فاخرة ، ولهم ريح طيبة ، ظنّ أنّهم من الإنس ، وكان يعلم من حال قومه أنّهم يتعرّضون له بالفاحشة ، ولذا ﴿سِيءَ بِهِمْ﴾ واعتراه اضطراب وخوف بسببهم ، وتحيّر في شأنهم وتدبير أمرهم ﴿وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾ ورأى نفسه عاجزة عن الدفاع عنهم ، وعن حفظهم من تعدّي القوم.
فلمّا رأى الملائكة فيه أثر الملال والضّجرة سلّوه ﴿وَقالُوا﴾ له : يا لوط ﴿لا تَخَفْ﴾ علينا ، ولا على أحد من أهلك ﴿وَلا تَحْزَنْ﴾ لورودنا عليك وابتلائك بشأننا ، إنّا رسل ربّك لإهلاك قومك و﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾ وخاصّتك ممّا يصيب قومك من العذاب ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ الكافرة ، فانّها ﴿كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ﴾ والباقين في العذاب ، أو في القرية ، أو من المهلكين.
﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ
تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)﴾
ثمّ إنّهم بعد بشارته بنجاة نفسه وأهله ، أخبروه بنزول العذاب على قومه بقوله : ﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ﴾ البتة ﴿عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ والبلدة ، وكانت عدّتهم على ما قيل سبعمائة ألف رجل (١)﴿رِجْزاً﴾ وعذابا شديدا ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ بأمر الله ﴿بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ ويفعلون المنكرات ، ثمّ أمروه بالخروج من البلد وإخراج بناته منها ، فلمّا خرجوا رفع جبرئيل المدينة وما فيها بأحد جناحية ، وجعل عاليها سافلها ، وانصبّت الحجارة عليها ، أو على من كان من أهلها غائبا عنها ، فصارت القرية المخروبة عبرة لأهل العالم، كما قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنا﴾ أثرها الباقي ﴿مِنْها﴾ وهو الجدد الخربة والعمارات المنهدمة ﴿آيَةً بَيِّنَةً﴾ وعبرة واضحة نافعة ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ويدركون العبر ، ويتأملّون فيها.
قيل : إنّ العبرة الباقية من القرية هي الحجارة الممطورة التي كان على كلّ واحد منها اسم من أصابه ، فانّها كانت باقية مدّة مديدة ، وأدركها أوائل هذه الامّة (٢).
وقيل : كانت ظهور الماء الأسود على وجه الأرض حين خسف بهم ، وكان منتنا بحيث يتاذّى الناس برائحته من المسافة البعيدة (٣).
﴿وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ
جاثِمِينَ * وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
__________________
(١-٣) تفسير روح البيان ٦ : ٤٦٧.