ثمّ بيّن سبحانه معاملته مع المؤمنين بقوله : ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ من كلّ امة من الامم ﴿فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ﴾ بفضله ﴿فِي﴾ جنّته التي هي محلّ ﴿رَحْمَتِهِ﴾ ومظهرها و﴿ذلِكَ﴾ الإدخال في الجنّة ﴿هُوَ الْفَوْزُ﴾ والظّفر ﴿الْمُبِينُ﴾ والظاهر على المقصد الأعلى ، بحيث لا فوز وراءه ، ولا ظفر على مقصود فوقه.
ثم ذكر سبحانه عتابه على الكفار بقوله : ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فيقول الله لهم تقريعا وتوبيخا : أيّها الكفّار ﴿أَ فَلَمْ تَكُنْ﴾ قيل : إنّ التقدير ألم يكن تأتيكم رسلي ، فلم تكن ﴿آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ﴾(١) ؟ بلى ، قد كانت تتلى عليكم ﴿فَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ عن الايمان بها ، وكذّبتموها ﴿وَكُنْتُمْ﴾ بسبب الاستكبار والتكذيب ﴿قَوْماً مُجْرِمِينَ﴾ وجمعا معاقبين ، أو المراد قوما عادتهم الإجرام.
ثمّ إنّه تعالى بعد توبيخهم على الكفر بالله وبآياته ، واستكبارهم عن الايمان بالمبدأ ، وبّخهم على إنكارهم البعث والمعاد بقوله تعالى : ﴿وَإِذا قِيلَ﴾ في الدنيا لكم ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ﴾ بالحشر والبعث وجزاء الأعمال ﴿حَقٌ﴾ وصدق لا ريب فيه ﴿وَ﴾ إنّ ﴿السَّاعَةُ﴾ والقيامة قائمة لا محالة و﴿لا رَيْبَ فِيها﴾ ولا شكّ في صّحة وقوعها ، ﴿قُلْتُمْ﴾ أيّها العتاة استغرابا وإنكارا لها : إنّا ﴿ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ﴾ ولا نعلم أي شيء هي ﴿إِنْ نَظُنُ﴾ بقيامها وما نحسب إتيانها ﴿إِلَّا ظَنًّا﴾ ضعيفا وحسبانا واهنا ، لكثرة ما سمعنا من الرسول من الوعد بها والاستدلال عليها ﴿وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ بقيامها ، وعالمين بوقوعها ، لما رأينا من إنكار آبائنا وأكابرنا إيّاها.
أقول : الظاهر أنّ الطائفة المظهرين للشكّ غير الطائفة الذين قالوا : ﴿ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ﴾(٢) عن يقين وجزم.
﴿وَ﴾ بعد ذلك ﴿بَدا﴾ للكفّار ، وظهر ﴿لَهُمْ﴾ صور البرزخيّة التي تكون عليها ﴿سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا﴾ وقبائحه ، وهم في الدنيا كانوا يعدّونه حسنات ، أو المراد وخامة عاقبته.
وقيل : إنّ المراد جزاء أعمالهم القبيحة ، كالشرك والمعاصي (٣)﴿وَحاقَ﴾ وأحاط ﴿بِهِمْ﴾ من كلّ جانب ﴿ما كانُوا﴾ في الدنيا ﴿بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ ومنه يسخرون من جزاء أعمالهم ، والعقاب الموعود على شركهم وعتوّهم ومعاصيهم ، وفيه إيذان بأنّ قولهم : ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا﴾ كان على سبيل الاستهزاء والسّخرية.
﴿وَقِيلَ﴾ لهم من جانب الله تعالى : ﴿الْيَوْمَ نَنْساكُمْ﴾ أيّها الكفّار ، ونترككم في جهنم وعذابها،
__________________
(١) تفسير البيضاوي ٢ : ٣٩٠ ، تفسير روح البيان ٨ : ٤٥٥.
(٢) الجاثية : ٤٥ / ٢٤.
(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٤٥٨.