ولهذا كان ابن خلدون فيما قدمه من رأي جريئاً في الحكم ، وسخياً في العرض ، وواقعياً في المبادرة.
وهناك موقف للباقلاني ( ت : ٤٠٣ ه ) يتناسب مع الذائقة الفطرية ، لطبيعة الأشياء ، فما لم يفرض فيه أمر ، لا يستنبط منه حكم ، وما لا وجه له لا يحدد بوجه مخصوص لقد بين حقيقة هذا الأمر بقوله :
« وأما الكتابة ، فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئاً ، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره ، أوجبهم عليهم وترك ما عداه ، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف ، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه : أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلاّ على وجه مخصوص ، وحد محدود ، ولا يجوز تجاوزه ، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ولا دلت عليه القياسات الشرعية. بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يأمر برسمه ، ولم يبين لهم وجهاً معيناً ، ولا نهى أحدا عن كتابته ، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف ؛ فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال. ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول ، وأن يجعل اللام على صورة الكاف ، وأن تعوّج الألفات ، وأن يكتب على غير هذه الوجوه ، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين ، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة ، وجاز أن يكتب بين ذلك.
وإذا كانت خطوط المصحف ، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة ، وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته ، وما هو أسهل وأشهر وأولى ، من غير تأثيم ولا تناكر ؛ عُلم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص ، كما أخذ عليهم في القراءة والأذن ، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز ، فكل رسم دال على الكلمة ، مفيد لوجه قراءتها. تجب صحته وتصويب الكاتب به على أية صورة كانت.
وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب