ووالله ﴿لَتَدْخُلُنَ﴾ أيّها المؤمنون في العام القابل ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرامَ﴾ لا بمشيئتكم وقدرتكم ، بل ﴿إِنْ شاءَ﴾ وأراد دخولكم فيه ، وفيه تعليم للعباد وتنبيه على أنّ إرادة أهل مكّة منعكم من دخوله لا يزاحم إرادة الله ، وأنكم تدخلونه حال كونكم ﴿آمِنِينَ﴾ من أعدائكم ، ويدوم أمنكم إلى أن تصيروا ﴿مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ﴾ ومزيلين جميع شعرها ﴿وَمُقَصِّرِينَ﴾ ومزيلين بعضه و﴿لا تَخافُونَ﴾ من أحد بعد الحلق والتقصير وإحلالكم من الاحرام ، مع أن قريش لا يحرّمون من أحلّ من إحرامه.
﴿فَعَلِمَ﴾ الله بعد ما أرى نبيه صلىاللهعليهوآله الرؤيا في تأخير وقوع تعبيرها ، أو في تقديم ما يشهد على صدقها ﴿ما لَمْ تَعْلَمُوا﴾ من الحكمة والمصلحة ﴿فَجَعَلَ﴾ سبحانه لأجل تلك المصلحة واسترواح قلوب المؤمنين ﴿مِنْ دُونِ﴾ وقوع ﴿ذلِكَ﴾ الموعود من دخول مكّة ﴿فَتْحاً﴾ وافر الغنيمة ﴿قَرِيباً﴾ من صلح الحديبية ، وهو فتح خيبر.
قيل : إنّه كان بعد خمس عشرة ليلة من الحديبية (١) .
وقيل : إنّ المراد من الفتح القريب صلح الحديبية (٢) ، فانّه أعظم الفتوح كما مرّ.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ
أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ (٢٨) و (٢٩)﴾
ثمّ أكّد سبحانه صدق رؤيا النبي صلىاللهعليهوآله وعدم إمكان كذبها بقوله : ﴿هُوَ﴾ الله الحكيم ﴿الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ محمد إلى الناس جائيا لهم ﴿بِالْهُدى﴾ والرّشاد إلى الصراط المستقيم. وقيل : يعني بالقرآن (٣) ، أو ما اتّفق عليه الرسل (٤) ، أو بالمعجزات (٥) الباهرة ﴿وَدِينِ الْحَقِ﴾ والثابت الذي لا ينسخ إلى يوم القيامة ، وهو الاسلام ، فإذا كان إرساله للهدايه لا يمكن أن يخبر الناس بوقوع ما لا يقع ، فيضلّوا بكذبه في إخباره.
وقيل : إنّ باء ( بالهدى ) للسببية (٦) ، والمعنى : أرسله بسبب الهدى ولأجله ، فلا يصدر عنه ما هو سبب الضلال ، وليس فتح مكة منه ببعيد ، مع أن الله ارسله بالدين الثابت ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ ويغلبه ويعليه ﴿عَلَى﴾
__________________
(١) تفسير روح البيان ٩ : ٥٣.
(٢) مجمع البيان ٩ : ١٩١ ، تفسير الرازي ٢٨ : ١٠٦.
(٣) مجمع البيان ٩ : ١٩١ ، جوامع الجامع : ٤٥٥.
(٤) تفسير الرازي ٢٨ : ١٠٦.
(٥) تفسير البيضاوي ٢ : ٤١٣ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١١٤.
(٦) تفسير أبي السعود ٨ : ١١٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٥٥.