و بيان ذلك: أنّهم استدلّوا على إسناد أفعال العباد إلى اللّه تعالى بوجوه أقواها عندهم: و جهان:
أحدهما: أنّ الفعل الذي صدر عن العبد إن علم اللّه تعالى وقوعه وجب وقوعه، و إلاّ لجاز أن لا يقع، فيلزم الجهل على اللّه تعالى، و هو محال، و إذا وجب وقوعه انتفت قدرة العبد، و إن علم اللّه تعالى عدم الفعل استحال وقوعه؛ إذ لو جاز وقوعه لزم تجويز الجهل على اللّه تعالى، و هو محال، و إذا استحال وقوعه انتفت قدرته عليه.
و ثانيهما: أنّ الفعل الصادر عن العبد إن وجب صدوره عنه انتفت قدرته عليه، فإنّ الواجب غير مقدور؛ لامتناع عدمه، و كلّ مقدور فهو غير ممتنع العدم، و إن لم يجب [صدوره] عنه كان ممكنا، فترجيح وجوده على عدمه إن كان لا لسبب لزم وقوع الممكن الجائز من غير سبب، و هو باطل بالضرورة، و مقتض لانتفاء دليل إثبات الصانع تعالى، و إن كان لسبب فإمّا أن يجب وجوده مع ذلك السبب، فيلزم نفي القدرة عليه أيضا، و إن لم يجب أمكن فرض عدمه في وقت و وجوده في آخر، فإن ترجّح الوجود على العدم لا لسبب لزم المحال السابق، و إن كان لسبب لم يكن ما فرضناه سببا بسبب، و أيضا يعود الكلام فيه، و على كلّ تقدير تنتفي قدرة العبد.
و هذان الوجهان إن أوجبا نفي قدرة العبد أوجبا نفي قدرة اللّه تعالى، و ذلك عين الكفر أو التناقض إن أثبتوا قدرة للّه تعالى لا للعبد، و لا يمكنهم الفرق بين اللّه تعالى و العبد في ذلك؛ لتناول الدليلين لهما بالسويّة.
و طريق الجواب فيهما واحد، و هو أنّ العلم تابع، فلا يؤثّر في المتبوع وجوبا و لا إمكانا و لا امتناعا، و الوجوب المستند إلى الاختيار مع القصد لا ينافي الإمكان الذاتي.
و أيضا فهؤلاء أهل السّنّة و الجماعة ارتكب بعضهم في باب أفعال العباد ما يخالف العقل، و هو أنّهم لمّا لزمهم الشناعات العظيمة السابقة و غيرها التجأوا إلى إثبات شيء لا يعلمونه، و هو الكسب، فقالوا: العبد غير فاعل للفعل لا بالاستقلال و لا بالشركة، و لكنّه مكتسب له، فسئلوا عن معنى الكسب ما هو؟ فقال بعضهم: إنّه صفة الفعل من كونه طاعة أو معصية، و قال آخرون: إنّه عبارة عن اختيار الفعل، فقيل لهما: هذا الصادر إن لم يكن شيئا فلا صدور و لا صادر و لا مؤثّر فيه، و إن كان شيئا صادرا عن العبد فقد اعترفتم بكون العبد فاعلا، فلم خالفتم الضرورة في إسناد الفعل إلينا؟ فالتجأ بعضهم إلى عدم العلم بهذا الكسب، و قالوا: إنّه غير معلوم، و هذا أشدّ استحالة من الأوّل، فإنّ إثبات ما ليس بمعلوم كنفي ما هو معلوم في الاستحالة، و أيّ جهل أعظم من ذلك ؟
و أيضا ارتكب أهل السّنّة و الجماعة في باب الكلام أشياء مخالفة للعقل، و الضرورة قاضية ببطلانها.
منها: أنّهم قالوا: إنّ الكلام الذي تعرفه الناس بأسرهم ليس هو الكلام بالحقيقة، و إنّما الكلام بالحقيقة عبارة عن صفة نفسانيّة قائمة بالمتكلّم مغايرة للإرادة و التخيّل و العلم، و هذه الحروف و الأصوات عبارة عنها و كناية لها.
و منها: أنّهم قالوا: إنّ هذا الكلام ليس بأمر و لا خبر و لا استخبار و لا نهي، و إنّ جميع أساليب الكلام مسلوبة عنه، و إنّه شيء واحد. و هذا غير معقول.
و منها: أنّهم قالوا: إنّ ذلك الكلام قديم، ثمّ ذهب بعضهم إلى أنّه في الأزل أمر و نهي و خبر و غير ذلك، و بعضهم نفى هذه الصفات عنه، و أثبتوا
قدم أصل الكلام و قدم الأمر و النهي و الخبر غير المعقول الصدور من الحكيم، فإنّ الواحد منّا لو جلس في داره وحده ثمّ قال: يا سالم قم، يا غانم اخرج، و لم يكن عنده أحد، عدّه العقلاء سفيها، و الضرورة قاضية بذلك، فهؤلاء قد خالفوا، و مع ذلك يلزم أن يكون اللّه تعالى كاذبا؛ لأنّه أخبر بقوله تعالى: إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً (١) و غيره من الإخبارات الماضية مع أنّه لا سابق على الأزلي، فقد أخبر تعالى بما لم يكن، و لا معنى للكذب سوى ذلك، و من جوّز ذلك على اللّه تعالى فهو أجهل الناس.
و منها: أنّهم أثبتوا للأمر معنى مغايرا للإرادة سمّوه الطلب، و للنهي معنى آخر غير الكراهة سمّوه الطلب، و جوّزوا أن يأمر اللّه تعالى بما يكرهه و أن ينهى عمّا يريده، بل اللّه تعالى كاره للطاعات التي لم يفعلها الكافر، و مريد للمعاصي التي فعلها و قد قال اللّه تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٢) و هذا هو عين السفه و الجهل، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
و أيضا فإنّهم نفوا الحسن و القبح العقليّين، و لزمهم من ذلك محالات:
منها: مخالفة الضرورة في ذلك، فإنّ كلّ عاقل يعلم بالضرورة حسن الصدق النافع و قبح الكذب الضارّ و حسن الإحسان إلى الغير و قبح الظلم له، و أنّه يقبح تكليف الأعمى بنقط المصاحف و تعذيبه على تركه، و تكليف الزّمن الطيران إلى السماء و تعذيبه على تركه، و لأنّ كلّ عاقل يعلم بالضرورة الفرق بين المحسن و المسيء، و أنّ المحسن يستحقّ المدح و الثناء٨.
١- سورة نوح: ١.
٢- سورة الإسراء: ٣٨.