تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٧٨٣

فإنّ وجوب الفعل عنده في آخر الأزمنة ليس من جهة أنّه إتيان به على وجه التراخي كما هو معنى القول بالتراخي ، بل هو إتيان به في زمان وجوبه بعينه ، نظرا إلى زعمه انحلال الأمر الواحد إلى أوامر عديدة على حسب عدد أوقات الإمكان ، فالفعل في كلّ وقت يؤتى به فيه امتثال للأمر الثابت في ذلك الوقت ، فيكون واقعا في زمان الفور بالنسبة إلى ذلك الأمر ، فالقول بالفوريّة على القول بالتكرار لا ينفكّ في الحقيقة عن شيء من أزمنة إمكان الفعل ، فهذا القائل قائل بوجوب الفور دائما ولا يعقل عنه القول بالتراخي فضلا عن وجوبه ، لمنافاته دوام الوجوب المقتضي لانحلال الأمر إلى أوامر متعدّدة حسبما عرفت.

الأمر الرابع : لا يخفى أنّ من الواجبات ما كان مضيّقا ومنها ما كان موسّعا ، والأوّل يطلق تارة على ما هو بالمعنى الأخصّ وهو ما كان مضيّقا من جهة الرخصة والإجزاء ، كصيام شهر رمضان حيث لا يجوز تأخيره عن وقته ولا يكون مجزيا عن الأمر الأوّل في غير وقته ، واخرى على ما هو بمعناه الأعمّ وهو ما كان مضيّقا من جهة الرخصة ، سواء كان كذلك من جهة الإجزاء أيضا كالمثال المذكور أو لا ، كالحجّ الّذي لا يجوز تأخيره عن عام الاستطاعة مع كونه مجزيا عن الأمر الأوّل لو أخّر إلى غير العام الأوّل وإن ترتّب عليه الإثم.

كما أنّ الثاني أيضا يطلق تارة على ما هو الموسّع رخصة وإجزاء وهو الموسّع بالمعنى الأخصّ ، مع كونه موقّتا كالفرائض اليوميّة أو لا كفريضة الزلزلة وغيرها من الآيات عدا الكسوفين ، واخرى على ما هو بمعناه الأعمّ وهو الموسّع إجزاء سواء كان موسّعا من حيث الرخصة أيضا كما ذكر أو لا كالحجّ ، وأمّا عكس ذلك فغير معقول عن العدل الحكيم.

والنسبة بين الأعمّ والأخصّ من كلّ منهما عموم مطلق ، وبين الأعميّن عموم من وجه ، وبين الأخصيّن تبائن كلّي ، كما أنّ بين أعمّ كلّ وأخصّ الآخر تبائن كلّي ، والوجه واضح.

والظاهر عدم كون شيء من تلك المذكورات مرادا بالفور والتراخي لأنّها من أقسام الموقّت وهما عندهم ليسا من قبيل الموقّت ، فلذلك ترى الأمر في بعض العناوين مقيّدا بالإطلاق كما في كلام المصنّف على أحد احتماليه (١) وإن كان الفور قد يطلق على ما يعمّ القسم الأوّل من المضيّق ، فإنّه يطلق تارة على ما هو لازم التعجيل مع عدم كونه محدودا بوقت كردّ السلام ، وردّي الوديعة والدين عند المطالبة.

__________________

(١) أوّل الاحتمالين : أن يكون المراد بالأمر المطلق ما تجرّد عن القرائن الخارجة القاضية بإرادة الفور أو التراخي أو غيرهما.

وثانيهما : أنّ يكون المراد ما لم يكن موقّتا بأحد قسميه ثابتا توقيته من الخارج. ( منه ).

٢٢١

واخرى على ما هو لازم التعجيل سواء كان محدودا بوقت كالمضيّق بالمعنى الأخصّ أو عدمه كما ذكر من الأمثلة ، فالأوّل فور بالمعنى الأخصّ كما أنّ الثاني فور بالمعنى الأعمّ ، فلا جرم يكون المراد بالفور في المقام هو المعنى الأوّل إذ الكلام في دلالة الصيغة عليه وهي غير مفيدة لشيء من التوقيت والتحديد لا أوّلا ولا آخرا.

فممّا قرّرنا تبيّن أنّ موضع النزاع ما لم يثبت توقيته من التوسعة أو التضييق ولا فوريّته وتراخيه من الخارج لكون الكلّ واضح الخروج عنه.

وهل المراد بالفور على المعنى المذكور هو الفور العقلي الّذي يعبّر عنه بثاني زمان الخطاب كما في إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق ، أو العرفي الغير المنافي له تخلّل نفس ولا عطاس وسعال ولا شرب ماء كما في ردّ الدين والوديعة ، أو أوّل أزمنة الإمكان ، وجوه خيرها أخيرها اعتبارا وأوسطها ظاهرا.

وربّما يفسر الفوريّة العرفيّة بما يختلف على حسب اختلاف الأفعال في الاحتياج إلى التهيّؤ للأسباب وتحصيل الاستعداد المتفاوتان أيضا قلّة وكثرة بتفاوت طول زمان المأمور به قلّة وكثرة كالسفر إلى القرية أو البلاد القريبة أو النائية وعدمه (١).

وربّما يذكر للفور معنى آخر وهو ما لا يصل إلى حدّ التهاون كما عن بعض المتأخّرين ، وفي كونه تحديدا للفور نظر ، وإنّما هو حدّ لجواز التراخي دلّ عليه القوّة العاقلة ، فإنّ التهاون بأوامر الشرع محرّم بحكم

العقل القاطع فيحرم التأخير إليه من باب المقدّمة ، والظاهر أنّه ليس ممّا ينكره أحد فكيف يجعل حدّا للفور الّذي ينكره الأكثرون.

الأمر الخامس : ربّما يتوهّم بين الفور وزمان الحال المأخوذ في مداليل الأفعال ملازمة ، فمن هنا يورد على المصنّف في احتجاجه الآتي بأنّ : « مدلول الأمر طلب حقيقة الفعل والفور والتراخي خارجان عنها » بأنّ ذلك لا يوافق ما تقرّر عند النحاة من دلالة الفعل على أحد الأزمنة الثلاثة جاعلين لها مائزا بين الأسماء والأفعال ، بل ربّما يؤخذ قول النحاة بأنّ الأمر للحال دليلا على كونه للفور كما سيأتي تقريره.

__________________

(١) ويظهر عن بعض الأعاظم القطع بذلك ، حيث قال : المراد بالفور عند القائلين به ما يعدّ في العرف فورا وهو يختلف بحسب اختلاف الآمر والمأمور به ، كأن يكون الآمر شخصا وقورا وأمر بما يتعلّق بركوبه أو خروجه ، بخلاف من كان عجولا أو يكون المأمور ضعيفا أو قويّا أو ذا حشمة أو يكون المأمور به سقيا أو سفرا بعيدا أو قريبا أو غير ذلك وهو ظاهر ، ويتفرّع عليه جواز التأخير فى ردّ السلام باتمام آية أو نحوها إذا لم يوجب فصلا طويلا ، سواء كان في الصلاة أو غيرها ( منه ).

٢٢٢

والحقّ : أنّه لا ملازمة بينهما أصلا ، لا لما قيل (١) في دفع الإيراد المذكور من أنّ ما ذكر في حدّ الفعل إنّما هو بالنسبة إلى أصل وضع الأفعال ، وإلاّ فقد يكون الفعل منسلخا عن الدلالة على الزمان كما هو الحال في الأفعال المنسلخة عن الزمان ، فلا مانع من أن يكون فعل الأمر أيضا من ذلك.

