مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-03-4
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٢٣
١ ـ أن يقع النصّ عليه في القرآن والسنّة النبويّة ، بشخصه وحدوده وتفاصيله وجزئياته ، كالاحتفال بعيدي الفطر والأضحى ، ولاشكّ أنّ هذا الاحتفال قد أمر به الشرع ، فخرج عن كونه بدعة.
٢ ـ أن يقع النصّ عليه على الوجه الكلّيّ ، ويترك انتخاب أساليبه وأشكاله وألوانه إلى الظروف والمقتضيات.
ومثال ذلك : لقد ندب الإسلام إلى تعليم الأولاد ، ولاشكّ أنّ لهذا الأمر الكلّيّ أشكالاً حسب تبدّل الحضارات ، وقد كان التعليم والكتابة سابقاً تتحقّق بالكتابة بالقصب والحبر ، وجلوس التلميذ على الأرض ، إلاّ أنّ ذلك تطوّر الآن إلى حالة جديدة ، تستخدم فيها الأجهزة المتطوّرة ، حيث أصبح الناس يتعلّمون عن طريق الكامبيوتر والأشرطة وغيرها من الوسائل.
ولاشكّ أنّ الإسلام لا يخالف هذا التطوّر ، ولا يمنع من استخدام الأجهزة والأساليب الحديثة ، إنّما هو أمر بالتعليم ، وترك اتخاذ الأساليب إلى الظروف والمقتضيات.
وأمّا معرفة كون العمل غير شرعيّ أي كونه بدعة ، هو من خلال عدم تصريح الشارع المقدّس بكونه من الدين.
البكاء على الميّت :
( كميل ـ عمان ـ ٢٢ سنة ـ طالب جامعة )
لا يتنافى مع الرضا بقضاء الله وقدره :
س : كيف يمكن التوفيق بين التباكي والإبكاء على الميت ، وبين الرضا بقضاء الله وقدره؟
ج : لا علاقة بين الأمرين ، فإنّ الرضا بتقدير الله عزّ وجلّ وقضائه ، لا يتنافى مع البكاء والرثاء على الميّت ، لأنّ البكاء في هذا المقام هو إظهار الحزن على فقد الأحبة مثلاً ، وهذا أمر مسوغ ، بل مرغوب ومستحسن ، إذ فيه تفريغ الهمّ والغمّ ، وتكريم الميّت ، وتجديد العهد معه ، وغيرها من الآداب والشعائر الحسنة والمقبولة عند العقلاء.
وإنّ الرسول صلىاللهعليهوآله في تأبين ابنه إبراهيم قال : ( تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الربّ ، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ) (١).
( زهراء ناصر ـ السعودية ـ .... )
لا يعذّب الميّت ببكاء الحيّ عليه :
س : هل يجوز البكاء على الميّت القريب جدّاً ، مثل الأُم أو الأب أو الابن لمدّة طويلة؟ وهل يعذّب الميّت ببكاء الحيّ؟
وجزاكم الله خير الجزاء ، ودمتم لنا سالمين.
____________
١ ـ الكافي ٣ / ٢٦٢.
ج : بكاء الحيّ على الميّت ـ سواء كان قريباً أو بعيداً ، وسواء كان لمدّة قليلة أو طويلة ـ لا يوجد أيّ دليل على حرمته ، وإنّ ما اشتهر بين الوهابيّة حيث اتخذته ذريعة للطعن في المسلمين ، إنّما هو حديث اشتبه الراوي في نقله ، ولم يفهم مورده ، فإنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله مرّ بقوم يبكون على ميّت لهم ، فقال : ما يغني عنه هذا الذي يبكونه ، وهو يعذّب في قبره ، وقد كان الميّت من غير المسلمين.
وهذا من جملة الموارد التي خطّأت عائشةُ أصحابَ النبيّ صلىاللهعليهوآله في روايتهم ونقلهم للأحاديث النبويّة ، فورد عنها أنّها قالت : يرحم الله عمر قال : يعذّب الميّت بالبكاء عليه , وإنّما كان رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : ذلك اليهوديّ مات وأهله يندبونه ، فقال : ( ما يغني عنه هذا الذي يندبونه ، وهذا هو يعذّب في قبره ) (١).
( محمّد ـ المغرب ـ ٣١ سنة )
في مصادر أهل السنّة :
س : مادام في نظركم لا يوجد أيّ مانع من البكاء على الميّت ، فأين الدليل من الكتاب أو السنّة الشريفة؟ والسلام.
ج : أوضح ما يمكن أن يستدلّ به على جواز البكاء على الميّت فعل النبيّ صلىاللهعليهوآله ، حيث بكى على ابنه ، كما روي في مصادر أهل السنّة (٢).
ولمّا قال له عبد الرحمن بن عوف : تبكي يا رسول الله ، أولم تنه عن البكاء؟ قال صلىاللهعليهوآله : ( إنّما نهيت عن النوح ... صوت عند مصيبة ، خمش وجوه ، وشقّ جيوب ، ورنّة شيطان ، إنّما هذه رحمة ... ) (٣).
