أقطار ﴿الْأَرْضِ﴾ وجوانبها ﴿فَانْظُرُوا﴾ بنظر التفكّر والاعتبار ﴿كَيْفَ بَدَأَ﴾ الله وأوجد ﴿الْخَلْقَ﴾ ابتداء على كثرتهم واختلاف أشكالهم وأحوالهم وأخلاقهم ﴿ثُمَ﴾ إذا علمتم بدء الخلق علمتم أنّ القادر الذي هو ﴿اللهُ﴾ بقدرته ﴿يُنْشِئُ﴾ ويوجد هؤلاء فينشؤون ﴿النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ ويحيون حياة ثانية ﴿إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الابداء والإعادة وغيرهما ﴿قَدِيرٌ﴾.
وإنّما قدّم ذكر العذاب لأنّ المقصود ترهيب منكري البعث ، وكان ذكر الرحمة تبعا ، ثمّ سدّ باب غرورهم بتأخير عذابهم بقوله : ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ﴾ تعذيبه ، وهم المشركون المنكرون للبعث ﴿وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ﴾ رحمته ، وهم الموحدون المقرّون بالبعث ﴿وَإِلَيْهِ﴾ وحده إلى حكمه ﴿تُقْلَبُونَ﴾ وتردّون فيفعل بكم ما يريد ﴿وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ له وخارجين من سلطانه وإن هربتم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ الواسعة وتواريتم فيها ﴿وَلا﴾ بالتحصّن ﴿فِي السَّماءِ﴾ التي هي أوسع منها ، فانّه يدرككم لا محالة ، ويجري عليكم حكمه وقضاءه ﴿وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ﴾ ومحبّ يفدي لكم في دفع العذاب عنكم نفسه وماله ، ويشفع لكم عند الله ﴿وَلا نَصِيرٍ﴾ ومعين يحرسكم بقوته ممّا يصيبكم من البلاء. قيل : إنّ الوليّ هو الذي يدفع المكروه ، والنصير هو الذي يأمر بدفعه (١) .
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ * فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٣) و (٢٤)﴾
ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد الكفّار إجمالا بالعذاب المبهم ، هدّد خصوص المشركين المنكرين للحشر بالعذاب مفصّلا بقوله : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ﴾ توحيد ﴿اللهِ﴾ ودلائله ، ﴿وَ﴾ كفروا ب ﴿لِقائِهِ﴾ والحضور عنده في المحشر لجزاء الأعمال ﴿أُولئِكَ﴾ الكافرون بالخصوص ﴿يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي﴾ وفضلي ، وانقطع رجاؤهم من ألطافي بشركهم ﴿وَأُولئِكَ﴾ بالخصوص ﴿لَهُمْ﴾ بالاستحقاق ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ بإنكارهم المعاد.
ثمّ إنّه تعالى بعد دعوة كفّار مكّة إلى الايمان بالمعاد والاستدلال عليه ، وتهديدهم على الكفر به ، عاد إلى بيان قصّة إبراهيم عليهالسلام بقوله : ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ﴾ له ومقالهم بعد استماع دعوته ونصحه ﴿إِلَّا أَنْ قالُوا﴾ الرؤساء لأتباعهم ، أو بعضهم لبعض تجمّعوا على إبراهيم و﴿اقْتُلُوهُ﴾ بالسيف ، أو الحجارة ﴿أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ بالنار ، وانصروا آلهتكم ، فاختاروا إحراقه ، فألقوه في النار ﴿فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ﴾
__________________
(١) تفسير روح البيان ٦ : ٤٦٠.