الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)﴾
ثمّ حكى سبحانه شدّة تعصّبهم في مذهبهم وغاية حمقهم بقوله : ﴿وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ﴾ عندهم بأن يقول أحد : لا اله إلّا الله ، وحده لا شريك له ﴿اشْمَأَزَّتْ﴾ ونفرت من ذكر التوحيد ﴿قُلُوبُ﴾ المشركين لأنّهم ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ولا يصدّقون ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ وامتلأت غيظا وغما ، لعداوتهم لله ، وعدم خوفهم من عقوبته في القيامة ﴿وَإِذا ذُكِرَ﴾ عندهم الأصنام ﴿الَّذِينَ﴾ يعبدونهم ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ فرادى ، أو مع ذكر الله ﴿إِذا هُمْ﴾ لفرط افتتانهم بها ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ويسرّون حتى تبسط وجوههم له.
ثمّ إنّه تعالى بعد حكاية إصرارهم على ما يشهد العقل بفساده ، أمر نبيّه صلىاللهعليهوآله بالالتجاء إلى الله من لجاجهم وعنادهم بقوله : ﴿قُلِ﴾ يا محمد ، عند رؤيتك هذه الحالة العجيبة وعجزك عن هدايتهم : ﴿اللهُمَ﴾ يا ﴿فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وخالقهما على النحو البديع ، ويا ﴿عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ﴾ والمطّلع على ما لا تدركه الحواسّ وما تدركه ﴿أَنْتَ﴾ تعلم ما عليه هؤلاء ، وتقدر على الانتقام منهم ﴿تَحْكُمُ﴾ يوم القيامة ﴿بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ فاحكم بيني وبين هؤلاء المشركين المصرّين على الباطل ، المعاندين للحقّ.
روى بعض العامة عن أبي سلمة ، قال : سألت عائشة : بم كان يفتتح رسول الله صلاته بالليل ؟ قالت : كان يقول : « اللهم ربّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك ، إنّك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم » (١) .
﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ
الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٧) و (٤٨)﴾
ثمّ بيّن سبحانه حكمه يوم القيامة على المشركين بشدّة العذاب وعدم خلاصهم منه بقوله : ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ﴾ أشركوا و﴿ظَلَمُوا﴾ على ربّهم بتضييع حقوقه ، وعلى أنفسهم باهلاكها الدائم ﴿ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾ من الأموال والأمتعة والأملاك ﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ على سبيل الفرض ﴿لَافْتَدَوْا بِهِ﴾ وبذلوه ليتخلّصوا ﴿مِنْ سُوءِ الْعَذابِ﴾ وشديد العقاب ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ ما تخلّصوا منه ، ولا يخفف عنهم ولو ساعة ﴿وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ﴾ وظهر لهم من عذابه ﴿ما لَمْ يَكُونُوا﴾ في الدنيا ﴿يَحْتَسِبُونَ﴾
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٨٦ ، تفسير روح البيان ٨ : ١٢٠.