أو أنّ المقصود بما ذكر في الاحتجاج عدم دلالة « الأمر » على خصوص الحال والاستقبال وذلك لا ينافي دلالته على القدر الجامع بينهما ، فيفيد طلب إيقاع الفعل في أحد الزمانين ومعه يحصل دلالته على الزمان ليتمّ به مدلول الفعل ، ولا يفيد خصوص شيء من الفور والتراخي ـ كما هو المدّعى ـ كما قرّره بعض الأفاضل ، لأنّ كلّ ذلك كلام قد وقع على خلاف التحقيق.

أمّا الأوّل : فلاتّفاقهم على حصر الأفعال المنسلخة فيما لا يكون المقام داخلا فيه ، كيف وأنّه لم يتعرّض لذكره معها أحد من علماء العربيّة ، بل المصرّح به في كلامهم خلاف ذلك كما عرفت في تقرير الاستدلال بما ذكروه.

والمفروض أنّ مجرّد الاحتمال غير كاف في الالتزام بما يخالف الأصل ، ولا سيّما إذا عارضه ما يصلح دليلا على الخلاف.

وأمّا الثاني : فلأنّ كون مدلول الفعل من الزمان هو القدر الجامع بين الزمانين غير منطبق على ما ذكره النحاة.

فإنّ ظاهرهم إعتبار الخصوصيّة في مدلول الفعل ، فلذا تراهم في حدّ الفعل يذكرون : « أنّه يدّل على أحد الأزمنة » وأنّهم اختلفوا في الفعل المضارع الواقع تارة على الحال واخرى على الاستقبال ، وصاروا على مذاهب ثلاث من اشتراكه بينهما لفظا وكونه حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر ، فكأنّ احتمال كون مدلول الفعل هو القدر الجامع بين الزمانين ساقط عندهم حيث لم يتفوّه به أحد منهم ، فكيف يؤخذ ذلك وجها للجمع بين قولهم وكلام المصنّف ، فإنّه عذر عمّن لا يرضى بالاعتذار به.

بل (٢) لأنّ الزمان المأخوذ في مدلول الأمر ظرف للطلب بل قيد له مخرج لما لا تنجّز له في حال الخطاب ، كما في الطلبات التعليقيّة الّتي يكون استعمال الأمر فيها مجازا ، والفور على فرض ثبوته في مدلوله قيد للحدث فلا يلزم من اعتبار الأوّل في مدلوله بحسب الوضع اعتبار الثاني فيه ، كما لا يلزم من انتفاء الثاني انتفاء الأوّل.

__________________

(١) كما في كلام بعض الأفاضل. ( منه ).

(٢) متعلّق بقوله : « لا لما قيل الخ ».

٢٢٣

وتوضيح ذلك : أنّ النسبة المأخوذة في مداليل الأفعال باعتبار أوضاعها النوعيّة المتعلّقة بهيئآتها إمّا إخباريّة أو إنشائيّة.

والمراد بالأوّل : ما يراد من الأفعال الماضويّة والمضارعيّة ويقصد بها الحكاية عمّا هو في الواقع بين الحدث والذات المدلول عليهما بها الّتي هي مناط الصدق والكذب في الأخبار ، فلذا يعرّف الخبر : « بكلام لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ».

ومن البيّن أنّ احتمالي المطابقة والعدم وصفان لتلك النسبة الملحوظة حكاية لا لما هو في الواقع الملحوظ محكيّا عنه ، الخارج عن مدلول اللفظ وضعا وإن دخل فيه التزاما ، واحتمالا المطابقة والعدم قد ينشأان من جهة الذات المنسوب إليها الحدث كأن يسند « الضرب » إلى « زيد » في الزمن الماضي واحتمل صدوره عن غيره في ذلك الزمان ، وقد ينشأان عن الحدث المنسوب إلى الذات كما لو اسند « القتل » إلى « زيد » واحتمل كون ما صدر عنه هو « الضرب ».

وقد ينشأان عن الزمان المنسوب فيه الحدث إلى الذات ، كما لو اسند إليها « الضرب » في الزمن الماضي واحتمل كونه صادرا منه في الحال أو الاستقبال أو بالعكس.

وقضيّة ذلك كون كلّ من الماضي والحال والاستقبال قيدا لتلك النسبة لأنّها تقع حكاية في تلك الأزمنة (١) موجبة لاتّصافها بوصفي المطابقة والعدم.

__________________

(١) قوله : ( لأنّها تقع حكاية في تلك الأزمنة ... الخ ) ومحصّل ذلك : أنّه لو لا الأزمنة قيودا للنسبة الواقعة حكاية عمّا هو في الواقع لما اعتبرت المطابقة والعدم فيها باعتبار الزمان.

وقد عرفت أنّ المطابقة والعدم يعتبران فيها باعتبار الزمان أيضا ، فإنّ جهات المطابقة على ما عرفت متعدّدة ، فقد يتّفق المطابقة بالنسبة إلى الجميع ، وقد يتّفق المطابقة بالنسبة إلى الزمان دون الحدث والذات ، وقد تتّفق بالنسبة إلى الزمان والحدث دون الذات ، وقد تتّفق بالنسبة إلى الزمان والذات دون الحدث ، وقد تتّفق بالنسبة إلى الحدث دون الزمان والذات ، وقد تتّفق بالنسبة إلى الذات دون الحدث والزمان ، والكلّ موجبة للكذب لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ مقدّماتها ، ومعنى كون الزمان قيدا للنسبة أنّ انتساب الحدث إلى الذات في الفعل الماضي إنّما هو في زمان الماضي ، بمعنى أنّ زمان الانتساب زمان الماضي ، وأمّا الحدث فهو مطلق من جميع الجهات فيمكن عدم كونه صادرا عن الذات عن أصله ، ويمكن صدوره في ذلك الزمان فيكون الكلام صدقا ، ويمكن صدوره عنه في الحال أو الاستقبال فيكون كذبا كالصورة الاولى ، ومن هذا الباب النسبة الإنشائيّة الطلبيّة فإنّ زمن الحال قيد لها ، وبهذا الاعتبار يكون قيدا للطلب لأنّ قيد المقيّد قيد لقيده كما لا يخفى.

وأمّا الحدث المطلوب فهو بالنسبة إلى الزمان مطلق فيمكن وقوعه في الحال كما يمكن وقوعه في الاستقبال.

وظنّي أنّ كلّ ذلك واضح لمن له أدنى تأمّل في المطالب الدقيقة. ( منه عفي عنه ).

٢٢٤

والمراد بالثاني : ما يراد من فعلي الأمر والنهي ، ويقصد بها إنشاء الطلب الّذي يعبّر عنه بـ « النسبة الطلبيّة » وقرينة المقابلة قاضية بكون الزمان المأخوذ في مفهوميهما قيدا لتلك النسبة لا النسبة الفاعليّة ، مع كونه ممّا يساعده الفهم العرفي أيضا ، فإنّ الزمان الّذي يقع فيه الحدث لا يكاد ينفهم من اللفظ سواء فرضناه الحال أو الاستقبال ، وإنّما المنساق منه عرفا كون الشيء مطلوبا في الحال فعله أو تركه على الإطلاق.

وإلى ذلك ينظر ما عن السيّد الشريف من أنّ مفاد « أكرم زيدا » طلب في الحال لإكرام زيد في الاستقبال ، فإنّه في الجزء الأوّل من مدّعاه صواب وإن أخطأ في الجزء الثاني ، نظرا إلى أنّ الحدث لا يتبادر معه زمان وإنّما المتبادر ماهيّته القابلة لكلّ زمان.

فما يقال في الجواب ـ عن الاستدلال بما تقدّم ـ : بمنع ثبوت اتّفاق النحاة على ما ذكر تارة ، وضعف قولهم بمخالفة علماء الاصول والبيان ثانية مبنيّ على الملازمة الموهومة وقد عرفت منعها.

