ثمّ لمّا كان سبب الإعراض عن الله وعبادته حبّ الدنيا وشهواتها ، بيّن سبحانه سرعة زوالها الموجبة للنّفرة منها بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ أيّها الرائي ﴿أَنَّ اللهَ﴾ بقدرته الكاملة ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ﴾ المطلّ ، أو جهة العلوّ ﴿ماءً﴾ مباركا بطريق الأمطار ﴿فَسَلَكَهُ﴾ وأجراه في عروق الأرض ، فيكون ﴿يَنابِيعَ﴾ وعيونا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ ليخرج منها شيئا فشيئا ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ﴾ الله منها بذلك الماء ، وينبت ﴿بِهِ﴾ بقدرته ﴿زَرْعاً﴾ نافعا ﴿مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ﴾ وأصنافه كالبرّ والشعير ونحوهما ، وكيفياته كالأحمر والأبيض والأصفر وغيرها ، وطعومه كالحلو وغيره ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ ذلك الزرع وييبس بعد طراوته ونضرته ، أو يحضر ﴿فَتَراهُ مُصْفَرًّا﴾ من يبسه بعد أن كان مخضرّا ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ﴾ الله ﴿حُطاماً﴾ وفتاتا ومتكسّرا من شدّة يبسه ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور مفصّلا ﴿لَذِكْرى﴾ وتنبيها على سرعة زوال الدنيا وتغيّر حالاتها ﴿لِأُولِي الْأَلْبابِ﴾ وذوي العقول السليمة ، فلا يغترّون بإقبالها وبهجتها ، ولا يفتنون بزهرتها.
﴿أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ
ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)﴾
ثمّ إنّه تعالى بعد ترغيب العباد الى الطاعة والتهديد بالعذاب على العصيان وبيان ثناء الدنيا بين ان تلك البيانات لا تؤثر إلّا مع شرح الصدر وتنوّر القلب بقوله : ﴿أَ فَمَنْ﴾ قيل : إنّ التقدير أكل الناس سواء ؟ (١)﴿شَرَحَ اللهُ﴾ ووسّع ﴿صَدْرَهُ﴾ وليّن قلبه ، وأكمل استعداده ﴿لِلْإِسْلامِ﴾ وقبول دين الحقّ بأن خلقه من طينة طيبة ، وجعله ذا فكرة صائبة ﴿فَهُوَ﴾ باقتضاء طينته ، وسعة صدره ، ونورانية قلبه ، وإصابة فكره مستقر ﴿عَلى نُورٍ﴾ عظيم وبصيرة كاملة وهداية فائضة ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ اللطيف به.
قيل : إنّ شرح الصدر بقوة الأدلة التي نصبها الله ، وهو مختصّ بالعلماء وبالألطاف الخاصة التي تتجدّد حالا بعد حال ، كما قال الله تعالى : ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً﴾(٢) وبتأكّد الأدلة وحلّ الشّبهات وإلقاء الخواطر (٣).
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : أنّه قرأ هذه الآية فقال : « إنّ النور إذا وقع في القلب انفتح له وانشرح » قالوا : يا رسول الله ، هل لذلك علامة يعرف بها ؟ قال : « التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت. قبل حلول الفوت » (٤).
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٥٠.
(٢) سورة محمد : ٤٧ / ١٧.
(٣) مجمع البيان ٨ : ٧٢٢.
(٤) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٥٠ ، تفسير روح البيان ٨ : ٩٦.