يخفى عن علمه مثقال ذرّة بقوله : ﴿يَعْلَمُ﴾ الله ﴿خائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ واستراق النظر إلى ما لا يحلّ ، مع كونه أخفى أعمال الجوارح ، فكيف بغيره ﴿وَ﴾ يعلم ﴿ما تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ وتضمره القلوب من الخطرات والنيّات السوء ، والعقائد الفاسدة ، وحبّ الأصنام والمعاصي ، وبغض التوحيد والاخلاص وأهلهما ﴿وَاللهُ﴾ الحكيم ﴿يَقْضِي﴾ ويحكم في عباده ﴿بِالْحَقِ﴾ والعدل في كلّ ما دقّ وجلّ ، ولا يغمض عنه بالهوى والرّشاء. وفيه أعظم التخويف والتهويل.
ثمّ قطع رجاء المشركين من أصنامهم بقوله : ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ ويعبدون هؤلاء المشركون ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى ، وممّا سواه من الأصنام وغيرها ﴿لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾ فكيف يرجون شفاعتهم ؟ ! ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لمقالات المشركين من ثناء آلهتهم وطعنهم في التوحيد و﴿الْبَصِيرُ﴾ الذي يبصر خضوعهم لها وعبادتهم إياها.
﴿أَ وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا
هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ
اللهِ مِنْ واقٍ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ
إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١) و (٢٢)﴾
ثمّ إنّه تعالى بعد الابلاغ في تخويف المشركين بأهوال القيامة وعذابها ، هدّدهم بعذاب الدنيا بقوله: ﴿أَ وَلَمْ يَسِيرُوا﴾ ولم يسافروا للتجارة وغيرها ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ التي تكون فيها طريقهم إلى الشام واليمن ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ بنظر الاعتبار ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ الامم ﴿الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ،﴾ ومآل أمر القرون السابقة عليهم من الأحزاب المكذّبة للرسل ، المهلكة بسبب شركهم ومعارضتهم للحقّ ، كعاد وثمود وقوم لوط ﴿كانُوا هُمْ﴾ في عصرهم أعظم جثة من هؤلاء المشركين و﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ﴾ أكثر ﴿آثاراً﴾ وأحكمها ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ كالقلاع الحصينة ، والقصور الرفيعة ، والمدن المتينة ﴿فَأَخَذَهُمُ اللهُ﴾ وعاقبهم ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ وأهلكهم بمعاصيهم من الكفر وتكذيب الرسل ﴿وَما كانَ لَهُمْ مِنَ﴾ عذاب ﴿اللهِ مِنْ واقٍ﴾ وحافظ يقيهم ويحفظهم ﴿ذلِكَ﴾ الأخذ والعذاب إنّما كان معلّلا ﴿بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ﴾ من قبل الله ﴿رُسُلُهُمْ﴾ مستدلّين على صدقهم ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات ، أو مصاحبين للأحكام الظاهرات ﴿فَكَفَرُوا﴾ بها وكذّبوا الرسل وعارضوهم ﴿فَأَخَذَهُمُ اللهُ﴾ أخذا شديدا عاجلا ، وأهلكهم إهلاكا فظيعا ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿قَوِيٌ﴾ وقادر على إنفاذ إرادته ﴿شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ على من كفر وعصاه.