الأمر السادس : في تأسيس الأصل الموجب للتفصّي عن الإشكال في كلّ موضع خال على حكمه عن دليل دالّ ، ولمّا كان الأصل قد ينظر إليه في مقام الاجتهاد والنظر في متعلّق الوضع ، وقد ينظر في مقام العمل والنظر في متعلّق التكليف فلابدّ من تأسيسه في مقامين :

أمّا المقام الأوّل : فلا ريب أنّ مقتضى الأصل فيه كون الأمر لطلب الماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن الفور أو التراخي ، فإنّ الوضع لا شكّ في عدم تعلّقه بشيء قبل تأسيس أساسه لكونه مسبوقا بالعدم الأزلي ، وإنّما انتقض ذلك بعد حدوثه على سبيل الجزم واليقين بالنسبة إلى أصل الماهيّة ، لتيقّن تعلّقه بها على كلّ تقدير ، وإنّما الشبهة حاصلة بالنسبة إلى تعلّقه بما زاد عليها معها ، والأصل عدمه أخذا بموجب اليقين السابق ، إلاّ أنّ اعتباره في أمثاله مبنيّ على إفادته الوصف وهو محلّ تأمّل ، وتحقيق الحال فيه نفيا وإثباتا يحتاج إلى إمعان النظر بالتخلية التامّة.

وأمّا المقام الثاني : فلا ريب أنّ الأصل في ذلك إنّما يثمر للقول بالاشتراك لفظا بين الفور والتراخي مع انتفاء ما يوجب تعيّن أحد الأمرين في الإرادة من القرائن وللقول بالوقف أيضا.

وقد يثمر للقائل بالفور إذا لم يتحقّق عنده كونه بأيّ من المعاني المحتملة فيه ممّا سنقرّرها ، وللقائل بالتراخي أيضا إذا اشتبه بين جوازه ووجوبه ولم يعلم حقيقة الحال.

٢٢٥

فنقول : إنّ الفور على القول به يحتمل كونه من قبيل المضيّق بالمعنى الأخصّ الموجب لسقوط الأمر بمجرّد التأخير عن وقته مع ترتّب الإثم عليه ، كما يحتمل كونه من باب المضيّق بالمعنى الأعمّ المستلزم لبقاء الأمر مع التأخير وإن ترتّب عليه الإثم ، وعليه فإمّا أن يكون الباقي هو الأمر بالماهيّة من دون اعتبار التعجيل معها المستلزم لعدم العصيان بالتأخير عن الثاني إلى الثالث وعنه إلى الرابع وهكذا ، أو الأمر بها مع اعتبار التعجيل معها في جميع المراتب الموجب للعصيان بكلّ تأخير في كلّ مرتبة ، فقد يلاحظ فيما بين التراخي بكلّ من احتماليه وبين الفور بكلّ من محتملاته ، وقد يلاحظ فيما بين محتملات الفور ، وقد يلاحظ بين احتمالي التراخي.

فإذا دار الأمر بين جواز التراخي ووجوب الفور بالمعنى الأوّل فالأصل هو الأوّل ، لأنّ الفور بذلك المعنى يستلزم العقاب على التأخير مع ارتفاع الأمر بعده ، والأوّل ينفيه أصالة البراءة والثاني ينفيه الاستصحاب.

وتوهّم معارضة الأوّل بمثله ، نظرا إلى أنّه كما أنّ الأصل براءة الذمّة عن العقاب بالتأخير عن الزمان الأوّل فكذلك الأصل براءة الذمّة عن التكليف في الزمان الثاني وغيره ممّا تعقّبه.

يندفع : بأنّه لو صحّ ذلك لكان في مقابلة الاستصحاب الوارد عليه في أمثال المقام فلا أثر له حينئذ.

كما أنّ توهّم معارضة الثاني بأصل الشغل ، نظرا إلى أنّ اليقين بالامتثال بعد تيقّن الاشتغال إنّما يحصل بعدم التأخير لا معه ، يندفع : بعدم صلوح ذلك للمعارضة مع الاستصحاب.

وإذا دار الأمر بين جواز التراخي ووجوب الفور بالمعنى الثاني فأصالة البراءة عن العقاب بالتأخير قاضية بتعيّن الأوّل ، ولا يعارضها أصل الشغل لأنّه لو تمّ لقضى بعدم الصحّة فيما عدا الزمان الأوّل والفور بالمعنى المفروض ينافيه ، فهو لا يوافق الفور أيضا كما لا يوافق التراخي ليكون معارضا لما ذكرناه من الأصل القاضي بالتراخي.

وإذا دار الأمر بين جواز التراخي ووجوب الفور بالمعنى الثالث فأصالة البراءة عن العقاب في كلّ من أجزاء الزمان أيضا قاضية بتعيّن الأوّل ولا معارض لها أيضا.

وإذا دار الأمر بين وجوب التراخي ووجوب الفور بالمعنى الأوّل فأصالة البراءة عن

٢٢٦

العقاب بالتأخير معارضة بأصالة البراءة عن العقاب بالفور ، فيبقى إستصحاب الأمر مقتضيا للتراخي ، لاستلزام الفور بذلك المعنى إرتفاع الأمر والأصل عدمه ، وأصل الشغل غير جار هنا لدوران الأمر بين المحذورين الموجب لفقد القدر المتيقّن.

وإذا دار الأمر بين وجوب التراخي ووجوب الفور بالمعنى الثاني فلا أصل في البين ، فلا مفرّ من التخيير لعدم إمكان الاحتياط ، ويمكن الجمع بين التأخير وعدمه القاضي بوجوب الإتيان مكرّرا تحصيلا للبراءة اليقينيّة وهو الأقرب كما لا يخفى فتأمّل (١).

وإذا دار الأمر بين وجوب التراخي ووجوب الفور بالمعنى الأخير فأصالة البراءة عن العقاب على التأخير في غير الزمان الأوّل إلى ما بعده ترجّح الأوّل ، بعد تصادم الأصلين بالنسبة إلى التأخير عن الزمان الأوّل معا وتساقطهما.

وإذا دار الأمر بين قسمي التراخي فالمتعيّن هو الأوّل ، لأصالة البراءة عن العقاب على التعجيل إلاّ أن يعارضهما أصل الشغل القاضي بتعيّن التأخير ، لأنّه الّذي يوجب اليقين بالبراءة دون عدمه إن لم يكن في موضع الشكّ في الشرطيّة ، وإلاّ فيقدّم عليه أصالة البراءة لما هو المقرّر في أمثال المقام.

وإذا دار الأمر بين الأوّل والثاني من معاني الفور فأصالة البراءة عن تعدّد التكليف ترجّح الأوّل ، ولا يعارضها استصحاب الأمر المرجّح للثاني ، لكونه في موضع انتفاء أحد ركنيه من الشكّ اللاحق أو اليقين السابق ، إذ لو اريد من المستصحب الأمر بالفرد فهو مرتفع جزما بفوات وقته وهو زمان الفور.

ولو اريد به الأمر بالطبيعة أيضا فهو عن أوّل الأمر كان مشكوكا فيه.

اللهمّ إلاّ أن يراد بالطبيعة ما هي متحقّقة في ضمن الفرد ، فغاية ما علم بارتفاعه إنّما هو الأمر بالخصوصيّة دون الطبيعة الّتي في ضمنها.

وفيه : مع ابتنائه على بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وهو محلّ تأمّل ، أنّ الأمر لا يتبعّض حتّى يرتفع بعضه بارتفاع الخصوصيّة ويبقى بعضه الآخر ببقاء الطبيعة.

وإذا دار الأمر بين الأوّل والثالث من معاني الفور فالكلام فيه نظير ما تقدّم ، لأصالة

__________________

(١) وجهه : عدم منافاة التأخير لحصول البراءة ، إذ المفروض كون الفور ممّا يجزي معه الإتيان مؤخّرا ، غايته ترتّب الإثم على نفس التأخير ، فقضيّة لزوم القطع بالبراءة بعد اليقين بالاشتغال هو الإتيان مؤخّرا ، إذ مع التقديم لا يحصل ذلك القطع كما لا يخفى ( منه ).

٢٢٧

البراءة عن تعدّد التكليف وتعدّد العقاب بالتأخير في كلّ مرتبة.

وإذا دار الأمر بين الثاني والثالث من معانيه فالأصل هو الأوّل ، لاستلزام الثاني ترتّب العقاب على التأخير عمّا بعد الزمان الأوّل إلى غيره في كلّ مرتبة.

وممّا قرّرنا يعلم الحكم فيما لو داربين ثلاثيّات الصور ورباعيّاتها فلا حاجة إلى الإعادة والتكرار.

الأمر السابع : في ثمرات أقوال المسألة.

فثمرة القول بالماهيّة جواز أداء المأمور به فورا وتراخيا أخذا بموجب إطلاق اللفظ ، المعتضد بجملة من الاصول المتقدّمة كما لا يخفى.

ويشكل الفرق بينه وبين القول بجواز التراخي حينئذ في تلك الثمرة لترتّبها عليهما معا كما لا يخفى.

ويمكن الفرق بينهما بوجود ما يقضي من الخارج بإرادة الفور ، فعلى الماهيّة لا معارض له لكون الإطلاق القاضي بجواز التراخي من باب السكوت في معرض البيان فلا يعارض البيان ، وعلى جواز التراخي يعارضه ظاهر الأمر لأنّه ظهور وضعيّ فلابدّ من المراجعة إلى المرجّحات.

وربّما يحكى (١) الفرق بينهما عن الحاجبي فيما لو أخّر الأداء عن زمان الفور فمات فجأة أو فاجاه العذر القاضي بعدم تمكّنه عن الإتيان به ، فعلى القول بالتراخي لا عقاب عليه لترتّب الترك حينئذ على إذن الآمر ، بخلافه على القول بالماهيّة فيستحقّ العقوبة لتفويته المأمور به عملا ، وإن كان ذلك من جهة ظنّه بتمكّن الأداء في الآخر ، فإنّ ذلك الظنّ إنّما يثمر مع أداء الواجب وأمّا مع عدمه فهو تارك للمأمور به ، وقضيّة وجوبه استحقاق العقاب بتركه.

وأورد عليه : بأنّ جواز التأخير حينئذ وإن كان بحكم العقل إلاّ أنّه يطابق حكم الشرع فيثبت جواز التأخير في الشرع أيضا ، فلا فرق بين الوجهين حينئذ إلاّ في كون جواز التأخير شرعا بلسان الشرع أو العقل ، وهو لا يوجب فرقا في الحكم بعد قيام العقل دليلا على الشرع.

أقول : والّذي يترجّح في نظري القاصر ، أنّ تجويز التأخير سواء كان من مدلول اللفظ

__________________

(١) حكاه في الهداية ( منه ).

٢٢٨

أو من مقتضى العقل لا يثمر في عدم استحقاق العقاب بالترك ، وإنّما يثمر بعدم العقاب على التأخير ، وأمّا الترك بعد التأخير فهو موجب للعقاب لعدم ثبوت جواز على الإطلاق بشيء من العقل واللفظ ، بل غايته الجواز إلى ظنّ الفوات.

أمّا على الأوّل : فواضح.

وعلى الثاني : فلتقيّد إطلاق اللفظ على فرضه بضرورة العقل.

فقضيّة ذلك ترتّب استحقاق العقوبة لو فاته بعد التأخير عن ظنّ الفوات ، كيف وخروج الواجب عن الوجوب غير معقول إلاّ في مواضع الامتثال أو قيام المسقط والمقام خال عنهما ، ولا يلزم ذلك لو فاته لا مع ظنّ الفوات سواء فيه ظنّ الأداء وعدمه ، لعدم استناده حينئذ إلى العصيان الموجب للاستحقاق ، بل إلى مفاجاة العذر الذي هو بنفسه من المسقطات الرافعة للأمر والوجوب ، نظير السهو والنسيان وغيرهما الرافعة لهما فلا وجه لما ذكر من الفرق ، كما لا وجه لفرق آخر مذكور في المقام وهو أنّه على القول بالتراخي يجوز التأخير ما لم يظنّ الفوات به ، وأمّا على القول بالطبيعة فإنّما يجوز التأخير مع الظنّ بتمكّن الأداء ، وأمّا مع الشكّ فيه فلا ، إذ المفروض إيجاب الطبيعة ، فإذا حصل الشكّ في فراغ الذمّة مع التأخير لم يجز الإقدام عليه ، لوجوب تحصيل الفراغ عند حصول الاشتغال ، فلا يجوز له إلاّ الاشتغال به ، إذ لا أقلّ في حكم العقل بجواز التأخير من الظنّ بأداء الواجب معه ، فإنّ وجوب تحصيل الفراغ مع حصول الاشتغال لا ينافيه التأخير لإمكانه معه أيضا إذا لم يتطرّق عليه العذر ، ولو اتّفق الفوات حينئذ فهو مرفوع الحكم بوجود المسقط بقضاء من العقل ، ومعه لا يتصوّر قضاؤه باعتبار الظنّ بالتمكّن في التأخير ، فمجرّد احتمال تطرّقه غير كاف في كون المقام من مجاري القاعدة ، وإلاّ لكانت مطرّدة حتّى في صورة الظنّ بالتمكّن ، ضرورة أنّ مجرّد رجحان احتمال التمكّن لا يوجب عدم اقتضاء حصول الاشتغال وجوب تحصيل الفراغ ، فإنّه حكم عقلي سار في جميع الصور ، غاية الأمر أنّه قد يتّسع زمان تحصيل الفراغ بحكم العقل أو اللفظ ، فإذا كان العقل يحكم بالتوسعة مع ظنّ التمكّن فكذلك يحكم بها مع عدم الظنّ بعدم التمكّن من غير وجود فارق بينهما في نظر العقل كما لا يخفى.

وثمرة القول بالفور ظاهرة في جميع محتملاته ، كظهور ثمرة القول بالتراخي بكلّ احتماليه ، كما أنّ ثمرة القول بالاشتراك اللفظي ظاهرة ، فإنّه مع قيام القرينة الكاشفة عن

٢٢٩

وذهب جماعة ، منهم المحقّق أبو القاسم ابن سعيد ، والعلاّمة ـ رحمهما الله تعالى ـ إلى أنّه لا يدلّ على الفور ، ولا على التراخي ، بل على مطلق الفعل ، وأيّهما حصل كان مجزيا. وهذا هو الأقوى.

لنا : نظير ما تقدّم في التكرار * ، من أنّ مدلول الأمر طلب حقيقة الفعل ،

__________________

المراد يبنى على مقتضاها فلا يخلو حاله عن ثمرتي الفور والتراخي.

وأمّا مع فقدها فلا مقرّ له من التوقّف في مقام الاجتهاد والأخذ بمقتضى الأصول العمليّة الّتي تقدّم تقريرها ، فإنّ حاله لا يخلو عن إحدى صور الدوران بين الفور والتراخي فيبنى على ما يساعده الأصل المقرّر في تلك الصورة.

وأمّا القول بالوقف فثمرته كثمرة القول بالاشتراك مع فقد البيان إن كان وقفا بين الفور والتراخي ، وإلاّ فإن كان وقفا بين الفور والماهيّة فثمرته كثمرة الفور والتراخي باحتماله الأوّل عند دوران الأمر بينهما ، وإن كان وقفا بين التكرار والماهيّة فلا ثمرة له إلاّ ما أشرنا إليه ممّا يظهر في مقام وجود ما يقضي بخلاف مقتضى اللفظ من إرادة الفور كما لا يخفى.

