ويتوهّمون. وفيه بيان غاية شدّة عذابهم وكثرة أنواعه ، كما أن في قوله صلىاللهعليهوآله في صفة ثوابهم في الجنة « بما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ، ولا خطر في قلب بشر »(١) بيان نهاية حسنه وكثرة أنواعه.
ثمّ بيّن سبحانه أنّ العذاب المذكور من آثار أعمالهم السيئة التي عملوها في الدنيا بقوله : ﴿وَبَدا﴾ وظهر ﴿لَهُمْ﴾ يوم القيامة ﴿سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا﴾ وآثار قبائح أعمالهم التي عملوها حين عرض صحفه عليهم ﴿وَحاقَ﴾ وأحاط ﴿بِهِمْ﴾ من كلّ جانب ﴿ما كانُوا بِهِ﴾ في الدنيا ﴿يَسْتَهْزِؤُنَ﴾ من عذاب الآخرة عند إخبار النبيّ صلىاللهعليهوآله به ، وكانوا يقولون : متى هذا الوعد ؟
﴿فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ
بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى
عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ
سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٩) و (٥١)﴾
ثمّ لمّا حكى سبحانه اشمئزاز المشركين عن ذكر الله وحده ، واستبشارهم بذكر أصنامهم ، بيّن أنّهم مع عداوتهم لله يلتجأون إليه وحده عند ابتلائهم بالشدائد بقوله : ﴿فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ﴾ وأصابه ﴿ضُرٌّ﴾ ومكروه وسوء حال كفقر أو مرض أو خوف أو نظائرها ﴿دَعانا﴾ والتجأ إلينا وحدنا ، وسألنا كشفه ، مع اشمئزازه عن ذكرنا متفرّدا ﴿ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ﴾ وأعطيناه ﴿نِعْمَةً﴾ من غنى أو صحة ونحوهما تفضلا ﴿مِنَّا﴾ عليه لم يرها منّا ، بل ﴿قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ﴾ ووجدته ﴿عَلى عِلْمٍ﴾ كان لي بوجوه كسبه ، أو لعلمي بأنّي ساعطاه لما لي من الفضل والاستحقاق ، والحال أنّه ليس كذلك ﴿بَلْ﴾ تلك النّعمة إنّما ﴿هِيَ فِتْنَةٌ﴾ واختبار له ، أيشكر أم يكفر ﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ لحمقهم ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ أنّها استدراج واختبار لهم.
واعلم أنّ تلك الكلمة الباطلة ليست مختصة بهم بل ﴿قَدْ قالَهَا﴾ جمع من الامم ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ كقارون وقومه ، حيث قال : ﴿إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي﴾(٢) فابتلوا بالعذاب لقولهم ذلك ﴿فَما أَغْنى﴾ وما دفع ﴿عَنْهُمْ﴾ العذاب ﴿ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من الأمتعة الدنيوية ويجمعون منها ، ولم تنفعهم النعمة في الخلاص من النّقمة ﴿فَأَصابَهُمْ﴾ ووصل إليهم ﴿سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا﴾ وأسوأ جزاء ما عملوا في الدنيا من الكفر والقبائح والمعاصي.
ثمّ أوعد سبحانه كفّار مكة ، أو من في عصر النبي صلىاللهعليهوآله منهم بقوله : ﴿وَالَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ على أنفسهم
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٨٧.
(٢) القصص : ٢٨ / ٧٨.