اضطررت إليها أكلت منها. يا حفص ، إنّ الله تبارك وتعالى علم ما العباد عاملون ، وإلى ما هم صائرون ، فحلم عنهم عند أعمالهم السيئة لعلمه السابق فيهم ، فلا يغرّنّك حسن الطلب ممّن لا يخاف الفوت » ثمّ تلا الآية ، وجعل يبكي ، ويقول : « ذهبت والله الأماني عند هذه الآية ، فاز والله الأبرار ، أتدري من هم ؟ هم الذين لا يوذون الذرّ (١) ، كفى بخشية الله علما ، وكفى بالاغترار بالله جهلا » (٢) .
﴿مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٤) و (٨٥)﴾
ثمّ بيّن سبحانه ما به تحصل الدار الآخرة والعاقبة المحمودة بقوله : ﴿مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ وقد مرّ تفسيرها في آخر سورة النمل (٣)﴿فَلَهُ﴾ بمقتضى التفضّل شيء أفضل من تلك الحسنة و﴿خَيْرٌ مِنْها﴾ ذاتا ووصفا في القيامة ﴿وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ وعمل ما يسوء ربّه كالشّرك والعصيان ﴿فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا﴾ مثل ﴿ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ بمقتضى العدل ، لا يزادون عليه ولا ينقصون.
وفي تكرير إسناد السيئة إليهم مبالغة في الزّجر عنها ، وفي تهجين حالهم ، وزيادة تبغيض لها في قلوب السامعين ، وفيه تنبيه على عظم كلمة الكفر بحيث إنّ العذاب الدائم مثلها.
ثمّ بشّر نبيه بأنّ عاقبته أحمد العواقب بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ﴾ وأوجب عليك تلاوته وتعظيمه وتبليغه والعمل به ﴿لَرادُّكَ﴾ بعد خروجك من الدنيا ﴿إِلى مَعادٍ﴾ ومرجع عظيم الشأن بحيث يغبطك به الاوّلون والآخرون ، وهو المقام المحمود ، ثوابا على إحسانك في العمل ، وتحمّلك المشاقّ التي لا تتحمّلها الجبال.
وقيل : إنّ المراد بالمعاد مكّة ، وإنّما نكّر للتنبيه على عظم شأنه ، فانّ استيلاءه عليهالسلام عليها ، وقهره أهلها ، وظهور عزّ الاسلام وذلّ الكفر (٤) بعد كونه مقهورا ومغلوبا ، من خوارق العادات الدالّة على رسالته ، والإخبار به قبل ظهور أماراته ، بل وجود أمارات خلافه من الأخبار الغيبيّة.
روي أنّه صلىاللهعليهوآله خرج من الغار ، وسار في غير الطريق مخافة الطّلب ، فلمّا أمن رجع إلى الطريق ، ونزل بالجحفة بين مكّة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة ، واشتاق إليها ، وذكر مولده ومولد أبيه ،
__________________
(١) الذرّ : اصغر النمل.
(٢) تفسير القمي ٤ : ١٤٦ ، تفسير الصافي ٤ : ١٠٦.
(٣) النمل : ٢٧ / ٨٩.
(٤) تفسير الرازي ٢٥ : ٢١.