توضيح ذلك : أنا من جهة تعلق وجودنا بالطبيعة الجسمانية وقطوننا المعجل في الدنيا المادية ألفنا من كل معنى مصداقه المادي ، واعتدنا بالأجسام والجسمانيات فإذا سمعنا كلام واحد من الناس الذين هم أمثالنا يحكي عن حال أمر من الامور وفهمنا منه معناه حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق والنظام الحاكم فيه لعلمنا بأنه لا يعني إلا ذلك لكونه مثلنا لا يشعر إلا بذلك ، وعند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق يحكم في المفهوم فربما خصص به العام أو عمم به الخاص أو تصرف في المفهوم بأي تصرف آخر وهو الذي نسميه بتصرف القرائن العقلية غير اللفظية .
مثال ذلك أنا إذا سمعنا عزيزاً من أعزتنا ذا سؤدد وثروة يقول : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ، وتعقلنا مفهوم الكلام ومعاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق على المصداق ، أن له أبنية محصورة حصينة تسع شيئاً كثيراً من المظروفات فان الخزانة هكذا تتخذ إذا اتخذت ، وأن له فيها مقداراً وفراً من الذهب والفضة والورق والأثاث والزينه والسلاح ، فإن هذه الامور هي التي يمكن أن تخزن عندنا وتحفظ حفظاً ، وأما الأرض والسماء والبر والبحر والكوكب والإنسان فهي وإن كانت أشياء لكنها لا تخزن ولا تتراكم ، ولذلك نحكم بأن المراد من الشيء بعض من أفراده غير المحصورة ، وكذا من الخزائن قليل من كثير فقد عاد النظام الموجود في المصداق وهو أن كثيراً من الأشياء لا يخزن ، وأن ما يختزن منها إنما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة والغارة أوجب تقييداً عجيباً في إطلاق مفهوم الشيء والخزائن .
ثم إذا سمعنا الله تعالى ينزل على رسوله قوله : « وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ » الحجر ـ ٢١ ، فإن لم يرق أذهاننا عن مستواها الساذج الأولي فسرنا كلامه بعين ما فسرنا به كلام الواحد من الناس مع أنه لا دليل لنا على ذلك البتة فهو تفسير بما نراه من غير علم .
وإن رقت أذهاننا عن ذلك قليلاً ، وأذعنا
بأنه تعالى لا يخزن المال وخاصة إذا سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية : وما تنزله إلا بقدر معلوم ، ويقول أيضاً : « وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
» الجاثية ـ ٥ ، حكمنا بأن المراد بالشيء الرزق من الخبز والماء وأن المراد بنزوله نزول المطر لأنا لا نشعر بشيء ينزل
من السماء غير المطر فاختزان كل شيء عند الله ثم نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر