غذاه ، ولا دفع
أذى ، ولا استجلاب منفعة ، ولا دفع مضرّة ، فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه
كما يغذو الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاءه حتّى اذا كمل خلقه واستحكم بدنه ،
وقوي أديمه على مباشرة الهواء وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق
بامّه فأزعجه أشدّ إزعاج وأعنفه حتّى يولد ، واذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه
من دم امّه الى ثديها ، فانقلب الطعم واللون الى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشدّ
موافقة للمولود من الدم ، فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمّظ وحرّك
شفتيه طلبا للرضاع ، فهو يجد ثدي أمّه كالأداوتين المعلّقتين
لحاجته إليه ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء ليّن الأعضاء
، حتّى اذا تحرّك واحتاج الى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من
الأسنان والأضراس ، ليمضغ بها الطعام فيلين عليه وتسهل له إساغته ، فلا يزال كذلك
حتّى يدرك ، فاذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعزّ
الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبي وشبه النساء ، وإن كانت انثى يبقى وجهها نقيّا من
الشعر لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرّك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه.
اعتبر يا مفضّل
فيما يدبر الانسان في هذه الأحوال المختلفة ، هل ترى يمكن أن يكون بالإهمال؟ أفرأيت
لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ، ألم يكن سيذوي ويجفّ كما يجفّ النبات اذا
فقد الماء؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ، ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤد في
الأرض؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته ، ألم يكن سيموت جوعا أو يغتذي بغذاء لا
يلائمه ولا يصلح عليه بدنه؟
__________________