة وليس مشروطا بحصولها كما سبق إلى كثير من الأنظار.

والفرق أنّ الوجوب على التقدير الأوّل يثبت قبل حصولها.

وعلى الثاني إنّما يثبت بعد تحقّقها لامتناع المشروط بدون الشرط.

وبعبارة اخرى : حصول المقدّمة على الأوّل كاشف عن سبق الوجوب وعلى الثاني مثبت له » إلى آخر ما ذكره.

ولا يذهب عليك أنّه أيضا قائل بالاشتراط كالمشهور ، إلاّ أنّ المشهور يجعلونه مشروطا بحصول المقدّمة المحرّمة وهو يجعله مشروطا بما يرجع إلى المكلّف من الأحوال اللاحقة به باعتبار بعض الاعتبارات ، ككونه بحيث يأتي بالمحرّم ولكنّه شرط تقديري لا يعلم بتحقّقه وعدمه إلاّ بحصول الإتيان منه فعلا وعدم حصوله ، فعلى الأوّل يكشف عن تحقّق شرط الوجوب قبله ويلزمه سبق الوجوب على الحصول.

وعلى الثاني يكشف عن انتفاء شرط الوجوب عنه ، ويلزمه عدم وجوب أصلا. وربّما ينزّل ما عن كشف الغطاء من التعليل إلى هذا المذهب ، وهو ـ على تقدير كون عبارته ما ذكر ـ بعيد ، إلاّ أن يرجع العزم الّذي في العبارة المحكيّة إلى ما ذكره الفاضل المذكور من الاعتبار اللاحق بالمكلّف.

وعلى أيّ تقدير كان فهو دعوى لا شاهد عليها ، والاشتراط بأصل الحصول ـ كما

٤٥٤

عليه المشهور ـ أقرب بالاعتبار ، كما أنّه أظهر من العبارة الصادرة في مقام الخطاب من غير فرق بين صورتي تقديم الأمر على الشرط وتأخيره عنه ، بأن يقال : « افعل كذا إن أقدمت على المعصية » أو « إن أقدمت على المعصية فافعل كذا » فإنّ المنساق منهما في العرف واحد وهو اشتراط حدوث الوجوب بحصول المعصية في الخارج ، كما هو الحال في قولك : « أكرم زيدا إن جاءك » و « إن جاءك زيد فأكرمه » وكأنّ توهّم الاشتراط بذلك دون الحصول نشأ عن أصل فاسد يأتي في بحث الضدّ بيانه وبيان فساده ، إن شاء الله تعالى.

فالأقوى إذن بالنسبة إلى الأمثلة المذكورة هو اشتراط الوجوب بحصول فعل الحرام ولا يكفي فيه مجرّد العزم على المعصية ، كما يلوح عمّا حكى عن كشف الغطاء.

هذا كلّه بناء على المماشاة مع القوم ، وإلاّ فلنا في أصل اشتراط الوجوب بشيء كائنا ما كان كلام يأتي في ذيل البحث.

والتحقيق : أنّ الحرام في كونه مقدّمة يكون نظير الوقت وغيره ممّا يكون خارجا عن قدرة المكلّف ، ضرورة أنّ المنع الشرعي يوجب سلب القدرة كالمنع العقلي فيكون حال ذي المقدّمة في اتّصافه بالوجوب نظير حال سائر الواجبات بالقياس إلى مقدّماتها الغير المقدورة ـ على ما يأتي تحقيقه في ذيل المبحث ـ ولا يلزم من ذلك اتّصاف المقدّمة بالوجوب حتّى يكون منشأ للإشكال كسائر المقدّمات الغير المقدورة.

فبما تقرّر تبيّن أنّ ما اعتبره الفاضل المذكور في عنوان المسألة زيادة على قيد « الإطلاق » بالنسبة إلى الأمر من كون المقدّمة جائزا ليحترز به عن أمرين : أحدهما : المقدّمة المحرّمة سواء انحصرت فيه أو لا.

وثانيهما : المقدّمة الغير المقدورة سواء انحصرت فيه أيضا كحضور أيّام الحجّ بالنسبة إلى أفعاله ، أو لم تنحصر كسير المزمن ماشيا مع تمكّنه منه راكبا.

أمّا الأوّل منهما : فلأنّ الأمر بالنسبة إلى المقدّمتين ـ المقدّمة المحرّمة ، وغير المقدورة في صورة الانحصار ـ مطلق وليس مشروطا بحصولهما ، وإن كان مشروطا بالنسبة إلى الاعتبار اللاحق بالمكلّف من كونه في الأوّل ممّن يأتي بالحرام. وفي الثاني ممّن يبلغ الزمن اللاحق.

وأمّا الثاني : ففي الأوّل لاستحالة تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد وفي الثاني لاستحالة الأمر بغير المقدور ولو على وجه التخيير ، قائلا : « بأنّ وجه الاحتراز عن ذلك أنّ الجواز حكم شرعي لأنّه جنس للأحكام الأربعة ، والحكم الشرعي لا يتعلّق بغير المقدور » ليس

٤٥٥

على ما ينبغي ، لأنّ الوجوب في الجميع مشروط فيكفي في إخراجها ما اعتبره أوّلا في الأمر من قيد « الإطلاق » بعد الإغماض عمّا قدّمنا ذكره من عدم الحاجة إلى هذا القيد أيضا.

وممّا قرّرناه أيضا من امتناع تعلّق الوجوب بغير المقدور مطلقا تبيّن فساد ما أفاده بعض الأعلام من « أنّ المقدّمة لا تنحصر فيما كان مقدورا للمكلّف ، بل الغير المقدور قد يكون مسقطا عن المقدور وفعل الغير نائبا عن فعل المكلّف ، فإنّ من وجب عليه السعي في تحصيل الماء للوضوء إن فاجأه من أعطاه الماء فسقط عنه ذلك السعي ويكون فعل الغير نائبا عن فعله ، فالمقدّمة هو القدر المشترك بين المقدور وغير المقدور والقدر المشترك بينهما مقدور ، فالقائل بوجوب المقدّمة إنّما يقول بوجوب القدر المشترك » فإنّ القدر المشترك بما هو قدر مشترك غير مقدور ولا يعقل تعلّق الوجوب بغير المقدور ، سواء أراد بذلك القدر المشترك الأمر الانتزاعي كمفهوم أحدهما ، أو الأمر المعنوي وهو ما أسقط وجوب الامتثال سواء كان فعل المكلّف نفسه أو فعل الغير نائبا عن فعله ، بل الواجب على التقديرين هو الفرد المقدور بالضرورة والقائل بوجوب المقدّمة لا يدّعي أزيد من ذلك.

كيف وقد أطبقوا في العنوان على أخذ ما يوجب خروج غير المقدور مصرّحين بعدم كونه من محلّ الخلاف ، ومجرّد كونه مسقطا عن المقدور ورافعا لوجوبه لا يقضي بالوجوب فيه ، حيث لا ملازمة بين الإسقاط والوجوب كسقوط ما في الذمّة بأداء الغير وسقوط إزالة النجس عن المسجد بسبق السيل أو المطر إليه ، مع أنّ الوجوب في الصورتين ثابت بعنوان الجزم واليقين.

وإذ قد عرفت سابقا أنّ المقدّمة تنقسم إلى داخليّة وخارجيّة ، والخارجيّة إلى السبب والشرط.

فاعلم أنّ الداخليّة وهو الجزء له أجزاء وأسباب وشروط ، وكلّ سبب أيضا له أسباب وشروط وأجزاء ، وكلّ شرط أيضا له شروط وأجزاء وأسباب ، وكذلك قد يكون لكلّ جزء من أجزاء كلّ ولكلّ سبب من أسباب كلّ ولكلّ شرط من شروط كلّ أجزاء وأسباب وشروط.

فلا يذهب إليك توهّم لزوم التكرار في الوجوب والطلب بناء على وجوب مقدّمة الواجب ، نظرا إلى أنّ كلّما ذكر مقدّمة لكلّ مقدّمة وهي إذا صارت واجبة فيتعلّق الوجوب بتوسّطها بإيجاد مقدّماتها المندرجة تحتها ، والمفروض أنّ مقدّمة الواجب واجبة فتصير كلّ واحدة من تلك الآحاد واجبة من هذه الجهة أيضا وهو تكرار في الوجوب ، بل ربّما يتّفق

٤٥٦

تعلّق الوجوب بشيء واحد مرّات عديدة إذا كان مقدّمة لمقدّمة مقدّمة الواجب وهكذا ، وهو كما ترى ممّا لا يصغى إليه ، لأنّ التكرار إنّما يلزم إذا كان بين كلّ ومقدّماته ترتّب بحسب الواقع في نظر الآمر ، بأن يكون بحيث قد حدث منه بالنسبة إلى كلّ واحدة ملاحظة والتفات بانفرادها على سبيل الترتّب وذلك في حيّز المنع ، بل الترتّب لو كان ولابدّ منه فهو اعتباري لم يجعله الآمر معتبرا أصلا ، فإنّ الامور المذكورة الّتي بعضها شرائط للواجب وبعضها لأجزائه وبعضها لأسبابه وبعضها لشرائطه وهكذا كلّها في درجة واحدة في نظره ، لما في الجميع من كفاية التفات واحد موجب لكفاية طلب واحد ، وإيجاب واحد ، من دون أن يفتقر كلّ واحدة إلى التفات مستقلّ ليحتاج إلى طلب منفرد حتّى يلزم ما ذكر من التكرار ، لا بمعنى أنّ المقدّمة مطلوبة بنفسها فيكفي طلبها عن طلب مقدّماتها فإنّه ضروريّ الفساد ، بل بمعنى أنّ قولنا : « مقدّمة الواجب واجبة » معناه أنّ الشارع لاحظ الواجب الّذي هو ذو مقدّمة مكيّفا بجميع كيفيّاته فطلبه بإنشاء واحد وهو طلب واحد يستلزم مطلوبيّة مقدّماته ومقدّمات مقدّماته ، فلا تعدّد في شيء من الالتفات والطلب فلا تكرار أصلا وذلك واضح.

ثمّ إنّه قد أشرنا سابقا إلى أنّ الوجوب له معان ليس من محلّ النزاع إلاّ بعضها :

منها : الوجوب العقلي المعبّر عنه باللابدّية ، وكون الشيء من ضروريّات شيء آخر ، وهو بهذا المعنى ممّا لا إشكال في ثبوته بل لا خلاف فيه أيضا كما صرّح به غير واحد ، وفي كلام جماعة دعوى الاتّفاق عليه ، وكيف يعقل فيه الخلاف مع أنّ كون المقدّمة من ضروريّات وجود ذي المقدّمة معنى كونها مقدّمة ، فإنكار وجوبها بهذا المعنى في معنى إنكار كونها مقدّمة ، فيعود النزاع على هذا التقدير إلى كونه صغرويّا وهو ليس ممّا عقد له الباب ، بل هو بهذا المعنى لا يختصّ بمقدّمة الواجب ليكون من محلّ النزاع بل يعمّها ومقدّمة المندوب والمباح والمكروه والمحرّم ، فمعنى وجوب الوضوء لصلاة النافلة أنّه من لوازمها وضروريّات وجودها ، وممّا لابدّ منه فيها.

والضابط الكلّي أنّ كلّ شيء يكون ممّا يتوقّف عليه شيء آخر في وجوده الخارجي فهو واجب بالقياس إليه ، أي ممّا لابدّ منه في وجود ذلك الشيء.

ومنها : ما ينضاف إلى الشيء بالعرض بواسطة إضافته إلى ما هو ملزوم له من دون توقّفه عليه في وجوده الخارجي ، ويعبّر عنه بوجوب لوازم المأمور به الّتي ليست بمقدّمات له بل تكون بحيث لا ينفكّ وجود المأمور به عنها ، كالاستقبال إلى الامور الواقعة في جهة

٤٥٧

القبلة ، اللازم لاستقبال نفس القبلة لعدم انفكاكه عن استقبالها ، فيكون ذلك أيضا محبوبا للآمر بالاستقبال لأجل كونه لازما للمأمور به ومبغوضا تركه عنده من جهة أنّه يلزم من تركه ترك المأمور به.

والفرق بينه وبين المعنى الأوّل ممّا بين السماء والأرض ، إذ المعنى الأوّل كما عرفت عبارة عن مجرّد اللابدّية من دون محبوبيّة ولا مبغوضيّة ولذا عمّمناه بالنسبة إلى المباح والمكروه والمحرّم بخلافه الثاني ، فإنّه مرتبة بعد الاولى تستلزم المحبوبيّة في الفعل والمبغوضيّة في الترك كما هو واضح ، وهو أيضا ممّا لا ينبغي التأمّل في عدم كونه محلاّ للنزاع ، لصلوحه للاتّفاق على ثبوته كما لا يخفى.

هذا على ما يتخيّل في بادئ النظر ، ولكن في الفرق بينه وبين الوجوب التبعي في المقدّمة بالمعنى الآتي نظرا قد تقدّم إليه الإشارة إجمالا.

بل الّذي يقتضيه دقيق النظر عدم الفرق بينهما ، وإن توهّمه بعض الأفاضل ووافقه شيخنا ـ دام ظلّه ـ فإنّ مناط ثبوت الوجوب بهذا المعنى في المقدّمات جار بعينه في اللوازم الّتي ليست بمقدّمات.

وقضيّة ذلك أن يقال : إنّ الوجوب التبعي ما كان ثابتا في اللوازم تبعا لوجوب الملزومات ، سواء كانت اللوازم بحيث يتوقّف عليها الملزومات في وجودها الخارجي أو لا.

ومنها : الطلب الإرشادي الّذي هو عبارة عن مجرّد إبراز المصلحة وبيان الواقع ، ويلقى إلى المخاطب بصورة الاقتضاء وليس باقتضاء حقيقة ، نظير طلب الإطاعة وترك المعصية بالنظر إلى المأمور به.

وهو أيضا ليس من محلّ النزاع ، بل لا ينبغي النزاع فيه إذ الطلب الإرشادي للمقدّمة طلب لا دخل له في طلب ذي المقدّمة ، لأنّه إنّما يأتي من جانب العقل بعد ملاحظة تعلّقه بذي المقدّمة ، وذلك لأنّ ترك المقدّمة لمّا كان مؤدّيا إلى الوقوع في المهلكة ـ وهو ترك ذي المقدّمة المستلزم لاستحقاق العقاب ـ فالعقل يلزمنا بالإتيان بها تحفّظا عن الوقوع في المهلكة المذكورة ، كما هو دأبه في فعل كلّ ما أمر به وترك كلّ ما نهى عنه.

والمراد بوجوب المقدّمة في محلّ النزاع هو الّذي يستفاد عن وجوب ذيها تبعا ، لا ما يتعلّق بها بحكم العقل إرشادا بعد وجوب ذيها.

فحاصل ما قرّرناه ـ مضافا إلى ما تقدّم سابقا ـ عدم كون النزاع في الوجوب النفسي

٤٥٨

ولا الأصلي كما توهّمه بعض الأعلام (١) ولا فيه بمعنى اللابدّية ، ولا بمعنى وجوب اللوازم ،

__________________

(١) قوله : ( كما توهّمه بعض الأعلام ... الخ )

واعلم أنّ من الأعلام من يستفاد منه كون النزاع في الوجوب النفسي الأصلي دون الغيري التبعي ، بل هو صريح كلامه حيث قال : « وأمّا القائل بوجوب المقدّمة فلابدّ أن يقول بوجوب آخر غير الوجوب التوصّلي ، ويقول بكونه مستفادا من الخطاب الأصلي ، وإلاّ فلا معنى للثمرات الّتي أخذوها لمحلّ النزاع ، فلابدّ لهم من القول بأنّها واجبة في حدّ ذاتها أيضا كما أنّها واجبة للوصول إلى الغير ، ليترتّب عليه عدم الاجتماع مع الحرام ، وأن يكون بالخطاب الأصلي ليترتّب العقاب عليه ، وأنّى لهم بإثباتها ، انتهى ». [ القوانين ١ : ١٠٣ ]

ويستفاد ذلك منه أيضا في مواضع اخر ممّا سبق على تلك العبارة وما لحقها كما لا يخفى على الخبير.

