ثم شيخ الإِسلام فيه ، فاضلٌ أحاط بافق الفضيلة ، ولم يجعل لأحدٍ منها دقيقة ولا ثانية ، واستوى على أقطار أرضها ولم يذر لغيره فيها بسطاً لا قاصية ولا دانية ، وطلع من شرق العلم وأضاء فضله بحيث لم يبق للجهل ذاهبة ولا جائية ، وتم بدره فأذهب دياجير الظلمات بأنوار علمه الساطعة الحامية ، خاض في بحار العلوم فأخرج منها دراً ومرجناً ومرجاناً ، وسبح في دماء الفنون (١) فاستنبط منها وسيلاً وبرهاناً ، أعظم الأفاضل شأناً وأنورهم برهاناً .
كان له تحريرٌ فائقٌ وتعبيرٌ عن المطالب رائق ، وإحاطة تامة في أنواع العلوم ، وحياطة شاملة لأجناس المعقول والمفهوم، وتحقيقات متينة لغوامض الدقائق ، وتدقيقات رزينة في اكتناه الحقائق . له رحمهالله من كل فن سهام عالية (٢) ، وله من كل غصن ثمار يانعة ، قد حقق كل مسألة من مسائل العلوم بما لا مزيد عليه ، واستنبط في مقالة الحق بحيث يظهر لكل أحدٍ ما له وما عليه .
وبالجملة لا مماثل له ولا معادل ، ومن أراد أن يصف فضله بكنهه فهو عن الحق عادل . كان رحمهالله في أوائل أمره معتزلاً عن المناصب ، وكان منتهى مطلبه تحقيق المآرب ، فجاءه القضاء بولاية القضاء قوليه برضى كان أو عدم رضی ، فباشره مراعياً للكتاب والسنة والطرق المروية عن أئمّة الاُمة ، فاتعب نفسه وراضها كمال الرياضة ، وجاهدها الله غايته غير مكترثٍ عن عروض المضاضة .
وبالجملة بالغ في إبطال الباطل وإحقاق الحق ، بحيث يرضى عنه مزهق الباطل ومحقّ الحق .
__________________
(١) في المصدر : في دعاء الفنون ، وهناك نسخة أخرى فيها : في دماء العيون .
(٢) في المصدر : شهباً عالية .