قلت : بين الآيتين فرق من حيث المقام : فإن المقام فيما نحن فيه : مقام ذم هذه الشهوات المحبوبة للناس لصرفها وإلهائها الناس عما لهم عند الله ، وحثهم على الإعراض عنها والتوجه الى ما عند الله سبحانه بخلاف تلك الآية فإنها مسوقة لبيان أن هذه النعم زينت للإنسان وأنها للمؤمنين في هذه الدنيا بالاشتراك في الدنيا وبالاختصاص في الآخره ، ولذلك بدل لفظ الناس هناك بلفظ العباد . وعدت هذه الزينة رزقاً طيباً .
وان قلت : إن التزيين علق في الآية على حب الشهوات دون نفس الشهوات ، ومن المعلوم أن تزيين الحب للانسان وجذبه لنفسه وجلبه لقلبه أمر طبيعي وخاصة ذاتية له فيؤل معنى تزيين الحب للناس الى جعل الحب مؤثراً في قلوبهم أي خلق الحب في قلوبهم ، ولا ينسب الخلق إلا الى الله سبحانه فهو الفاعل في قوله : زين .
قلت : لازم ما ذكرناه من القرائن أن يكون المراد بتزيين الحب جعل الحب بحيث يجذب الناس الى نفسه ويصدهم عن غيره فإن الزينة هي الأمر المطلوب الجالب الذي ينضم الى غيره ليجلب الانسان الى ذلك الغير بتبع جلبه الى نفسه كما أن المرأة تتزين بضم امور تستصحب الحسن والجمال الى نفسها ليقصدها الرجل بها فالمقصود هو بالحقيقة تلك الامور والمنتفع من هذا القصد هي المرأة ، وبالجملة فيؤل معنى تزيين الحب للناس الى جعله في أعينهم بحيث يؤدي الى التوله فيه والولوع في الاشتغال به لا أصل تأثير الحب كما هو الظاهر من معنى قوله تعالى : « فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا » مريم ـ ٥٩ ، ويؤيد هذا المعنى ما سيأتي من الكلام في العد الواقع في قوله : من النساء والبنين والقناطير ، على أن لفظ الشهوات ربما لم يخل عن الدلالة بالشغف والولوع وإن كان بمعنى المشتهيات .
قوله
تعالى : من النساء والبنين والقناطير المقنطرة
من الذهب والفضة « إلخ » ، النساء جمع لا واحد له من لفظه ، والبنين جمع ابن وهو ذكور الأولاد بواسطة أو بلا واسطة ، والقناطير جمع قنطار وهو ملأ مسك ذهباً أو هو المسك المملوء ، والمقنطرة اسم مفعول مشتق من القنطار وهو جامد ، وهذا من دأبهم يعتبرون في الجوامد شيئاً من النسب يكسب بها معنى مصدرياً ثم يشتقون منه المشتقات كالباقل والتامر والعطار لبائع البقل والتمر والعطر ، وفائدة توصيف الشيء بالوصف المأخوذ من لفظه تثبيت معناه له ، والتلميح الى أنه واجد لمعنى لفظه غير فاقده كما يقال : دنانير مدنرة ودواوين