ثمّ إنه تعالى بعد بيان عظمته وقدرته بخلق العالم وتسخير النّيّرين ، بيّن منّته عليهم بالرزق بقوله : ﴿اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ ويوسّعه ﴿لِمَنْ يَشاءُ﴾ توسعته ﴿مِنْ عِبادِهِ﴾ المؤمنين والكافرين ﴿وَيَقْدِرُ﴾ لم يشاء ويضيّق ﴿لَهُ﴾ وهو يعلم مقدار الحاجات والأرزاق ، وطرق إيصالها ، ومصالح العباد ، ونظام العالم بمقتضى الوهيته ﴿إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يخفى عن علمه خافية.
في الحديث القدسي « أن من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى ، ولو افقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك » (١) .
ثمّ بيّن سبحانه اعترافهم بأنّ الرزق كلّه منه ، باعترافهم بأنّه منزل الأمطار التي هي سبب الرزق بقوله : ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ يا محمد ﴿مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ﴾ المطلّ ، أو من جهة العلوّ ﴿ماءً﴾ نافعا ﴿فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها﴾ وأنبتت منها الأشجار والزروع والحشائش من بعد يبسها ؟ ﴿لَيَقُولُنَ﴾ بعقولهم الفطرية : ﴿اللهُ﴾ منزل الماء ومحيي الأرض ﴿قُلِ﴾ يا محمد : ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على نعمه ، وهم لا يحمدونه مع اعترافهم بنعمه ، أو الحمد لله على ظهور الحجّة ووضوح الحقّ بحيث لا يمكن لهم جحوده ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ ولا يدركون أن مقتضى اعترافهم حمده وعبادته لا عبادة غيره.
﴿وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ * فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى
الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٤) و (٦٦)﴾
ثمّ لمّا كان باعثهم على عبادة الأصنام حبّ الدنيا وشهواتها ، ذمّ سبحانه الدنيا بقوله : ﴿وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا﴾ وشهواتها التي تحبونها (٢) وتشتاقون إليها بحيث شغلتكم عن الله وعن الآخرة ﴿إِلَّا لَهْوٌ﴾ وعمل غير عقلاني ﴿وَلَعِبٌ﴾ وشغل لا فائدة فيه ، وإعراض عن الله ، وهذان بعيدان عن العاقل ، لكونهما سريعي (٣) الانقضاء بالموت ، وموجبين للبعد عن الله ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ والله ﴿لَهِيَ﴾ الجنّة التي يكون فيها ﴿الْحَيَوانُ﴾ الحقيقي والحياة الدائمة التي لا ينغصها الموت والفناء ، بل جميع ما فيها ذو حياة لا زوال لها ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وذلك لما آثروا عليها الدنيا التي هي الموتان وأهلها أموات.
ثمّ قرّر سبحانه كون باعثهم على عبادة الأصنام حبّ الدنيا بأنّهم لو انقطعوا عن الدنيا ، وضعف رجاؤهم في الحياة ، نسوا آلهتهم وأخلصوا دينهم لله بقوله : ﴿فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ﴾ وتوسّطوا البحر ، وأشرفوا على الهلاك ، نسوا آلهتهم و﴿دَعَوُا اللهَ﴾ لنجاتهم حال كونهم ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾
__________________
(١) تفسير روح البيان ٦ : ٤٨٩.
(٢) في النسخة : تحيونها.
(٣) في النسخة : سريع.