بل يستفاد من بعض الأعاظم أيضا ، وربّما يعزى إلى المحقّق السبزواري ، وجعله المحقّق الخوانساري من جملة المحتملات الجارية في محلّ النزاع ، ولعلّ ذلك التوهّم لكلّ من صار إليه نشأ عن ظهور الوجوب حيثما أطلق في النفسي الأصلي ، فلا ينصرف إلى الغير التبعي ، أو أنّ ذلك الوجوب التبعي لا يعدّ وجوبا في الاصطلاح ولا يصدق عليه مصطلحهم في الوجوب.

أو أنّ الثمرات الّتي ذكروها لمحلّ النزاع من عدم اجتماع المقدّمة مع الحرام واستحقاق العقاب عليها لا يصلح لها إلاّ الوجوب النفسي الأصلي ، إذ الواجب التوصّلي ممّا يجتمع مع الحرام كما صرّحوا به والواجب التبعي لا يستحقّ على تركه العقاب وهذا هو الّذي أوجب ذلك التوهّم في بعض الأعلام ، كما يشهد به عبارته المتقدّمة. أو أنّ محطّ نظر الاصولي في تلك المسألة وغيرها من المسائل الاصوليّة إنّما هو الخطاب الصادر من الشارع والوجوب التبعي بالمعنى المذكور في المتن لا يلائمه من جهة كونه حكيما عالما شاعرا ، لابتنائه على الغفلة والذهول وعدم الالتفات إلى المقدّمة وكونها ممّا لابدّ منها ، نعم في خطابات غيره يتعقّل ذلك بل يكثر وقوعه ولكنّه خارج عن موضوع بحث الاصولي.

أو أنّ الوجوب التبعي لشدّة بداهة ثبوته ممّا لا يقبل الخلاف ولا يصير إليه أيادي الإنكار ، فلا ينبغي تنزيل المسألة الّتي صارت معركة للآراء ومطرحا للأقوال على إثبات ذلك المعنى ونفيه ، فلابدّ وأن يكون معقدها معنى آخر وراء ذلك زائدا عليه ، وليس ذلك إلاّ الوجوب الأصلي الّذي يقصد من الخطاب مستقلاّ.

وأنت خبير بوهن تلك الوجوه ، وعدم قضاء شيء منها بصحّة ما ذكر من التوهّم.

أمّا الأوّل : فلأنّ قضيّة الظهور إنّما يؤخذ بها مع عدم قيام صارف عنها ، وقد ثبت الصارف في المقام من جهات شتّى ، فإنّ دعوى الضرورة كما عن غير واحد من أصحاب القول بوجوب المقدّمة لا يمكن صرفها إلاّ إلى إرادة الوجوب التبعي مع ملاحظة عدم اعتراض أحد عليهم بكونه خروجا عن محلّ النزاع وقولا بما لا خلاف في ثبوته ، وكذلك نفي الخلاف عن الوجوب كما عن بعضهم ، ودعوى الوفاق على الوجوب كما عن آخر لا يناسبه الوجوب النفسي الأصلي ، لعدم كون شيء منهما مظنّة للوفاق ولا مظنّة المصير إليه عن أحد ، وكذلك ضعف القول بالنفي وعدم قائل به مطلقا على سبيل التحقيق وانحصار القول به في الواقفيّة كما في معزى العلاّمة على ما سيجيء حكايته عنه في نقل الأقوال لا يلائم إلاّ الوجوب التبعي ، إذ الوجوب الأصلي قابل لأن ينكره الجلّ ومعظم المحقّقين فينافيه المصير منهم ومن جمهور أهل العلم إلى ثبوته كما لا يخفى.

٤٥٩

__________________

وأيضا قد اتّفقت كلمتهم في العنوان على التصريح بثبوت الوجوب أو نفيه أو الترديد بينهما على نحو الإطلاق ، فلا يناسبه كون المراد بالوجوب نفيا وإثباتا هو النفسي الأصلي مع الاعتراف بثبوت الغيري التبعي ، بل اللازم حينئذ أن يقال في العنوانات هل يعقل في المقدّمة زيادة على ما فيها من الوجوب الغيري التبعي وجوب آخر ، وهو كونها مطلوبة بالذات ومتعلّقة للخطاب بالأصالة أو لا يعقل ذلك؟

وهذا كما ترى معنى ينافيه النفي والإثبات المطلقين ، ولا يلائمه الأدلّة الّتي أقاموها على إطلاقي النفي والإثبات كما لا يخفى.

