ثمّ إنّه تعالى بعد بيان شدّة عذاب الكفار في الآخرة لكراهتهم الحقّ في الدنيا ، ذكر سعيهم في الدنيا مع ذلك في إطفاء نور الحقّ ، ومكرهم بالرسول ، وتعاهدهم على قتله بقوله تعالى : ﴿أَمْ أَبْرَمُوا﴾ وبل أحكموا ﴿أَمْراً﴾ معهودا ، وهو كيدهم ومكرهم بالرسول. عن مقاتل : نزلت في تدبيرهم في دار الندوة (١) ، في المكر بالرسول وتشاورهم في قتله ﴿فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ ومتقنون كيدنا بهم حقيقة لا هم ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ﴾ وبل يتوهّمون ﴿أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ﴾ وما حدّثوا به في أنفسهم من الكيد في أمر الرسول ﴿وَنَجْواهُمْ﴾ وتشاورهم خفية من الرسول والمؤمنين ﴿بَلى﴾ نحن نسمعهما ونطلع عليهما ﴿وَرُسُلُنا﴾ الحافظون عليهم أعمالهم حاضرون ﴿لَدَيْهِمْ﴾ أينما كانوا و﴿يَكْتُبُونَ﴾ في ديوان أعمالهم كلّما يصدر عنهم من الاعمال والأقوال سرّا وعلانية ، ثمّ تعرض عليهم يوم القيامة ، ويعاقبون عليها أشدّ العقاب.
ثمّ لمّا ذكر سبحانه عناد المشركين للرسول ، وهمّهم بقتله لقوله بتوحيد الله ، وتنزّهه عن الولد ، أمره بإعلامهم بأنّ عدم موافقته لهم في الاعتقادات الفاسدة ليس لأجل العناد الموجب للقتل ، بل إنّما لعلمه بامتناع وجود الشريك والولد له تعالى بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد ، للمشركين ﴿إِنْ كانَ﴾ في الواقع ونفس الأمر ﴿لِلرَّحْمنِ﴾ الخالق لجميع الموجودات ﴿وَلَدٌ﴾ ذكرا كان أم انثى ، كما تزعمون أنّ الملائكة بنات الله ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ﴾ لذلك الولد ، وأسبقكم إلى تعظيمه والانقياد له ، لأنّي أعلم الناس بعظمة الله الموجبة لتعظيم ولده ، لكونه من لوازم تعظيم الوالد ، حيث إنّ الولد جزء منفصل من الوالد ، ولكن لمّا حكم عقلي بامتناع التركيب في الواجب الوجود حتى ينفصل منه الجزء ، امتنع منّي القول بثبوت الولد له وعبادتي إياه ، فليس إنكاري كون الملائكة بنات الله للعناد واللّجاج حتى استحقّ القتل والطرد.
﴿سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا
وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٢) و (٨٣)﴾
ثمّ أعلن بتنزّهه تعالى عن الولد والشريك بقوله : ﴿سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ﴾ ربّ ﴿الْأَرْضِ﴾ وما فيهما و﴿رَبِّ الْعَرْشِ﴾ الذي هو اعظم من جميع الموجودات ، وتنزّه ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ وينسبون إليه من الولد والشريك.
وقيل : يعني سبّحوا ربّ هذه الأجسام العظام ؛ لأنّ مثل هذه الربوبية توجب التسبيح على كلّ
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٧ : ٢٢٨.