«
أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وهو قائم في محرابه ، قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : يا دنيا يا دنيا ، إليك عني . أبي تعرضتِ ؟ أم إلي تشوقت ؟ لا حان حينك ، هيهات ؛ غري غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آهٍ آه من قلة الزاد ، وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد ! »
وعن
نوف البكالي ، قال : رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة وقد خرج من فراشه فنظر في النجوم ، فقال لي : يا نوف ، أراقد أنت أم رامق ؟
فقلت
: بل رامق .
قال
: يا نوف ، طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها طيباً ، والقرآن شعاراً ، والدعاء دثاراً ، ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح .
ولعل
القارىء الكريم يستغرب من هذا العرض الطويل ـ وربما اعتبره خروجاً عن حدود الموضوع ـ زهد سلمان ـ لكن الأمر عكس ذلك ، فأنا أجدني مضطراً لعرض هذا وأكثر منه ، لأن ما يروى في زهد سلمان رضي الله عنه يفوق حد الوصف إلى درجةٍ عالية قد يرفضها الكثيرون ، أو على الأقل يعتبرونها ضرباً من الشذوذ ومدعاة للانتقاص .
ولكن
حين يقارن الباحث والقارىء بين الزهد بالنسبة للأنبياء والأوصياء ، وزهد سلمان الذي كان كما يقال ( قد أدرك أوصياء المسيح ) يهون عليه الأمر ويتقبله بكل إطمئنان وبكل إجلال وإكبار ، وإليك بعضاً مما ورد عن زهده وتعبده .
قال
ابن أبي الحديد ، قال أبو وائل : ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان
__________________