* وبالتأمّل فيما قرّرناه في شرح كلامه في الاستدلال على مختاره في بحث التكرار تعرف مفاد الاستدلال هنا ، مع فائدة قوله : « والفور والتراخي خارجان عنها » ومحصّله : أنّه استدلال بالتبادر وهو في محلّه ، فإنّه لا يشكّ أحد ممّن تأمّل في طريقة العرف والاستعمالات الجارية على لسانهم في أنّ صيغة « افعل » لو خلّيت وطبعها لا ينساق عنها إلاّ طلب ماهيّة الفعل المعرّاة عن الخصوصيّات المتعاورة عليها حسبما يقتضيه المقامات ، وأنّ الفور أو التراخي لا ينساق إلاّ بملاحظة امور خارجة عنها من مجاري العادات وغيرها من القرائن العامّة أو الخاصّة ، فلذلك ترى العرف كافّة لا يلتزمون في جلّ الأوامر بشيء من الفور والتراخي.

ومن هنا يتّفق الإختلاف في الإتيان بشيء واحد امتثالا عند تكرّر الأمر به ، فتارة يؤتى به فورا ، واخرى يؤتى به فيما بعد زمان الفور بفاصل قليل ، وثالثة في أواسط زمان التراخي ، ورابعة في أواخره ، وهكذا من غير ترتّب ذمّ ولا استحقاق عقاب ولا مخالفة غرض في شيء من تلك الإتيانات ، وليس ذلك إلاّ لصلاحيّة المدلول جميع تلك الوجوه ، فإنّ الفور أمر منضبط لا يقبل تلك الاختلافات ، والتراخي أمر خارج لا يلاحظ في شيء

٢٣٠

من الجهات حتّى يستند إليه الاختلاف في الإتيانات.

وأقوى شواهد المقام ترديد كلّ من ألقى إليه الصيغة من الخواصّ والعوامّ في الالتزام بالفور أو التراخي مع القرائن وخصوصيّات المقام من مجاري العادات وغيرها ، فإن وجد ما يقضي بكون المقام من مواضع الفور أثّر في الالتزام به فيؤتى بالمأمور به فورا ، وإن وجد ما يشهد بأنّه من محالّ التراخي أثّر في عدم تجويز المبادرة فيؤتى به تراخيا ، وإن فقد كلّ من ذلك أثّر في عدم الالتزام بشيء فيؤتى به حيثما اتّفق ، وليس ذلك إلاّ من جهة عدم مدخليّة شيء منهما في مفهوم الصيغة وإلاّ لما حصل الافتقار إلى النظر في الامور الخارجة عنها كما لا يخفى.

مع أنّ البناء مستقرّ على التصريح بما يفيد إرادة الفور أو التراخي في مظانّ إرادتهما ، كما يقال بعد الأمر : « عجّل » أو « اريده معجّلا » أو « أسرع » أو غيره ممّا يؤدّي مؤدّى الفور.

أو يقال : « أخّر الإتيان » أو « ما اريده معجّلا » أو « لا تسرع » ونحو ذلك ممّا يفيد مفاد التراخي ، فلو لا الصيغة قاصرة عن إفادتهما لما حصل الاحتياج إلى ما ذكر.

واحتمال إرادة التأكيد ، يدفعه : فهم التأسيس والتنبّه على ما لا أفادته الصيغة قبل التصريح بذلك ، مع أنّ الأصل فيما يتقيّد بالمتقابلين مع عدم انفهام تكرار ولا تناقض كونه بإزاء القدر الجامع بينهما والمقام من أفراد تلك القاعدة كما لا يخفى ، مضافا إلى ما استدلّ به من أنّ استعمال الصيغة في القدر المشترك ثابت ، وفي كلّ من الخصوصيّتين غير ثابت وإنّما الثابت إطلاقه على المقيّد بهما ، وقضيّة الأصل كونه حقيقة فيما ثبت استعماله فيه ، فإنّها قاعدة مسلّمة عندنا وقد بسطنا الكلام في إقعادها عند البحث عن أمارات الوضع فارجع إليها.

وربّما يقرّر الوجه الأوّل (١) ممّا تمسّكنا به بأنّه : لو اقتضاه فإمّا أن يقتضيه لفظا أو معنى والتالي باطل بقسميه مطلقا.

أمّا الملازمة فظاهرة ، وأمّا بطلان القسم الأوّل من التالي فلانتفائه بأقسامه الثلاث ، أمّا المطابقة والتضمّن فلأنّ المتبادر من الصيغة ليس إلاّ طلب الحقيقة والفور والتراخي خارجان عنه ، وأمّا الالتزام فلأنّه لا ملازمة بين طلب الفعل وبين إيقاعه فورا أو متراخيا لا عقلا ولا عرفا ، بدليل تقييده بكلّ منهما من غير تناقض ـ ولو في الظاهر ـ ولا تكرار ـ ولو على

__________________

(١) كما في كلام بعض الفضلاء ( منه ).

٢٣١

والفور والتراخي خارجان عنها ، وأنّ الفور والتراخي من صفات الفعل ، فلا دلالة له عليهما.

حجّة القول بالفور امور ستّة * :

__________________

سبيل التأكيد ـ وأمّا انتفاؤه معنى فلبطلان ما تمسّك به الخصم وعدم ما يصلح له سواه.

وربّما يستدلّ أيضا : بأنّه لو كان موضوعا للقدر المشترك كان إطلاقه على كلّ من الفور والتراخي على الحقيقة من غير اشتراك ، ولو كان موضوعا لأحدهما أو كليهما لزم المجاز أو الاشتراك المخالفان للأصل كما في كلام بعض الفضلاء.

وبأنّ أهل اللغة قالوا لا فارق بين « تفعل » و « افعل » إلاّ أنّ الأوّل خبر والثاني انشاء ، وذلك يقتضي تساويهما فيما عدا ذلك لظهور كلامهم في انحصار الفرق ، ولمّا كان مدلول الأوّل إدخال الماهيّة في الوجود من غير فهم الفور والتراخي فكذلك مدلول الثاني ـ كما نقله بعض الأجلّة ـ وهما صالحان للتأييد كما لا يخفى.

وأمّا الاستدلال باستعماله فيهما شرعا كالحجّ والصوم والطهارة والصلاة وتقييده بهما والأصل يقتضي وضعه للقدر المشترك بينهما ، ففساده واضح.

* حكى الاحتجاج على الفور بوجوه كثيرة ، منها : الوجوه الستّ الّتي نقلها المصنّف.

منها : ما نقلها بعض الأعاظم زيادة عليها من قول النحاة : بأنّ الأمر للحال.

والاحتياط لخوف عروض التعذّر أو التعسّر.

ووجوب اعتقاد وجوب الفعل على الفور بالإجماع فيجب الفعل قياسا ، لأنّه أحد موجبي الأمر ، والجامع تحصيل مصلحة المسارعة إلى الامتثال ، بل فوريّة الفعل أولى لأنّ الأمر يتناوله دون الآخر.

والنبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ».

ولأنّه لو جاز التأخير لجاز إلى بدل أو لا إلى بدل وكلاهما باطل ، فإنّ الأوّل مفقود ، فإنّ البدل ما يلزم من وجوده سقوط المبدل وهو غير متحقّق هنا إجماعا ، والثاني يستلزم رفع وجوبه وفساده ظاهر.

ولخرج الواجب عن كونه واجبا.

ولجاز إلى بدل ، فإنّه لولاه لما افترق من الندب مع أنّ الأمر لا يدلّ عليه.

٢٣٢

واجيب عن الأوّل (١) بأنّ كلام النحاة معارض بما اشتهر بين الاصوليّين من كونه موضوعا للأعمّ مع كونهم أدقّ نظرا وأشدّ فحصا ، وممّا يشهد على وهنه عدم تشبّث الفحول به مع أنّهم استندوا له بامور واهية جدّا ، وتعلّقوا بما يمكن التعلّق به ولو كان ظاهر الفساد ، مع أنّ منهم من كان من فضلاء العربيّة ، ومع ذلك يحتمل إرادتهم تعلّق الخطاب في الحال وإن كان ممتدّا وثابتا بعده أيضا ، ولا يخفى ضعف ما عدا الأخير الّذي مطابق لما حقّقناه ، فهو الجواب الحاسم لمادّة الاحتجاج.

وعن الثاني (٢) : بأنّ الاحتياط من الأدلّة العمليّة ولا ربط له بالوضع ، مع عدم لزومه في نحو المقام ، فإنّه لازم فيما شكّ في المكلّف به بعد ثبوت أصل التكليف لا في التكليف وهنا من قبيل الثاني ، فإنّ إطلاق الأمر يقتضي عدم التوقيت فيدفع احتمال المسارعة بالأصل ، مع أنّه معارض بمثله من لزوم التراخي ، إلاّ أنّه قال في النهاية : « من توقّف في الامتثال بالمسارعة خالف إجماع السلف ».

والأوّل والأخير حقّ متين والأوسط فاسد بالجزم واليقين ، فإنّه كلام لا يصلح ناقضا لما رامه المستدلّ ، لظهور عبارته في أنّ الموجب للاحتياط أمر خارج عن مجرّد احتمال التكليف بالفور ، فلا يرد عليه أنّه لا يجري في موضع الشكّ في التكليف ، مع أنّ له أن يدرجه في عنوان الشكّ في المكلّف به بإرجاعه إلى دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، كما يقتضيه أحد محتملات الفور القاضي بكون الفوريّة شرطا في الصحّة.

والأولى أن يقال ـ في ردّ الاستدلال ـ : بأنّ الموجب للاحتياط إن كان تيقّن الاشتغال بالفعل المستدعي لوجوب اليقين بالامتثال ، فيدفعه : عدم توقّف ذلك على المبادرة والاستعجال ، لعدم منافاة التأخير لحصول الامتثال فيكون مخيّرا بينهما بحكم العقل الناشئ عن إطلاق اللفظ ، وإن كان خوف الفوات بالتعذّر أو التعسّر عند التأخير ـ كما هو عبارة الدليل ـ فيجب الفور احتياطا من باب وجوب دفع احتمال الضرر.

ففيه : أنّ الاحتمال ما لم يكن عقلائيّا لا يجب دفعه جزما من العقل والعرف والعادة وإلاّ لتضيّق جميع الموسّعات وانسدّ أبواب جميع المعايشات ، وما ذكر من الخوف احتمال لا يعتني به العقلاء أصلا ما لم يبلغ حدّ الرجحان ، كما يظهر بملاحظة طريقتهم في مطلقات الأوامر العرفيّة.

وقد تقدّم في تقرير الدليل على المختار الإشارة إلى بعض ما يشهد بذلك.

__________________

(١) والمراد به قول النحاة : « بأنّ الأمر للحال ».

(٢) أي قوله : « والاحتياط لخوف عروض التعذّر أو التعسّر ».

٢٣٣

والجواب عن الثالث (١) : أنّ القياس لا تعويل عليه ولا سيّما مع الفارق ، فإنّ وجوب اعتقاد الوجوب إنّما هو لوجوب تصديق ما أتى به النبيّ ، ووجوبه فورا ضروريّ عند الأبرار للارتفاع عن حضيض الجحود والإنكار ، وليس كذلك الأمر في الفعل ، فإنّ تأخيره لا يوجب كفرا ولا إثما.

وعن الرابع (٢) : عدم صلوحه شاهدا على الوضع كما هو المطلوب ، مع ضعفه سندا وقصوره دلالة من جهة ابتنائها على كون لفظة « إذا » للتوقيت المستلزم لخروج كلمة « الفاء » للتعقيب بلا تراخ ، وهو في حيّز المنع لجواز كونها شرطيّة قاضية بكون « الفاء » جزائيّة خارجة عن الدلالة على نفي التراخي.

ولو سلّم فوفاؤها بتمام المطلوب مبنيّ على كونها من أدوات العموم وهو خلاف التحقيق ، بل الثابت المحقّق كونها من أدوات الإهمال على ما يساعده قواعد العرف والاستعمال ، فلا تفيد إلاّ قضيّة جزئيّة.

ولو قيل : إنّ المطلوب إنّما يتمّ على تقدير إفادتها التكرار ـ كما تقدّم الاستدلال بها عليه ـ وهو يستلزم الفور.

لقلنا : بمثل ما ذكر من أنّها لا تفيد إلاّ الإهمال ، مضافا إلى ما سبق من منع الدلالة على التكرار أيضا.

وعن الخامس (٣) : أنّه أيضا لا يفيد الوضع للفور بل غايته نهوضه قرينة لإفهام المراد ، مضافا إلى كونه فاسد الوضع ، فإنّ التأخير بلا بدل جائز بحكم العقل والشرع ، والواجب إنّما يخرج عن كونه واجبا بالترك لا مع العذر رأسا ، والتأخير الّذي يلحقه الفعل ليس منه.

وبذلك يظهر الجواب عن السادس (٤) والسابع (٥) مع انتفاء الفرق لو لم يعتبر قيام البدل في تأخير الواجب بينه وبين المندوب ، فإنّ امتياز الندب عن الوجوب بجواز الترك عن رأس كاف في الفرق بينهما ومعه لا حاجة إلى فرق آخر ، فلا ضير في اشتراكهما في جواز التأخير لا إلى بدل.

__________________

(١) أي قوله : « ووجوب اعتقاد وجوب الفعل على الفور بالإجماع الخ ».

(٢) أي قوله : « والنبويّ : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ».

(٣) أي قوله : « وكأنّه لو جاز التأخير لجاز إلى بدل أو لا إلى بدل الخ ».

(٤) أي قوله : « ولخرج الواجب عن كونه واجبا ».

(٥) أي قوله : « ولجاز إلى بدل الخ ».

٢٣٤

الأوّل : أنّ السيّد إذا قال لعبده : اسقني * ؛ فأخّر العبد السقي من غير عذر ، عدّ عاصيا ، وذلك معلوم من العرف. ولو لا إفادته الفور ، لم يعدّ عاصيا.

وأجيب عنه : بأنّ ذلك إنّما يفهم بالقرينة ؛ لأنّ العادة قاضية بأنّ طلب السّقي إنّما يكون عند الحاجة إليه عاجلا ** ، ومحلّ النزاع ما تكون الصيغة فيه مجرّدة.

الثاني : أنّه تعالى ذمّ إبليس لعنه الله ، على ترك السجود لآدم عليه‌السلام ، بقوله

__________________

* وربّما يضاف إلى الوجه المذكور في تقرير التبادر ما عن السكّاكي من أنّه قال : « حقّ الأمر الفور ، لأنّه المتبادر الظاهر من الطلب عند الإطلاق كما في الاستفهام والنداء ، فلو أمر بالقيام بعد الأمر بالاضطجاع لكان المفهوم منه نسخ الأمر الأوّل ، ولو كان للماهيّة لما كان كذلك ».

والجواب عن الأوّل : ما ذكره المصنّف.

وأمّا عن الثاني فاجيب : بأنّ فهم النسخ ـ لو سلّم ـ لا يستلزم الفوريّة وهو ظاهر ، لأنّ الأمر الصادر عقيب أمر آخر مناقض له مع ظهوره في الدوام ، وتمكّن المكلّف من الامتثال بالأمر الأوّل ظاهر في كونه ناسخا للأوّل ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أو التراخي ، مع أنّه يمكن أن يقال : بعدم تحقّق النسخ في الواجبات الفوريّة المطلقة لأنّها ـ على التحقيق ـ يرجع إلى الموقّتات المضيّقة ، وبعد انقضاء الوقت لا يعقل النسخ ، وكذلك قبل انقضائه إذا كان وقت الفعل مساويا لأدائه كموضع النزاع على الفرض.

