أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا
سابِقِينَ (٣٦) و (٣٩)﴾
ثمّ ذكر سبحانه قصّة شعيب ودعوته قومه وتكذيبهم إياه بقوله : ﴿وَإِلى﴾ أهل بلد ﴿مَدْيَنَ﴾ أرسلنا ﴿أَخاهُمْ﴾ ومن هو من نسبهم ، كان اسمه ﴿شُعَيْباً﴾ ليدعوهم إلى التوحيد والطاعة ﴿فَقالَ﴾ لهم بطريق الدعوة ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ وحده ، ولا تشركوا به شيئا ﴿وَارْجُوا﴾ وتوقّعوا ﴿الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ الذي لا يوم بعده ، لأنّه لا ليل بعده ، وهو يوم القيامة ويوم الجزاء ، وانتظروا ما يقع فيه من فنون الأحوال والأهوال ، واعملوا الأعمال التي تنتفعون بها فيه ، وتأمنون بها من العذاب ﴿وَلا تَعْثَوْا﴾ ولا تفسدوا ﴿فِي﴾ هذه ﴿الْأَرْضِ﴾ التي تسكنونها بتنقيص المكيال والميزان ، وتضييع الحقوق حال كونكم ﴿مُفْسِدِينَ﴾ ومبالغين في الافساد ، وقيل : إنّ ( مفسدين ) بمعنى الفساد (١) ، والمعنى : لا تفسدوا فسادا ، ويحتمل أن يكون العثو بمعنى الحركة بالتجريد عن الفساد.
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ في إخباره بتوحيد الله ، وقيام الحشر ، وقبح الفساد ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ والزّلزلة الحاصلة من صيحة جبرئيل عقوبة على تكذيبهم ، حتّى تقطّعت قلوبهم ، وتهدّمت عليهم دورهم ﴿فَأَصْبَحُوا﴾ وصاروا ﴿فِي دارِهِمْ﴾ وبيوتهم ، أو بلدهم ﴿جاثِمِينَ﴾ وميّتين غير متحرّكين.
﴿وَ﴾ أهلكنا ﴿عاداً﴾ قوم هود ﴿وَثَمُودَ﴾ قوم صالح ﴿وَقَدْ تَبَيَّنَ﴾ وظهر ﴿لَكُمْ﴾ يا أهل مكة إهلاكنا إيّاهم ﴿مِنْ﴾ بقية آثار ﴿مَساكِنِهِمْ﴾ الخربة في اليمن والحجر بالنظر إليها في أسفاركم ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ﴾ بتسويلاته ﴿أَعْمالَهُمْ﴾ القبيحة من فنون الكفر والمعاصي ، وحسّنها في أعينهم ﴿فَصَدَّهُمْ﴾ وصرفهم ﴿عَنِ﴾ سلوك ﴿السَّبِيلِ﴾ الذي امروا بسلوكه. وهو التوحيد الموصل إلى كلّ خير ﴿وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ ومتمكّنين من النّظر والتفكّر في آيات التوحيد ، ولم يفعلوا ﴿وَقارُونَ﴾ الذي كان له شرف النّسب وكنوز من الأموال ﴿وَفِرْعَوْنَ﴾ الذي كان له سلطنة مصر ﴿وَهامانَ﴾ الذي كان وزيره وأخصّ خواصّه.
ثمّ بيّن سبحانه علّة إهلاكهم بقوله : ﴿وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى﴾ رسولا من قبلنا متلبّسا ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات ، فدعاهم إلى الإقرار بتوحيدنا ، والانقياد لأوامرنا ونواهينا ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ وتعظّموا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ وتأنّفوا عن قبول الحقّ والايمان به في مملكة مصر ، فعذّبناهم أشدّ العذاب
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٥ : ٦٥.