وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أن الكفار كانوا إذا بدأ عليهم الرسل بالكلام سدّوا بأيديهم أسماعهم دفعة ، وأفواههم دفعة ، إظهارا منهم لقلة الرغبة فى سماع كلامهم وجواب مقالهم ، ليدلّوهم ـ بهذا الفعل ـ على أنهم لا يصغون لهم إلى مقال ، ولا يجيبونهم عن سؤال ، إذ قد أبهموا طريقى السماع والجواب ، وهما الآذان والأفواه. وشاهد ذلك قوله سبحانه حاكيا عن نوح عليهالسلام يعنى قومه : ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ (١) فيكون معنى رد أيديهم فى أفواههم على القول الذي قلنا أن يمسكوا أفواههم بأكفهم ، كما يفعل المظهر الامتناع من الكلام. ويكون إنما ذكر تعالى ردّ الأيدى هاهنا ـ وهو يفيد فعل الشيء ثانيا بعد أن فعل أولا ـ لأنهم كانوا يكثرون هذا الفعل عند كلام الرسل عليهمالسلام. فوصفوا فى هذه الآية بما قد سبق لهم مثله ، وألف منهم فعله ، فحسن ذكر الأيدى بالرد على الوجه الذي أومأنا إليه. وأيضا فقد يقول القائل لغيره : اردد إليك يدك. بمعنى اقبضها وكفها. لا يريد غير ذلك.
وقوله سبحانه : ﴿ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [١٤] . وهذه استعارة. لأن المقام لا يضاف إلّا إلى من يجوز عليه القيام. وذلك مستحيل على الله سبحانه ، فإذن المراد به يوم القيامة ، لأن الناس يقومون فيه للحساب ، وعرض الأعمال على الثواب والعقاب ، فقال سبحانه فى صفة ذلك اليوم : ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ (٢) .
وإنما أضاف تعالى هذا المقام إلى نفسه فى هذا الموضع ، وفى قوله : ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ
__________________
(١) سورة نوح عليهالسلام. الآية رقم ٧.
(٢) سورة المطففين. الآية رقم ٦.