ويؤيّد جميع ما ذكرناه أيضا فهم جماعة من فحول العلماء (١) وتصريحهم بما ذكرناه وإطباقهم على تخطئة المتوهّم ، وما قيل أيضا من أنّ غرض المجتهد إنّما يتعلّق بكون الشيء واجبا سواء تعلّق الخطاب به أصالة أم لا ، لأنّ مقصوده استنباط حكم الوجوب ولا تختلف الحكم بكونه أصليّا أو تبعيّا لوجوب الإتيان على التقديرين.

وأمّا الثاني : فلما سيأتي في المتن من عدم الفرق في الوجوب اصطلاحا بين الأصلي والتبعي وصدق المصطلح على التبعي صدقه على الأصلي وأنّه يترتّب عليه بالنسبة إلى المقدّمة جميع ما يترتّب على الأصلي.

وأمّا الثالث : فلأنّ الواجب ما دام واجبا لا يجتمع مع الحرام ولو كان توصّليا وقد سبق الكلام في تحقيقه ، فلا ملازمة بين تلك الثمرة على فرض صحّته والوجوب النفسي ، والواجب الغيري لا يترتّب على تركه من حيث هو استحقاق عقاب ولو كان أصليّا كما تقدّم تفصيل القول في ذلك.

ومع الغضّ عن ذلك وتسليم صحّة تلك الثمرة فهي من لوازم الوجوب ولو كان تبعا ، لما سيجيء تحقيقه من أنّ الواجبات التبعيّة يعامل معها معاملة الواجبات الأصليّة سواء بسواء عقلا وعرفا ، فلا منافاة بين تلك الثمرة ـ على فرض استقامتها ـ والوجوب التبعي لئلاّ يكون للقائل بوجوب المقدّمة بدّ من القول بالوجوب الأصلي حيث لا ملازمة بينهما.

وأمّا الرابع : فلأنّ الوجوب التبعي ترجع حقيقته هنا ـ على ما مرّ مرارا وسيجييء أيضا ـ إلى شأنيّة الطلب المجامعة لعدم فعليّة الإرادة ، وعدم قصد طلب المقدّمة عند طلب ذيها فعلا وهو لا ينافي حكمة الحكيم ، ولا أنّ علمه بوجوب المقدّمة بمعنى التصديق به أو تصوّر ذاتها عند تصوّر ذيها لإرادة الطلب يلازم طلبها فعلا أو قصد إيجابها تفصيلا ، كما أنّ الشعور بكونها مقدّمة وأنّها لابدّ منها لوجود ذيها يقتضي قصد إيجابها في الخطاب المتعلّق بذيها اكتفاءا بما يدركه العقل بملاحظة ذلك الخطاب من كون وجوبها لازما لما قصد به من إيجاب ذيها ، وتعويلا على ما عليه بناء العرف والعادة من أنّ ما من شأنه الإيجاب في حكم ما أوجب فعلا في جميع الآثار المترتّبة عليه ، كيف ولو لا ذلك لما كان لدلالة الإشارة مورد في الخطاب الشرعي ، وهو كما ترى ينافي اتّفاقهم على جوازها ووقوعها في آيتي الحمل الدالّتين على أنّ أقلّه ستّة أشهر ، وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في النساء ـ : « أنّها ناقصات عقل ودين ، قيل ما نقصان عقلهنّ؟ فقال : تمكث إحداهنّ شطر دهرها لا تصلّي » أي نصف دهرها الدالّ على أنّ

________________

(١) منهم الفاضل النراقي ومصنّفي الهداية والفصول وحكاء النراقي عن أبيه والفاضل الباغنوي والمحقّق الخوانساري وغيرهم وصرّ ح به في الظوابط وغيره (منه ).

٤٦٠