____________
١ ـ مسند ابن راهويه ٣ / ٦٢٧.
٢ ـ مسند أحمد ٥ / ٢٠٦ ، صحيح البخاريّ ٢ / ٨٠ و ٨ / ١٦٥ ، صحيح مسلم ٣ / ٣٩ ، سنن النسائيّ ٤ / ٢٢ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٣ / ٢٦٦ ، المصنّف للصنعانيّ ٣ / ٥٥٢.
٣ ـ المصنّف لابن أبي شيبة ٣ / ٢٦٦ ، كنز العمّال ١٥ / ٦١٥ ، الطبقات الكبرى ١ / ١٣٨ ، سبل الهدى والرشاد ١١ / ٢٢ ، المجموع ٥ / ٣٠٧.
وكذلك ، يمكن أن يستدلّ على جواز البكاء على الميّت ، بل استحبابه ، هو ما فعله رسول الله صلىاللهعليهوآله من تحريض النساء على البكاء على حمزة بقوله صلىاللهعليهوآله : ( ولكن حمزة لا بواكي له ) (١).
وقوله صلىاللهعليهوآله : ( على مثل جعفر فلتبك البواكي ) (٢).
وروى الحاكم بسنده عن أبي هريرة قال : خرج النبيّ على جنازة ، ومعه عمر ابن الخطّاب ، فسمع نساء يبكين ، فزجرهن عمر ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ( يا عمر دعهن ، فإنّ العين دامعة ، والنفس مصابة ، والعهد قريب ) ، وقال : ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ) (٣).
ونختم الجواب بما رواه مسلم عن هشام بن عروة عن أبيه قال : ذُكر عند عائشة قول ابن عمر : الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه ، فقالت : رحم الله أبا عبد الرحمن ، سمع شيئاً فلم يحفظه ، إنّما مرّت على رسول الله جنازة يهوديّ ، وهم يبكون عليه فقال : ( أنتم تبكون وإنّه ليعذّب ) (٤).
( مروة ـ مصر ـ .... )
تعليق على الجواب السابق وجوابه :
س : ولمّا قال له عبد الرحمن بن عوف : أو لم تنه عن البكاء؟ قال صلىاللهعليهوآله : ( إنّما نهيت عن النوح ... صوت عند مصيبة ، خمش وجوه ، وشق جيوب ، ورنّة شيطان ، إنّما هذه رحمة ... ) ، ألا ينفي هذا ردّكم بجواز اللطم ، وشقّ
____________
١ ـ سنن ابن ماجة ١ / ٥٠٧ ، مسند أحمد ٢ / ٤٠ ، البداية والنهاية ٤ / ٥٥ ، السيرة النبويّة لابن كثير ٣ / ٩٥ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ٣٨١.
٢ ـ ذخائر العقبى : ٢١٨ ، المصنّف للصنعانيّ ٣ / ٥٥٠ ، شرح نهج البلاغة ١٥ / ٧١ ، الجامع الصغير ٢ / ١٥٩ ، كنز العمّال ١١ / ٦٦٠ ، الطبقات الكبرى ٨ / ٢٨٢ ، أُسد الغابة ١ / ٢٨٩ ، تهذيب الكمال ٥ / ٦١ ، أنساب الأشراف : ٤٣.
٣ ـ المستدرك على الصحيحين ١ / ٣٨١.
٤ ـ صحيح مسلم ٣ / ٤٤.
الجيوب على شهداء كربلاء؟
ج : الرواية ذكرت في الاستدلال على جواز البكاء من طريق أهل السنّة ، ولا يعني هذا أنّنا نلتزم بصحّة كلّ ما جاء في الرواية ، بل ذكرت من باب إلزام المقابل بما الزم به نفسه من صحّة الرواية.
وحتّى مع تسليمنا بالرواية فإنّها عامّة ، وقد استثني منها ما هو متعلّق بأهل البيت عليهمالسلام بروايات رويت عنهم ، خصّصت هذا الحديث العام.
البناء على القبور :
( سيف الإسلام ـ السعودية ـ .... )
ليس فيه محذور :
س : هل يجوز البناء على القبور؟
ج : البناء على قبور الأنبياء والأولياء ليس فيه محذور ، أو نهي صحيح يمنع منه ، وقد حكم أئمّة المسلمين من كلّ المذاهب بجواز البناء على القبور ، إلاّ الشاذّ النادر لرأي ارتآه.
فهذه سيرة السلف خير شاهد على ذلك ، وهذه قبور الأنبياء والأولياء ، وأعلام أئمّة المسلمين من كلّ المذاهب ، تنطق بالشهادة عليه ، في الحجاز ، والعراق ، وإيران ، والشام ، والمغرب ، ومصر ، وغيرها.
وهذا قبر النبيّ صلىاللهعليهوآله قد بُني عليه منذ مئات السنين ، وكان يجدّد البناء عليه بين الحين والآخر ، حتّى وصل إلى ما وصل به الآن.
وأمّا ما استدلّ به على المنع من البناء على القبور ، فهي استدلالات ضعيفة ردّها علماء المسلمين ، والروايات التي استدلّ بها المانع ، إمّا ضعيفة سنداً ، أو لا تنهض من حيث الدلالة على المطلوب.
( عباس ـ البحرين ـ .... )
أدلّة الفريقين على جوازه :
س : ذكرتم فيما سبق أنّ معظم أو أغلب العلماء يرون جواز البناء على القبر ، ولكن لم تذكروا الأدلّة ، فأرجو ذكر أكبر قدر ممكن منها ، من
كتب أهل السنّة فقط ، لعلميّ بكثرتها عند الشيعة.
وقد سمعت أنّ علماء المذهب السلفيّ قد قاموا بهدم جميع القباب في المدينة ، وأرادوا هدم قبّة الرسول أيضاً لولا تدخّل علماء المسلمين ، فهل هذه الأخبار صحيحة؟
أرجو الإجابة على هذه الأسئلة إجابة وافية مع الأدلّة قدر الإمكان ، وفّقكم الله لمراضيه ، وجنّبكم معاصيه.
ج : إنّ الوهابيّة والسلفيّة الذين كفّروا المسلمين بمختلف طوائفهم ، كلّ هؤلاء استعملوا العنف والإرهاب في تحميل عقائدهم الفاسدة على المسلمين ، فهدموا البقيع الذي يحوي قبور أهل البيت عليهمالسلام ، والصحابة ، وأُمّهات المؤمنين ، وأرادوا تخريب قبر النبيّ صلىاللهعليهوآله ، لولا أن وقف المسلمون أمام فعلتهم الشنعاء هذه ، وكذلك حاولوا تخريب قبور الأئمّة في العراق ولم يفلحوا ، نسأل الله أن يكفينا شرّهم.
وهم يوماً بعد آخر في طريقهم للسقوط في مزبلة التاريخ ، وذلك لتشويههم سمعة الإسلام والمسلمين في العالم ، بما يقومون به من أعمال إرهابية مخالفة للشريعة المحمّدية السمحاء.
وأمّا في مقام الاستدلال على جواز بناء القبور ، فتارة يكون الدليل خاصّاً ، وأُخرى عامّاً ، ثمّ أنّ الأصل الإباحة إلاّ إذا ورد دليل تام يحرّمه.
وفيما نحن فيه الأدلّة التي أقاموها على الحرمة غير تامّة ، والدليل الخاصّ ثابت في مصادر الشيعة ، والدليل العام وارد في مصادر الفريقين ، وأصل الإباحة ساري المفعول عند السنّة والشيعة ، لعدم تمامية الأدلّة التي أقاموها على الحرمة ، وفيما يلي التفصيل الذي طلبتموه في المسألة :
الأدلّة على جواز بناء القبور :
١ ـ قوله تعالى : ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ) (١).
____________
١ ـ الكهف : ٢١.
أخبرنا الله تعالى عن المؤمنين الذين قرّروا أن يتّخذوا من مضجع الفتية المؤمنة مسجداً ، يسجدون لله سبحانه فيه ، ويعبدونه وهم مؤمنون وليسوا بمشركين ، ولم يذمّهم الله تعالى على ذلك.
وممّا لاشكّ فيه : أنّ شأن الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام أرفع من شأن أُولئك الفتية ، فإذا جاز بناء قبورهم ، فبالأُولى جواز ذلك بالنسبة إلى الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام.
٢ ـ قوله تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١).
تدلّ هذه الآية على وجوب مودّة قربى الرسول صلىاللهعليهوآله ، وهو وجوب مطلق لم يقيّد بزمان دون آخر ، ولا مكان دون مكان ، ولا كيفية دون أُخرى.
وممّا لاشكّ فيه : أنّ تعهّد قبر شخص ما بالبناء والأعمار والتجديد من جملة المصاديق العرفية لهذه المودّة.
٣ ـ تعظيم شعائر الله تعالى : فإنّ القرآن الكريم ، وإن لم يصرّح على بناء قبور الأنبياء والصالحين بالخصوص ، لكنّه صرّح بتعظيم شعائر الله تعالى ، بقوله : ( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (٢) ، وبقوله : ( وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ) (٣) ، وبقوله : ( لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللهِ ) (٤).
ولاشكّ ولا ريب : أنّ صون المعالم الدينية عن الاندراس ـ كالمشاهد المتضمّنة لأجساد الأنبياء والصالحين ـ وحفظها عن الخراب بناءاً وتجديداً نحو من أنحاء التعظيم ، كما أنّ حفظ المسجد عن الخراب تعظيم له.
ولا يخفى : أنّ الله تعالى جعل الصفا والمروة من الشعائر والحرمات التي يجب احترامها ، فكيف بالبقاع المتضمّنة لأجساد الأنبياء والأولياء ، فإنّها أُولى بأن تكون شعاراً للدين.
