والأخرى معلومة ؛ لأنّ هذا التفصيل مبني على الدقّة العقليّة البالغة والتي يتغافل عنها العرف ولا يدركها.
والحاصل : أنّ العرف عند ما ينظر إلى الفرد بما هو كذلك من دون نظر إلى خصوصيّاته ، إمّا أن يحكم بأنّه مورد للبراءة أو مورد للتنجيز ولا يفصّل بين الأمرين.
وإن كان المقصود التعارض بين الأصول المؤمّنة الشرعيّة خاصّة فهو صحيح ، ولكن كيف يرتّب على ذلك تنجّز التكليف بالاحتمال مع أنّ الاحتمال مؤمّن عنه بالبراءة العقليّة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان؟
الاحتمال الثاني : أن يكون المقصود من تعارض الأصول تعارض الأصول الترخيصيّة الشرعيّة فقط ، كالبراءة الشرعيّة أو أصالة الحلّ أو أصالة الطهارة أو الاستصحاب النافي للتكليف.
وهذا صحيح لما ذكرناه من أنّ هذه الأصول الشرعيّة تابعة لمقدار الظهور العرفي من دليلها ، والظهور العرفي لا ينظر إلى الطرف بما هو مركّب من خصوصيّتين إحداهما معلومة والأخرى مشكوكة ، وإنّما ينظر إلى الطرف بما هو طرف ، وحينئذ تجري الأصول الترخيصيّة الشرعيّة بلحاظ كلّ طرف وتتعارض ، ومقتضى التعارض التساقط.
إلا أنّه بعد التساقط لا ينتهي الأمر إلى التنجيز العقلي كما هو المدّعى في هذا التقريب ، وإنّما تجري هنا البراءة العقليّة ؛ لأنّ هذا التقريب مبني على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعندئذ يجري الكلام المتقدّم من التبعيض.
وصفوة القول : أنّه على هذا المسلك لا موجب لافتراض التعارض في البراءة العقليّة ، بل لا معنى لذلك ؛ إذ لا يعقل التعارض بين حكمين عقليّين ، فإن كان ملاك حكم العقل وهو عدم البيان تامّا في كلّ من الطرفين استحال التصادم بين البراءتين ، وإلا لم تجر البراءة ؛ لعدم المقتضي لا للتعارض.
وصفوة القول : أنّه يمكننا القول كاعتراض على المقدّمة الثالثة بأنّ الأصول الترخيصيّة المتعارضة إن كان المقصود بها الأصول الترخيصيّة العقليّة بما فيها البراءة العقليّة أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يمكن تصوّر التعارض ؛ وذلك لأنّ الأحكام العقليّة معلولة لموضوعاتها ، فإن أدرك العقل ثبوت الموضوع حكم بالبراءة والترخيص.