حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ أبدا ﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ﴾ لله تلك القصور ، كما أنّ الجحيم المحيط بالكافرين بئس الجزا ، والعاملون هم ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على أذى الكّفار ، وهجر الأوطان ، وفرقه الأقارب والإخوان ، وترك الديار والعقار ، بل العمران ، وتحمّل المحن في رضا الملك الديّان ﴿وَعَلى رَبِّهِمْ﴾ اللطيف بهم ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾ ويعتمدون في حفظهم من شرّ الأعداء ، وانتظام امور معاشهم ومعادهم ، فانّ الله حافظهم ورازقهم.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ﴾ وكم من حيوان من الوحوش والطيور من خصائصها أنّها ﴿لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ ولا تقدر على رفعه من الأرض ونقله وادّخاره ﴿اللهُ يَرْزُقُها﴾ ويوصل إليها ما تعيش به وتحتاج إليه يوما فيوما حيث يوجّهه ﴿وَ﴾ يرزق ﴿إِيَّاكُمْ﴾ فهم مع ضعفهم وأنتم مع قوّتكم سواء في كون رزقكم بيد الله ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالكم في أمر الرزق ﴿الْعَلِيمُ﴾ بضمائركم وما يخطر ببالكم من أنّا لو خرجنا من ديارنا فمن أين نرتزق ؟ وبمقدار حاجتكم ، ومحلّ رزقكم.
روي عن ابن عمر أنّه قال : خرجت يوما مع الرسول صلىاللهعليهوآله من المدينة حتى دخلنا في حائط أحد من الانصار ، فأخذ صلىاللهعليهوآله يأكل من تحت النخيل تمرا ، فقال لي : « ألا تأكل ؟ » قلت : لا أشتهي. قال : « لكنّي أشتهيه ، وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ، ولو شئت لدعوت ربّي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر ، ولكن أحبّ أن أشبع يوما وأجوع يوما ، فكيف بك يابن عمر لو بقيت مع قوم يخبّئون رزق سنتهم لضعف يقينهم » قال : فو الله ما برحنا حتى نزلت (١).
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ
اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ
بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦١) و (٦٣)﴾
ثمّ لما زيّف (٢) سبحانه مذهب الشرك ، ودعا العباد إلى عبادته ، أظهر التعجّب من عبادة المشركين غيره مع قولهم بأنّه تعالى خالق كلّ شيء بقوله : ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ يا محمد ﴿مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ وما فيهما بقدرته ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ وقهرهما تحت إرادته ، ويسّرهما على وفق حكمته ﴿لَيَقُولُنَ﴾ بالفطرة والوجدان : إنّ ﴿اللهُ﴾ خالقهما ومسخّرهما ، فاذا اعترفوا بذلك ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ وكيف عن عبادته ينصرفون؟
__________________
(١) مجمع البيان ٨ : ٤٥٥ ، تفسير الصافي ٤ : ١٢٢.
(٢) في النسخة : زلف.