____________
١ ـ الشورى : ٢٣.
٢ ـ الحجّ : ٣٢.
٣ ـ الحجّ : ٣٠.
٤ ـ المائدة : ٢.
كيف لا؟ وهي من البيوت التي أذن الله أن تُرفع ، ويذكر فيها اسمه ، فإنّ المراد من البيت في الآية هو : بيت الطاعة ، وكلّ محلّ أُعدّ للعبادة ، فيعمّ المساجد والمشاهد المشرّفة لكونها من المعابد.
ولو لم يكن في الشريعة ما يدلّ على تعمير المساجد ، وتعظيمها واحترامها ، لأغنتنا الآية بعمومها عن الدلالة على وجوب تعمير المسجد وتعظيمه ، وإدامة ذكر الله فيه ، لكونه من البيوت التي أذن الله أن تُرفع.
ومثل المسجد ـ في جهة التعمير والتعظيم والحفظ ـ المشاهد التي هي من مشاعر الإسلام ، ومعالم الدين.
٤ ـ إقرار النبيّ صلىاللهعليهوآله والصحابة على البناء ، فإنّه صلىاللهعليهوآله أقرّ وهكذا أصحابه على بناء الحِجر ، ولم يأمروا بهدمه ، مع أنّه مدفن نبي الله إسماعيل عليهالسلام وأُمّه هاجر ، وهكذا إقرارهم على بناء قبر النبيّ إبراهيم الخليل عليهالسلام ، وبقية قبور الأنبياء والمرسلين حول بيت المقدس.
ثمّ إقرار الصحابة على دفن رسول الله صلىاللهعليهوآله في الحجرة التي توفّي فيها ، وهي مشيّدة بالبناء ، ودُفن الخليفة الأوّل والثاني فيها من بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ولم يأمروا بهدمها ، بل العكس أمرهم بإعمارها دليل قاطع على جواز البناء على القبور.
٥ ـ الروايات الواردة في كتب الفريقين عن رسول الله صلىاللهعليهوآله في الحثّ على زيارة القبور ، وثواب من زار قبره ، وأنّه صلىاللهعليهوآله زار قبر أُمّه ، ورمّم قبرها.
( حسين ـ البحرين ـ ٢١ سنة )
أدلّة المانعين وردّها :
س : ما هي أدلّة الوهابيّة على حرمة البناء على القبور ، وكيف يتمّ الردّ عليها؟
ج : إنّ الأدلّة التي تمسّك بها الوهابيّون على تحريم البناء على القبور ، هي :
١ ـ إجماع العلماء قائم على عدم جواز البناء على القبور.
وفيه : أنّ دعوى الإجماع مرفوضة ، باعتبارها مخالفة لكلمات العلماء الدالّة على جواز البناء ، بل رجحانه ، ومخالفة لعمل المسلمين وسيرتهم القطعية في جميع الأقطار والأمصار ، على اختلاف طبقاتهم ، وتباين نزعاتهم ، من بدء الإسلام إلى يومنا هذا ، من العلماء وغيرهم ، من الشيعة والسنّة وغيرهم ، وأيّ بلاد من بلاد الإسلام ليس لها جبّانة ، فيها القبور المشيّدة؟!
فهؤلاء أئمّة المذاهب : الشافعيّ في مصر ، وأبو حنيفة في بغداد ، ومالك بالمدينة ، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم سامقة المباني ، شاهقة القباب ، وأحمد بن حنبل كان له قبر مشيّد في بغداد ، جرفه شط دجلة حتّى قيل : أطبق البحر على البحر.
وكلّ تلك القبور قد شيّدت ، وبنيت في الأزمنة التي كانت حافلة بالعلماء ، وأرباب الفتوى ، وزعماء المذاهب ، فما أنكر منهم ناكر ، بل كلّ منهم محبّذ وشاكر.
وليس هذا من خواص الإسلام ، بل هو جار في جميع الملل والأديان ، من اليهود والنصارى وغيرهم ، بل هو من غرائز البشر ، ومقتضيات الحضارة والعمران ، وشارات التمدّن والرقي. والدين القويم المتكفّل بسعادة الدارين ، إذا كان لا يؤكّده ويحكمه ، فما هو بالذي ينقضه ويهدمه. ألا يكفي هذا شاهداً قاطعاً ، ودليلاً بيّناً على فساد دعوى الإجماع؟
٢ ـ ما ورد عن الإمام علي عليهالسلام بأنّه قال لابن إلهيّاج الأسديّ : ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله : أن لا أدع تمثالاً إلاّ طمسته ، ولا قبراً مشرّفاً إلاّ سوّيته ) (١).
وفيه : ( ولا صورة في بيت إلاّ طمستها ) (٢).
____________
١ ـ صحيح مسلم ٣ / ٦١ ، مسند أحمد ١ / ٩٦ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ٣٦٩ ، المعجم الصغير ١ / ٥٧.