ولا يخفى وهن الوجه الثاني ، فإنّ كون المقام من قبيل الموقّت الّذي يفوت بفوات وقته فلا يعقل فيه النسخ إنّما يستقيم على الأوّل من معاني الفور المتقدّم ذكرها ، وأمّا على البواقي فالنسخ معقول جدّا.

وإنّما الحاسم لمادّة هذا الكلام هو الوجه الأوّل ، فإنّ فهم النسخ فيما ذكر من المثال لا ينافي شيئا من الماهيّة والتراخي ، بل هو فيهما أظهر منه على الفور ، لاحتمال كون الأمر الثاني على هذا التقدير لاحقا بالأمر الأوّل بعد فوات وقته ، نظرا إلى جواز كونه تقييديّا كما في الأوّل من معانيه.

** واورد عليه : بأنّ وجود القرينة ـ على فرض تسليمه ـ لا يكفي بمجرّده في

٢٣٥

سبحانه : ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) ولو لم يكن الأمر للفور لم يتوجّه عليه الذمّ ، ولكان له أن يقول : إنّك لم تأمرني بالبدار ، وسوف أسجد.

والجواب : أنّ الذمّ باعتبار كون الأمر مقيّدا بوقت معيّن * ولم يأت بالفعل فيه. والدليل على التقييد قوله تعالى : ( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ).

__________________

كون الفهم ناشئا عنها ، والحاسم للاستدلال ما لو استند الفهم والتبادر إلى ملاحظتها.

ويدفعه : قضاء الوجدان بأنّه لو لا ملاحظتها ولو إجمالا لما حصل التبادر ، فلذلك تراه في غير المثال المذكور مفقودا ، وإن شئت فانظر إلى قول السيّد وغيره : « أعط الفقير درهما » و « اشتر اللحم » ونحو ذلك ممّا لا يحصى.

* قيل ذلك الوقت إمّا زمان التسوية بناء على أنّ « إذا » ظرف زمان للجزاء فيكون للتوقيت ، فيفيد أنّ الجزاء لابدّ من حصوله في ذلك الوقت ، أو زمان متآخم لزمان التسوية على ما يقتضيه « الفاء » فإنّها للتعقيب من غير تراخ ، فيدلّ على ترتّب الجزاء على الشرط من غير فصل.

واعترض : بأنّ الذمّ لو كان باعتبار مخالفة الأمر المقيّد وجب أن يذكر في مقام الذمّ ما هو مناطه وهو التقييد ، من غير أن يذمّ على مجرّد مخالفة الأمر كما هو ظاهر الآية.

واجيب : بأنّ قوله تعالى : ( إِذْ أَمَرْتُكَ )(١) محتمل لوجهين :

الأوّل : حين صدور الأمر منّي.

والثاني : حين أمرت بايقاع الفعل فيه.

وعلى الأوّل يكون كلمة « إذ » ظرفا لنفس الأمر وعلى الثاني ظرفا للمأمور به ، والاستعمال بكلا قسميه شائع ورجحان أحدهما على الآخر ممنوع.

والاستدلال إنّما يستقيم لو كان المراد هو الأوّل ، وأمّا على الثاني فالمذكور في مقام الذمّ مخالفة الأمر المقيّد لا المطلق.

وربّما يجاب عن الاستدلال أيضا : بمنع ترتّب الذمّ على مجرّد التأخير بل على تركه

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

٢٣٦

الثالث : أنّه لو شرع التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معيّن ، واللاّزم منتف. أمّا الملازمة ، فلأنّه لولاه لكان إلى آخر أزمنة الإمكان اتفاقا ، ولا يستقيم ؛ لأنّه غير معلوم ، والجهل به يستلزم التكليف بالمحال ؛ إذ يجب على المكلّف حينئذ أن لا يؤخّر الفعل عن وقته ، مع أنّه لا يعلم ذلك الوقت الّذي كلّف بالمنع عن التأخير * عنه. وأمّا انتفاء اللاّزم فلأنّه ليس في الأمر إشعار بتعيين الوقت ، ولا عليه دليل من خارج.

__________________

السجود وعدم عزمه عليه ، بل عزمه على الترك والمخالفة استكبارا وافتخارا ، كما يشهد به قوله تعالى حكاية عنه : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )(١).

واجيب أيضا تارة : بأنّ الذمّ كما يحتمل أن يكون باعتبار ما ذكر ، كذا يحتمل أن يكون لرفعه عن امتثال الأمر واستكباره كما يشهد به قوله سبحانه : ( إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ )(٢).

واخرى : بمنع كون الاستفهام ذمّا ، وإنّما يتمّ ذلك لو كان للتوبيخ وهو غير متعيّن ، لجواز أن يكون تقريرا على الباعث ليقوم عليه الحجّة في الطرد والإبعاد.

وثالثة : بمنع كون الفوريّة قد استفيدت من الصيغة لجواز كونها قد استفيدت من قرينة حاليّة أو مقاليّة.

قيل : ولو دفع هذا الاحتمال بأصالة عدمها ، فعورض بأصالة عدمها أيضا في الأوامر الموسّعة كما ادّعاها الخصم فيها مع أنّها أغلب.

ويمكن الجواب أيضا : بأنّ التعبير بقوله تعالى : ( أَلاَّ تَسْجُدَ )(٣) دون « أن لا تبادر أو تسارع » ظاهر في تركه أصل السجود ، وهو يجامع الفور التقييدي والموقّت مع فوات وقته ، والموسّع مع العزم على المعصية فيكون أعمّ وهو لا ينهض دليلا على الأخصّ.

* وقد يقرّر تلك المقدّمة : بأنّه حيث يجب على المكلّف أن يؤخّر الفعل إلى وقت لا يعلمه والفرق بينهما واضح.

وما أورده المصنّف في دفع الاستدلال يستقيم على التقرير الثاني دون الأوّل كما ستعرفه.

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

(٢) البقرة : ٣٤.

(٣) الأعراف : ١٢.

٢٣٧

والجواب : من وجهين : أحدهما ـ النقض بما لو صرّح * بجواز التأخير ؛ إذ لا نزاع في إمكانه. وثانيهما ـ أنّه إنّما يلزم تكليف المحال لو كان التأخير متعيّنا ** ،

__________________

وربّما يقرّر الاستدلال ـ كما في الهداية (١) ـ : بأنّه لو لم يكن الأمر للفور لجاز التأخير ، والتالي باطل فالمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة.

وأمّا بطلان التالي : فلأنّه لو جاز التأخير فإمّا أن يجوز إلى غاية معيّنة أو غير معيّنة ، أو يجوز التأخير دائما ، والوجوه الثلاث باطلة فالمقدّم مثلها ، والملازمة ظاهرة ، إذ جواز التأخير لا يخلو عن أحد الوجوه المذكورة.

ويدلّ على بطلان الأوّل : أنّه لا بيان في المقام وليس في نفس اللفظ ما يفيد تعيين الوقت ولا من الخارج ما يفيد ذلك ، ولو كان فهو خارج عن محلّ الكلام ، والثاني يستلزم التكليف بالمحال ، إذ مفاده المنع من تأخير الفعل عن وقت لا يعلمه المكلّف ، والثالث قاض بخروج الواجب عن كونه واجبا ، لجواز تركه إذن في كلّ زمان ، وما يجوز تركه كذلك فلا يجب فعله قطعا.

