ثمّ لمّا حكم الله سبحانه بعد مساواة الكافر والمؤمن في الحياة وفي الممات ، استدلّ على وجود عالم آخر ، وهي دار الجزاء بقوله : ﴿وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ لا للّغو والعبث ، بل معلّلا ﴿بِالْحَقِ﴾ والحكمة البالغة ، وهو تكميل النفوس وظهور استعداداتها ، بسبب جعل التكاليف والأحكام ﴿وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النفوس ﴿بِما كَسَبَتْ﴾ وحصلت لها من الأعمال الصالحة والسيئة. وقيل : إنّ التقدير ليدلّ بها على قدرته ولتجزى (١) . وقيل : إنّه معطوف على قوله : ﴿بِالْحَقِ﴾ والمعنى : لأجل إظهار الحقّ ولتجزى ، وعلى أيّ تقدير يكون الحاصل أنّ المقصود من خلق العالم إظهار العدل والرحمة ، ولا يتمّ إلّا إذا حصل البعث والتفاوت في الدرجات والدركات بين المحقّين والمبطلين (٢) ، والمحسنين والمسيئين ﴿وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ بتنقيص الثواب وزيادة العقاب على الاستحقاق.
ثمّ إنّه تعالى بعد نهي نبيّه صلىاللهعليهوآله عن اتّباع هوى المشركين الجهّال ، ذمّ المشركين باتّباعهم الهوى ، وأظهر التعجّب من سفههم بقوله : ﴿أَ فَرَأَيْتَ﴾ يا محمد ، قيل : إنّ التقدير أنظرت فرأيت (٣)﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ﴾ ومعبوده ﴿هَواهُ﴾ وشهوة نفسه ، وترك الهدى وطاعة ربّه ، وذلك ممّا يقضي التعجّب. قيل: كانوا يستحسنون حجرا فيعبدونه ، فاذا أرادوا أحسن منه رفضوه (٤) .
ثمّ بيّن سبحانه أنّه بخذلانه بقوله : ﴿وَأَضَلَّهُ اللهُ﴾ وحرفه عن طريق الهدى بخذلانه ﴿عَلى عِلْمٍ﴾ من إيصال بالطريق الحقّ والصواب ، أو علم من الله بأنّ ذاته الخبيثة غير قابلة للهداية ﴿وَخَتَمَ﴾ وطبع ﴿عَلى سَمْعِهِ﴾ بحيث لا تدخله المواعظ ، ولا يسمع الحقّ ﴿وَ﴾ على ﴿قَلْبِهِ﴾ بحيث لا يفهم كلام الله ، ولا يتفكّر في آياته ، ولا يتأثّر بالنّذر ﴿وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ وغطاء مانعا عن رؤية المعجزات وبدائع الصّنع الدالة على توحيد الصانع ﴿فَمَنْ يَهْدِيهِ﴾ وأي شخص ومرشد يرشده إلى الحقّ ﴿مِنْ بَعْدِ اللهِ﴾ وممّا سواه ، أو من بعد إضلاله إياه ، لا والله لا يهديه أحد غير الله ﴿أَ فَلا تَذَكَّرُونَ﴾ ذلك وتنبّهون ؟ قيل : إنّ التقدير ألا تلاحظون فلا تذكّرون ولا تتفكّرون ، فتعلموا أن الهداية بيد الله؟ (٥).
﴿وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ
بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤)﴾
__________________
(١و٢) تفسير الرازي ٢٧ : ٢٦٨.
(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ٧٣ ، تفسير روح البيان ٨ : ٤٤٨.
(٤) تفسير البيضاوي ٢ : ٣٨٩ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٧٣.
(٥) تفسير أبي السعود ٨ : ٥٧٣ ، تفسير روح البيان ٨ : ٤٤٩.