٢ ـ سنن النسائيّ ٤ / ٨٩ ، السنن الكبرى للنسائيّ ١ / ٦٥٣ ، علل الدارقطنيّ ٤ / ١٨١.
وفيه : بناءً على صحّة هذه الرواية ، فهل معنى التسوية في قوله : ( إلاّ سوّيته ) أي ساويته بالأرض ، بمعنى هدمته؟ أم معنى تسوية الشيء عبارة عن تعديل سطحه ، وتسطيحه في قبال تقعيره ، أو تحديبه أو تسنيمه ، وما أشبه ذلك من المعاني المتقاربة؟
لاشكّ أنّ معناه : إلاّ سطّحته وعدّلته ، وليس معناه : إلاّ هدمته وساويته بالأرض.
وقد فهم مسلم في صحيحه ما فهمناه من الحديث ، حيث عنون الباب قائلاً : ( باب تسوية القبور ) ، ولم يقل مساواة القبور.
فأورد فيه أوّلاً بسنده إلى ثمامة قال : كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس ، فتوفّي صاحب لنا ، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّي ، ثمّ قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يأمر بتسويتها (١).
ثمّ أورد بعده في نفس هذا الباب حديث أبي إلهيّاج المتقدّم : ( ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته ).
وكذا فهم شارحو صحيح مسلم ـ وإمامهم النوويّ ـ ذلك ، حيث قال في شرح تلك العبارة ما نصّه : ( إنّ السنّة أنّ القبر لا يرفع على الأرض رفعاً كثيراً ، ولا يسنّم ، بل يرفع نحو شبر ويسطّح ، وهذا مذهب الشافعيّ ومن وافقه ، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أنّ الأفضل عندهم تسنيمها ) (٢).
ويشهد لأفضلية التسنيم ، ما رواه البخاريّ في صحيحه ، في باب صفة قبر النبيّ وأبي بكر وعمر ، بسنده إلى سفيان التمّار ، أنّه رأى قبر النبيّ صلىاللهعليهوآله مسنّماً (٣).
ولكن القسطلانيّ أحد المشاهير من شارحي البخاريّ قال ما نصّه : مسنّماً
____________
١ ـ صحيح مسلم ٣ / ٦١.
٢ ـ شرح صحيح مسلم ٧ / ٣٦.
٣ ـ صحيح البخاريّ ٢ / ١٠٧.
بضمّ الميم ، وتشديد النون المفتوحة ، أي : مرتفعاً ، زاد أبو نعيم في مستخرجه : وقبر أبي بكر ، وعمر كذلك. واستدلّ به على : أنّ المستحبّ تسنيم القبور ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، والمزني ، وكثير من الشافعيّة.
إلى أن قال القسطلانيّ : ولا يؤثّر في أفضلية التسطيح كونه صار شعاراً لروافض ، لأنّ السنّة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها ، ولا يخالف ذلك قول علي : ( أمرني رسول الله صلىاللهعليهوآله أن لا ادع قبراً مشرّفاً إلاّ سوّيته ) ، لأنّه لم يرد تسويته بالأرض ، وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار ? ونقله في المجموع عن الأصحاب (١).
إذاً ، كلّ كلمات أعاظم المسلمين وأساطين الدين من مراجع الحديث ـ كالبخاريّ ومسلم ـ وأئمّة المذاهب ـ كأبي حنيفة والشافعيّ ومالك وأحمد ـ وأعلام العلماء ، وأهل الاجتهاد ـ كالنوويّ وأمثاله ـ كلّهم متّفقون على مشروعية بناء القبور في زمن الوحي والرسالة ، بل النبيّ صلىاللهعليهوآله بذاته بنى قبر ولده إبراهيم ؛ إنّما الخلاف والنزاع فيما بينهم في أنّ الأفضل والأرجح تسطيح القبر أو تسنيمه؟
فالذاهبون إلى التسنيم يحتجّون بحديث البخاريّ عن سفيان التمّار ، أنّه رأى قبر النبيّ صلىاللهعليهوآله مسنّماً.
والعادلون إلى التسطيح يحتجّون بتسطيح النبيّ قبر ولده إبراهيم ، ولعلّ هذا الدليل هو الأرجح في ميزان الترجيح والتعديل ، ولا يقدح فيه أنّه صار من شعار الروافض وأهل البدع ، كما قال القسطلانيّ.
نعم ، لو أبيت إلاّ عن حمل ( سوّيته ) على معنى ساويته بالأرض ، حينئذ تجيء نوبة المعارضة ، ويلزم الصرف والتأويل ، وحيث أنّ هذا الخبر بانفراده لا يكافئ الأخبار الصحيحة الصريحة الواردة في فضل زيارة القبور ، ومشروعية
____________
١ ـ إرشاد الساري ٣ / ٥٥٩.
بنائها ، حتّى أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله سطّح قبر إبراهيم ، فاللازم صرفه إلى أنّ المراد : لا تدع قبراً مشرّفاً قد اتخذوه للعبادة إلاّ سوّيته وهدّمته.