وها هنا تقرير ثالث احتمله بعض الفضلاء وهو : أنّه إذا أخّر المكلّف والحال هذه فصادف ما يوجب الفوات ، فلا يخلو إمّا أن يعاقب على ترك الواجب أو لا ، ولا سبيل إلى الأوّل لقبح العقاب على ترك المأمور به في وقت لا يعلمه أو مع الرخصة في التأخير ، ولا إلى الثاني للزوم خروج الواجب عن كونه واجبا ، إذ ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه هو المندوب.

(١) * وربّما يذكر النقض أيضا بالواجبات الموسّعة الممتدّة بامتداد العمر ، فإنّ ثبوتها في الجملة ـ ولو في النذر وشبهه ـ ليس ممّا ينكر وعلى تقديره يلزم الإشكال المذكور بعينه ، بل يتّجه النقض أيضا بالواجبات الموسّعة إلى وقت معيّن إذا صادف المكلّف في أثناء الوقت ما يوجب فواتها ، فيلزم فيه ما ذكر من لزوم خروج الواجب عن كونه واجبا أو التكليف بالمحال ، فصار النقض على الاستدلال من وجوه ثلاث كلّ واحد يصلح جوابا على الاستقلال.

** قيل : بأنّه ما أجاب به العضدي تبعا للحاجبي فتبعهما المصنّف ، وعلى أيّ حال

__________________

(١) وكأنّه أخذه عن التهذيب والمنية. ( منه ).

٢٣٨

إذ يجب حينئذ تعريف الوقت الّذي يؤخّر إليه. وأمّا إذا كان ذلك جائزا فلا ، لتمكّنه من الامتثال بالمبادرة ، فلا يلزم التكليف بالمحال.

__________________

كان فلا ريب أنّ جواز تأخير أداء المأمور به إلى آخر أزمنة الإمكان ـ المقابل لوجوبه فورا ـ إمّا أن يراد به الرخصة في التأخير إلى ذلك الوقت كما هو الظاهر المتبادر منه عند الإطلاق ، أو يراد به الجواز في ضمن الوجوب ، وعلى كلا التقديرين فلهذه القضيّة منطوق ومفهوم من باب مفهوم الغاية ، غير أنّ توهّم إشكال تكليف المحال في الأوّل إنّما يلزم في جانب المفهوم الّذي هو منع التأخير عن آخر أزمنة الإمكان ، ضرورة استلزام المفهوم رفع حكم المنطوق ورفع الجواز بالمعنى الأوّل إنّما هو المنع والتحريم ، ولمّا كان الموضوع في المفهوم مقيّدا وجهالة القيد تستلزم جهالة المقيّد فمن هنا ينشأ توهّم الإشكال من جهة أنّ منع المكلّف عمّا لا يعلمه تكليف له بالمحال على حسب الظاهر.

وفي الثاني إنّما يلزم في جانب المنطوق ، ضرورة أنّ التأخير الواجب مقيّد بغاية مجهولة ، وجهالة الغاية يوجب جهالة المغيّى ، فيكون من باب إلزام المكلّف على ما لا يعلمه وهو تكليف بالمحال.

وأمّا لزومه في جانب المفهوم حينئذ فيه وجهان مبنيّان على كون المراد بالمفهوم هاهنا رفع الإيجاب أو المنع.

وما ذكروه في دفع الاستدلال إنّما يجدي على التقدير الثاني ، وما قرّره المصنّف وغيره من الإشكال عند تقرير الاستدلال إنّما يقتضي ما يدفع الإشكال على التقدير الأوّل كما لا يخفى.

ولقد نبّهناك على تقرير آخر لبيان ذلك الإشكال واقع في كلام بعض الفضلاء ، فما ذكره الجماعة في الجواب إنّما يناسب هذا التقرير كما أشرنا إليه ، لا ما وقع في كلامهم.

وعلى كلّ تقدير فما ذكره المصنّف بقوله : « وأمّا إذا كان جائزا فلا ، لتمكّنه من الامتثال بالمبادرة فلا يلزم التكليف بالمحال » ليس حصرا لطريق الامتثال في المبادرة حتّى يكون التزاما بضدّ المطلوب ، بل هو بيان لما هو لمّ المسألة ولبّ مفاد الصيغة.

ومحصّله : أنّ قضيّة إطلاق الصيغة الكاشف عن وقوع المأمور به على جميع الوجوه وصلوحه لجميع الجهات والفروض كون المكلّف بالنسبة إليه وإلى جميع جهاته ووجوهه مطلق العنان فله أن يبادر في الامتثال وله أن يؤخّر ، وفي تأخيره أيضا له أن يقلّ في

٢٣٩

التأخير وأن يكثر فيه وليس عليه إثم في شيء من ذلك ، ولا بالنسبة إليه ضيق ولا حجر ، فإن بادر في الامتثال أتى بالفعل في أفضل أفراده ، وإن أخّر فيه فإن تيسّر له بعد ذلك وأتى به خرج عن عهدة التكليف وفرّغ ذمّته عن الاشتغال ، سواء سبقه العلم أو الظنّ بالتيسّر أو لا ، وإن أصابه ما يوجب فواته لا شيء عليه من إثم ولا عقاب ، سواء كان مع العلم أو الظنّ بالتيسّر فانكشف الخلاف أولا معهما ، غير أنّهما على التقدير الأوّل يؤكّدان عدم ترتّب الاثم والعقاب ، ولا يلزم من ذلك خروج الواجب عن كونه واجبا ، إمّا لأنّ الواجب ما يستحقّ تاركه العقاب في الجملة ، وهو ما لو تركه لا إلى بدل ولا عن عذر ، والجهل بآخر أزمنة الإمكان يصلح عذرا كما لا يخفى ، والعلم والظنّ المفروضين في الصورة الاولى يؤكّدان ذلك الجهل ، أو لأنّ الموجب لاستحقاق العقاب في الواجب إنّما هو تركه على جهة العصيان والخروج عن طاعة السلطان ، كما أنّ الموجب له في الحرام إنّما هو فعل الحرام على تلك الجهة.

ومن البيّن انتفاء تلك الجهة في مفروض المقام.

نعم لو علم أو ظنّ بعدم التيسّر فاتّفقت المطابقة أثم بالتأخير واستحقّ العقاب بالترك ، لتحقّق ما هو مناط الاستحقاق بكلا وجهيه كما لا يخفى.

وإن اتّفق عدم المطابقة بمصادفة التيسّر بعدهما تعيّن عليه الفعل وخرج عن العهدة بأدائه وإن أثم بالتأخير ، أمّا الإثم فلمخالفته الحكم الظاهري وهو وجوب العمل بالعلم أو الظنّ حيثما حصلا بآخر أزمنة الإمكان الثابت بضرورة العقل وبناء العقلاء في الأوامر العرفيّة ـ بل الشرعيّة أيضا ـ وإجماع العلماء في خصوص الشرعيّة.

وأمّا الخروج عن العهدة فلعدم سقوط التكليف بمجرّد العلم أو الظنّ بعدم التيسّر ، لأنّهما في أمثال المقام ليسا بعين الواقع بل هما مرآة للواقع.

ومن البيّن أنّ الواقع لا يختلف بتخلّف المرآة عنه ولتفصيل أحكام صور المسألة موضع آخر يأتى إن شاء الله تعالى.

ولا يخفى أنّ بهذا التحقيق يرفع الإشكال بحذافيره ، ولا يلزم التكليف بالمحال على تقدير جواز التأخير في شيء من صوره حتّى على التقدير الأوّل من تقرير الإشكال ، فإنّ المنع عن التأخير عن آخر أزمنة الإمكان إنّما هو مع العلم أو الظنّ بالآخر لا مطلقا ، والمحذور إنّما يلزم في صورة الجهل لا مطلقا.

٢٤٠