والجواب الآخر أن يكون ذلك جاريا مجرى التمكين والتكليف الشاق ، لان هؤلاء الاخوة متى امتنعوا من حسد أخيهم والبغي عليه والاضرار به وهو غير مفضل عليهم ولا مقدم لايستحقون من الثواب ما يستحقونه إذا امتنعوا من ذلك مع التقديم والتفضيل فأراد الله تعالى منهم أن يمتنعوا على هذا الوجه الشاق ، وإذا كان مكلفا على هذا الوجه فلا استفساد في تمييله طباع أبيهم إلى محبة يوسف عليهالسلام لان بذلك ينتظم هذا التكليف ويجري هذا الباب مجرى خلق إبليس مع علمه تعالى بضلال من ضل عند خلقه ممن لولم يخلقه لم يكن ضالا ، ومجرى زيادة الشهوة فيمن يعلم تعالى أنه عند هذه الزيادة يفعل قبيحا لولاها لم يفعله.
ووجه آخر في الجواب عن أصل المسألة وهو أنه يجوز أن يكون يعقوب عليهالسلام كان مفضلا ليوسف عليهالسلام في العطاء والتقريب والترحيب والبر الذي وصل إليه من جهته ، وليس ذلك بقبيح لانه لا يمتنع أن يكون يعقوب عليهالسلام لم يعلم أن ذلك يؤدي إلى ماأدى إليه ، (١) ويجوز أن يكون رأى من سيرة إخوته وسدادهم وجميل ظاهرهم ما غلب على ظنه أنهم لا يحسدونه وإن فضله عليهم ، فإن الحسد وإن كان كثيرا ما يكون في الطباع فإن كثيرا من الناس يتنزهون عنه ويتجنبونه ، ويظهر من أحوالهم أمارت يظن معها بهم ما ذكرناه ، وليس التفضيل لبعض الاولاد على بعض في العطاء محاباة؟ لان لمحاباة هي مفاعلة من الحباء ، ومعناها أن تحبو غيرك ليحبوك ، وهذا خارج عن معنى التفضيل بالبر الذي لا يقصد به إلى (٢) ماذكرناه ، فأما قولهم : « إن أبانا لفي ضلال مبين » فلم يريدوا به الضلال عن الدين ، وإنما أرادوا الذهاب عن التسوية بينهم في العطية ، لانهم رأوا أن ذلك أصوب في تدبيرهم ، وأصل الضلال هو العدول ، وكل من عدل عن شئ وذهب عنه فقد ضل ، ويجوز أيضا أن يريدوا بذلك الضلال عن الدين ، لانهم خبروا عن اعتقادهم ، وقد يجوز أن يعتقدوا في الصواب الخطاء.
فإن قيل : كيف يجوز أن يقع من إخوة يوسف هذا الخطاء العظيم والفعل القبيح
__________________
(١) ظاهر قول يعقوب فيما حكى الله عنه خلاف ذلك ، حيث هو يقول : « يا بنى لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكدوا لك كيدا ان الشيطان للانسان عدو مبين » وظاهره انه كان يعلم من حالهم أنهم يكيدونه لوقص عليهم رؤياه ، الا أن يقال انه استحاط في ذلك.
(٢) المصدر خال من كلمة « إلى ». م