ويدلّ على هذا المعنى الأخبار الكثيرة الواردة في الصحيحين ـ البخاريّ ومسلم ـ من ذمّ اليهود والنصارى والحبشة ، حيث كانوا يتّخذون على قبور صلحائهم تمثالاً لصاحب القبر ، فيعبدونه من دون الله تعالى.
أمّا المسلمون من عهد النبيّ صلىاللهعليهوآله إلى اليوم ، فليس منهم من يعبد صاحب القبر ، وإنّما يعبدون الله وحده لا شريك له في تلك البقاع الكريمة ، المتضمّنة لتلك الأجساد الشريفة.
وبكلّ فرض وتقدير ، فالحديث يتبرّأ أشدّ البراءة من الدلالة على جواز هدم القبور ، فكيف بالوجوب. والأخبار التي ما عليها غبار ناطقة بمشروعية بنائها وإشادتها ، وأنّها من تعظيم شعائر الله.
ولتتميم الفائدة ، ننقل ما قاله الشيخ كاشف الغطاء في كتابه منهج الرشاد :
والأصل في بناء القباب وتعميرها ما رواه البنانيّ ـ واعظ أهل الحجاز ـ عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه الحسين ، عن أبيه علي عليهالسلام ، أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال له : ( لتقتلن في أرض العراق ، وتدفن بها ، فقلت : يا رسول الله ، ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟ فقال لي : يا أبا الحسن ، إنّ الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنّة ، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه ، وصفوة من عباده تحنّ إليكم ، ويعمّرون قبوركم ، ويكثرون زيارتها ، تقرّباً إلى الله تعالى ، ومودّة منهم لرسوله ... ) (١).
____________
١ ـ منهج الرشاد : ٥٧٩.
البيعة :
( محمّد ـ البحرين ـ .... )
بيعة الناس لأمير المؤمنين :
س : نشكر لكم هذه الجهود لنشر معالم أهل البيت عليهمالسلام ، ووفّقكم الله لكلّ خير.
سؤالي هو عن خطبة وجدتها في كتاب نهج البلاغة ، يقول الإمام علي عليهالسلام بالشورى ، وهذه هي : ومن كتاب له عليهالسلام إلى معاوية :
( إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَعُثْمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ ، وَإنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأنصار ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُل وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لله رِضىً ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْن أَوْ بِدْعَة رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ منه ، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَوَلاَّهُ اللهُ مَا تَوَلَّى.
وَلَعَمْرِي ، يَا مُعَاوِيَةُ ، لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ ، وَلَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَة عَنْهُ ، إِلاَّ أَنْ تَتَجَنَّى ; فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ! وَالسَّلاَمُ ) (١).
فما هو ردّكم عليها؟ ولكم منّي كلّ شكر وامتنان على ما تقدّموه.
ج : لقد نقل لنا التاريخ : أنّ الإمام علي عليهالسلام لم يمدّ يده إلى البيعة ، إلاّ بعد إلحاح الجماعة ـ من المهاجرين والأنصار وغيرهم ـ والصحابة في الطليعة ، وفيهم طلحة والزبير.
____________
١ ـ شرح نهج البلاغة ١٥ / ٧٨.
وبعد أن تمّت البيعة للإمام عليهالسلام كتب لمعاوية رسالة ، مع جرير بن عبد الله البجلي ، جاء فيها : ( إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَعُثْمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ ) ، فكأنّما يريد عليهالسلام أن يقول له : يا معاوية أنت تعترف بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، لأنّها تمّت ببيعة المهاجرين والأنصار ، وعلى ما تعترف به وتذهب إليه ، فقد بايعني القوم ، فلزمتك بيعتي وأنت بالشام ، فبايع كما بايع القوم.
( فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ ) ويرفض ويعترض إذا تمّت البيعة من أكثرية الصحابة وغيرهم.
( وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ ) بيعة الإمام الذي بايعه القوم.
( وَإنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأنصار ) ، فكأنّما يريد عليهالسلام أن يقول له : يا معاوية ألست تعتقد بالشورى وتحتجّ بها؟ ألست تعتقد بالإجماع وتحتجّ به؟ فقد بُويعت بمشورة المهاجرين والأنصار ، وقد تمّت البيعة لي بإجماع المسلمين.
( فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُل وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لله رِضىً ) هذا ما تعتقده ، فلماذا لا تبايع؟ وكما يقول المثل : ما عدا ممّا بدا؟
إذاً ، قال عليهالسلام هذا الكلام على مقتضى عقيدة القوم ، ومن باب ( ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم ) ، وإلاّ فإمامته كانت ثابتة بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله بلا فصل ، بالنصّ الصادر منه صلىاللهعليهوآله على ما أفاضت إليه الأدلّة اليقينية المستفيضة في مظانّها.
( عبد الله آقا ـ الكويت ـ .... )
تخلّف الإمام علي عنها :
س : موضوع السؤال : تخلّف علي عليهالسلام عن البيعة.
