الجاحظ ومجازات القرآن
لعل الجاحظ المتوفى سنة ٢٥٥ ه هو أول من استعمل المجاز فى القرآن بالمعنى المقابل للحقيقة ، وهو ذلك المعنى القريب جد القرب مما استعمله البيانيون المتأخرون ، وبهذا كان أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ هو أول مصنف عربى استعمل لفظتى المجاز والاستعارة على نحو يقرب مما قصد بهما عند البلاغيين. فهو لا يريد بكلمة المجاز ذلك المعنى الذي قصده أبو عبيدة بالتفسير ، ولكنه يريد ذلك الشيء المقابل للحقيقة. ونراه فى مواطن متفرقة من كتابيه « الحيوان » و « البيان والتبيين » يشير إلى المجاز والاستعارة إشارات تعد أول ما سجل منهما بالمعنى البياني فى المؤلفات العربية. حتى ليعد الجاحظ بذلك أول رائد للبلاغة العربية بمعناها الاصطلاحي الذي أخذ يتطور على الزمن حتى بلغ قمته على يد السكاكي ، والقزويني وغيرهما من أعلام البلاغة الفنية.
ولعل من أوائل اللمع البيانية عند الجاحظ قوله فى « الحيوان » : [ باب آخر فى المجاز والتشبيه بالأكل ، وهو قول الله عزوجل : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا ﴾ وقوله تعالى عز اسمه : ﴿ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ وقد يقال لهم ذلك ، وإن شربوا بتلك الأموال الأنبذة ، ولبسوا الحلل ، وركبوا الدواب ، ولم ينفقوا منها درهما واحدا فى سبيل الأكل ، وقد قال الله عزوجل : ﴿ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ﴾ وهذا مجاز آخر ] (١) .
ولا يكتفى الجاحظ بهذه اللمعة البيانية الواضحة بل يضيف إليها بابا آخر فى مجاز الذوق : [ وهو قول الرجل إذا بالغ فى عقوبة عبده : ذق ! وكيف ذقته ؟ ! وكيف وجدت طعمه ؟ ! وقال عزوجل : ﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ .... وقال يزيد بن الصعق :
__________________
(١) الحيوان. بتحقيق عبد السلام هارون. ج ٥ ص ٢٥.