فيها إذْ يَتنازَعُونَ بَيْنَهُم أمْرَهُم فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَبُّهُم أعْلَمُ بِهِم قَالَ الّذينَ غَلَبُوا عَلَى أمْرِهِم لَنَتَّخِذَنّ عَلَيْهِم مَسْجداً ) (١).
فالآية صريحة في أن القوم بعد ما عثروا عليهم اختلفوا في كيفية تكريمهم وتعظيمهم على قولين :
١ ـ البناء على قبورهم « ابنوا عليهم بنياناً ».
٢ ـ بناء المسجد على قبورهم « لنتخذن عليهم مسجداً ».
وكلتا الطائفتين يريدان التعظيم والتكريم على اختلاف منهجهم ، والمعروف بين المفسرين أنّ القائلين بالقول الأول كانوا هم المشركين ، وأنّ القائلين بالقول الثاني هم الموحدون والمسلمون ، وسواء أثبت ذلك أم لا فإنّ العاثرين عليهم اختلفوا في كيفية تكريمهم وتعظيمهم ، وعلى كل تقدير فالآية حجة على جواز بناء المسجد على القبور أولا ، وعلى جواز بناء المسلمين عليها ثانياً ، وذلك لأنّ القرآن يذكر القولين من دون رد وطعن ، ولو كان كل من القولين ـ وخصوصاً القول الثاني ـ على خلاف الهداية وفي جانب الضلالة ، لأشار إلى ردّه وطعنه ، وليس القرآن كتاب قصة وإنما هو كتاب هداية ، فلو كان يذكر شيئاً من الأُمم السالفة ، فإنما هو للعبرة والاعتبار ، ولأجل ذلك كثيراً ما يردّ عليهم بعد نقل كلامهم ، فسكوت القرآن تجاه هذين القولين ونقلهما عن القوم بصورة كونه عملا مستحسناً ، أقوى دليل على جواز العمل المذكور في الأُمة المحمدية.
قال الطبري في تفسير قوله تعالى : ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِه إلى المَدينةَ ) :
« إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين سوقها فيسمع أناساً كثيراً يحلفون باسم عيسى بن مريم ، فزاده فزعاً ، ورأى أنّه حيران ، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه : أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل ، أمّا الغداة فاسمعهم ، وكل
__________________
١ ـ سورة الكهف : الآية ٢١.