قبله ، لان الله تعالى رزقه من يوسف أحسن الناس وأجملهم وأكملهم علما وفضلا وأدبا و عفافا ، ثم اصيب به أعجب مصيبة وأطرفها ، لانه لم يمرض بين يديه مرضا يؤول إلى الموت فيسليه عنه تمريضه له ثم يئس منه بالموت ، بل فقده فقدا لا يقطع معه على الهلاك فييأس ولا يجد أمارة على حياته وسلامته فيرجو ويطمع ، فكان متردد الفكر بين يأس وطمع وهذا أغلظ ما يكون على الانسان وأنكى لقلبه ، وقد يرد على الانسان من الحزن ما لايملك رده ولا يقوى على دفعه ، ولهذا لم يكن أحد منهيا عن مجرد الحزن والبكاء ، وإنما نهي عن اللطم والنوح وأن يطلق لسانه بما سخط ربه ، وقد بكى نبينا (ص) على ابنه إبراهيم عند وفاته وقال : « العين تدمع ، والقلب يخشع ، ولا نقول ما يسخط الرب » وهو عليه الصلاة والسلام القدوة في جميع الآداب والفضائل ; على أن يعقوب عليهالسلام إنما أبدى من حزنه يسيرا من كثير ، وكان ما يخبه (١) ويتصبر عليه ويغالبه أكثر وأوسع مما أظهره ، وبعد فإن التجلد على المصائب وكظم الحزن من المندوب إليه ، وليس بواجب لازم ، وقد يعدل الانبياء عليهمالسلام عن كثير من المندوبات. انتهى كلامه رفع الله مقامه. (٢)
أقول : قد حققنا في بعض كتبنا أن محبة المقربين لاولادهم وأقربائهم وأحبائهم ليست من جهة الدواعي النفسانية والهشوات البشرية ، بل تجردوا عن جميع ذلك ، و أخلصوا حبهم وودهم وإرادتهم لله ، فهم ما يحبون سوى الله تعالى ، وحبهم لغيره تعالى إنما يرجع إلى حبهم له ، ولذا لم يحب يعقوب (ع) من سائر أولاده مثل ما أحب يوسف (ع) وهم لجهلهم بسبب حبه له نسبوه إلى الضلال وقالوا : نحن عصبة ونحن أحق بأن نكون محبوبين له ، لانا أقوياء على تمشية ما يريده من امور الدنيا ، ففرط حبه ليوسف إنما كان لحب الله تعالى له واصطفائه إياه ، ومحبوب المحبوب محبوب ، فإفراطه في حب يوسف لا ينافي خلوص حبه لربه ، ولا يخل بعلو قدره ومنزلته عند سيده ، (٣) وسيأتي الكلام
__________________
(١) هكذا في النسخ ، وفى المصدر : وكان ما يخفيه.
(٢) تنزيه الانبياء : ٤٦ ـ ٤٧. م
(٣) وهو وجه وجيه لولا ما تقدم من الاخبار الدالة على مؤاخذته تعالى على كثرة جزعه وبكائه.