عن محمّد بن سيرين قال : نبّئت أنّ عليّاً أبطأ عن بيعة أبي بكر ، فلقيه أبو بكر فقال : أكرهت إمارتي؟ قال : ( لا ، ولكن آليت بيمين أن لا أرتدي
بردائي إلاّ إلى الصلاة ، حتّى أجمع القرآن ) (١).
فما ردّكم على هذا الحديث الذي يروونه السنّة ، ويحتجّون به علينا؟
وشكراً لكم على ما تبذلونه من جهود في خدمة الإسلام والمسلمين والمؤمنين.
ج : أوّلاً : أنّ الحديث لم يثبت عندنا ، بل وحتّى على مبانيهم الرجالية ، فإنّه غير صحيح.
ثانياً : يعارض هذا الحديث الأحاديث الكثيرة ، التي صرّحت بأنّ تخلّف الإمام علي عليهالسلام عن البيعة ، إنّما كان يرى نفسه أحقّ من أبي بكر بالخلافة.
ثالثاً : نسألهم ونوجّه الخطاب إليهم : أين القرآن الذي جمعه علي؟
رابعاً : يعارضه أيضاً كلّ ما ورد في مصادر القوم ـ وهي كثيرة ـ من هجوم القوم على دار علي عليهالسلام لإجباره على البيعة ، ومن له أدنى معرفة بالتاريخ يعرف جلياً ماذا حدث آنذاك ، وكان بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله بأيّام.
( علي بن علي الفرزدق ـ أمريكا ـ .... )
لم بايع الإمام علي الخلفاء :
س : هل بايع الإمام علي الخلفاء أبا بكر وعمر وعثمان؟ وما نوع العلاقة التي كانت بين الإمام علي والخلفاء المذكورين أعلاه؟ وهل كان الإمام علي يخالط ويصلّي ، ويأكل ويصاهر مع الخلفاء المذكورين؟
أرجو أن تجيبوني ، وشكراً.
ج : اتفقت النصوص الإسلاميّة ـ أعمّ من شيعية وسنّية ـ على عدم مبادرة أمير المؤمنين عليهالسلام ، وكلّ بني هاشم ـ نساءً ورجالاً ـ وجمع من كمّل الصحابة إلى البيعة ، ولا نرى المسألة بحاجة إلى إثبات ، كما ولم تكن المدّة قصيرة ، والبيعة لا تحتاج إلى برهة طويلة ، ويحقّ لنا أن نتساءل لماذا؟
____________
١ ـ الطبقات الكبرى ٢ / ٣٣٨.
ثمّ حصلت بيعة صورية تحت ظروف قاسية من وجهتنا ، وتحت ضغوط قسرية ، وهذا أيضاً مسلّم.
وبعد هذا وذاك فلربما حصلت بيعة ، أو مسحُ أبي بكر يده على يد أمير المؤمنين عليهالسلام المقبوضة ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا شوهتها لنا النصوص ، وأحاطتها بنوع من التكتّم والغموض.
وبأيّ دليل كان ذاك أو فرضناه ، ممّا صرّح به أمير المؤمنين عليهالسلام من خوف الفتنة ، أو ارتداد المسلمين ، أو غيرها.
نقول بعد كلّ هذا : لا معنى لمثل أبي الحسن عليهالسلام أن ينقض ما تعهّد به!! هذا بالنسبة إلى أبي بكر خاصّة.
أما عمر ، فالمسألة تنصيص ، ولم تكن ثمّة بيعة ، ولا شورى ، ولا انتخاب ، ولا .. ، والعجب أنّ التنصيص على أمير المؤمنين عليهالسلام رفضه القوم من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقبلوه من أبي بكر على عمر!
وأمّا عثمان ، فقد أجمع المؤرّخون بأنّ المسألة كانت إكراه ، وسيوف مرفوعة على الباب ، لا تختلف بتاتاً عن السقيفة!!
وأمّا العلاقة بينه عليهالسلام مع الخلفاء ، فكانت بحسب الظاهر مسألة رفع جهلٍ عنهم ، وحماية عن الشريعة ، أو فكّ غموض ، أو ما شاكل ذلك ، كوظيفة أي عالم أمام الجهّال ، وكلّ حريص على دينه ورسالته مقابل من يريد الكيد بها ، أو تحريفها.
ومقولة الخليفة الثاني المستفيضة : ( لولا علي لهلك عمر ) (١) مشهورة ، ولا نعرف مقولة معاكسة : لولا عمر أو غيره لهلك ....
ويكفي ـ حسب تصوّرنا ـ لمن درس حياة أمير المؤمنين عليهالسلام ، أنّه لو كان له ثمّة
____________
١ ـ تأويل مختلف الحديث : ١٥٢ ، شرح نهج البلاغة ١ / ١٨ و ١٤١ و ١٢ / ١٧٩ و ٢٠٥ ، نظم درر السمطين : ١٣٠ ، جواهر المطالب ١ / ١٩٥ و ٢٩٦ ، ينابيع المودّة ١ / ٢١٦ و ٢٢٧ و ٣ / ١٤٧.
اعتقاد بصحّة ما عليه القوم ، لكان لا أقلّ قائد جيوشهم ، ومنظّم كتائبهم ، كما كان على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ولمّا انزوى عن الساحة ، واقتصر على اليسير من المعاشرة التي تمليها الضرورة والحاجة ، والمخالطة أو المؤاكلة وغيرهما ، فهي لا تدلّ على شيء ، إذ كانت مع اليهود والنصارى آنذاك.
كما لا نعرف له عليهالسلام مصاهرة معهم ، إلاّ قصّة تزويج ابنته أُمّ كلثوم من عمر ، ولنا فيها كلام ، كما أنّك تدرك أنّ البحث لا تسعه سطور.
وفّقنا الله لمراضيه ، ونوّر قلوبنا بما يرضيه ، وفتح أبصارنا وأسماعنا للأخذ بما فيه خير ديننا ودنيانا.
( .... ـ سنّي ـ .... )
لم تحصل من الإمام علي :
س : أنتم الشيعة تقولون : أنّ عليّاً كان أحقّ من أبي بكر ، الذي قال عنه الرسول بما معناه : أنّه لا يوجد بعد الأنبياء خير من أبي بكر ، وكان أحقّ للخلافة من عمر وعثمان ، هكذا تدّعون ، فإذا كان الأمر صحيحاً ، فلما بايع علي هؤلاء الخلفاء الثلاثة؟ صحيح تأخّر في بيعة أبي بكر عدّة أشهر ، ولكنّه بايع ، فما تقولون في ذلك؟
ج : لا يخفى عليكم أنّ الشيعة إنّما تقول بثبوت الإمامة والخلافة بعد النبيّ بلا فصل لإمامنا أمير المؤمنين علي عليهالسلام ، وأنّه أفضل من الصحابة كلّهم للأدلّة الكثيرة على ذلك من القرآن الكريم ـ كآية الولاية ـ وهي النازلة في قضية تصدّقه أثناء الركوع ، وهي قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١) ـ وغيرها من الآيات النازلة في حقّه عليهالسلام.
____________
١ ـ المائدة : ٥٥.
ومن المقطوع به من السنّة الشريفة ، كحديث الغدير المتواتر ، وكحديث الطير. أنّ أحبّ الخلق إلى الله تعالى أعظمهم ثواباً عند الله تعالى ، وأن أعظم الناس ثواباً لا يكون إلاّ لأنّه أشرفهم أعمالاً ، وأكثرهم عبادة لله تعالى ، وفي ذلك برهان على فضل علي عليهالسلام على الخلق كلّهم سوى النبيّ صلىاللهعليهوآله.
وأمّا ما قلته في حقّ أبي بكر عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه قال بما معناه : لا يوجد أحد بعد الأنبياء خير من أبي بكر ، فهذا غير ثابت في مصادرنا ، بل وغير ثابت عند أهل السنّة أيضاً.
وأمّا قولك : أنّ عليّاً عليهالسلام قد بايع أبا بكر بعد مدّة ، فهذا أوّل الكلام ، حيث الثابت عند محقّقي الشيعة ـ كما نصَّ عليه الشيخ المفيد قدسسره ـ أنّه عليهالسلام لم يبايع ساعة قط ، وقال في شرح ذلك :
( فممّا يدلّ على أنّه لم يبايع البتة ، أنّه ليس يخلو تأخّره من أن يكون هدى ، وتركه ضلالاً ، أو يكون ضلالاً ، وتركه هدى وصواباً ، أو يكون صواباً ، وتركه صواباً ، أو يكون خطأً ، وتركه خطأً ، فلو كان التأخّر ضلالاً وباطلاً ، لكان أمير المؤمنين عليهالسلام قد ضلّ بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله بترك الهدى الذي كان يجب المصير إليه ، وقد أجمعت الأُمّة على أنّ أمير المؤمنين عليهالسلام لم يقع منه ضلال بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ولا في طول زمان أبي بكر ، وأيّام عمر وعثمان ، وصدراً من أيّامه حتّى خالفت الخوارج عند التحكيم ، وفارقت الأُمّة ، وبطل أن يكون تأخّره عن بيعة أبي بكر ضلالاً.
وإن كان تأخّره هدى وصواباً ، وتركه خطأً وضلالاً ، فليس يجوز أن يعدل عن الصواب إلى الخطأ ، ولا عن الهدى إلى الضلال ، لاسيّما والإجماع واقع على أنّه لم يظهر منه ضلال في أيّام الثلاثة الذين تقدّموا عليه ، ومحال أن يكون التأخّر خطأً ، وتركه خطأً للإجماع على بطلان ذلك أيضاً ، ولما يوجبه القياس من فساد هذا المقال.
وليس يصحّ أن يكون صواباً ، وتركه صواباً ، لأنّ الحقّ لا يكون في