مقدّمة ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ بإتيانه ، ولا يحتملونه ، أو لا يشعرون بأنّ تأخيره لا ينافي صدق الوعد به ، والعجب أنّهم ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ﴾ الشديد الذي يفرّ منه العاقل ، ﴿وَ﴾ الحال ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ﴾ عن قريب ﴿لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ﴾ في القيامة لإحاطة موجبات استحقاقها بهم في الدنيا من الكفر والطغيان ، وأو بصورتها المعنوية ، وإن لم تدركها الحواسّ الظاهرية في هذا العالم.
ثمّ عيّن الأجل أو وقت الاحاطة وكيفيتها بقوله : ﴿يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ﴾ ويسترهم ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ بحيث لا يقدرون على دفعه بايديهم ﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ ولا يقدرون على دسّه بأقدامهم ﴿وَيَقُولُ﴾ الله ، أو الملك تنكيلا وإهانة لهم ﴿ذُوقُوا﴾ وأطعموا طعم ﴿ما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ من الكفر والطغيان والعصيان ، فانّ هذا العذاب عين أعمالكم المجسّمة في هذا العالم.
﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ
الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ
الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ *
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ
يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥٦) و (٦٠)﴾
ثمّ لمّا كان تحديد الكفّار بالعذاب موجبا لشدّة عداوتهم للمؤمنين ، وتهييجهم على إيذائهم ، أمرهم الله بالهجرة من مكّة بقوله : ﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بي وبرسولي : لستم مضطرّين في الإقامة بمكّة ﴿إِنَّ أَرْضِي﴾ التي خلقتها ليست ضيقة ومنحصرة في أرض مكّة ، بل هي ﴿واسِعَةٌ﴾ فاخرجوا من مكة ، وهاجروا إلى غيرها من البلاد التي لا يمنعكم الكفار فيها من القيام بوظائف دينكم ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ وحدي فيها ، وإن كان كبر عليكم الإعراض عن وطنكم المألوف ، فاعلموا أنّكم مفارقونه لا محالة ولو بالموت والخروج من الدنيا ، لوضوح أنّه ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ ومدركة طعمه ﴿ثُمَ﴾ أنتم بعد الموت ﴿إِلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾ من الدنيا ، فتسألون عن أداء ما حمّلتم من التكاليف والعمل بما جعل عليكم من الأحكام ، وتجازون على ما صدر عنكم إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر ، فليكن همّكم في تحصيل الراحة في دار لا انقضاء لها ، فان لم يتيسّر لكم في الغربة منزل ومأوى تطيب به نفوسكم وتستريحون فيه ، فلا يغمّكم ، فانّ الدنيا سريعة الانقضاء ، والآخرة التي لا انقضاء لها سريعة اللّحاق ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ إذا وردوا فيها والله ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ ولننزلنّهم ﴿مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً﴾ وقصورا عالية ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾ وفي المنظر منها ﴿الْأَنْهارُ﴾ الأربعة ، يلتذّون بالنظر إليها