وظلمة ، والبدن يصير ترابا كما منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوام مما أكلته وفرّقته ، كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وإنّ تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب ، فاذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور ، فتربو الأرض ثمّ تمخض مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجمع تراب كلّ قالب إلى قالبه ، فينتقل باذن الله القادر إلى حيث الروح ، فتعود بإذن المصوّر كهيئتها ، وتلج الروح فيها ، فاذا استوى لا ينكر من نفسه شيئا» (١).
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَ وَلَيْسَ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ
الْعَلِيمُ (٨٠) و (٨١)﴾
ثمّ لمّا كان من شبهات منكري البعث والمعاد عدم إمكان تعلّق الروح بالأجزاء الترابية اليابسة والعظام النخرة ، دفعها سبحانه بتوصيف ذاته المقدّسة بالقدرة على الجمع بين النار والشجر الرطب مع المضادة بينهما بقوله : ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ وخلق بقدرته ﴿لَكُمْ﴾ ولنفعكم ﴿مِنَ الشَّجَرِ﴾ الرطب ﴿الْأَخْضَرِ﴾ مع انتشار الماء في أجزائه وخلله ﴿ناراً﴾ محرقة.
قيل : إنّ العرب تتخذ زنودهم من المرخ والعفار ، وهما شجران في بواديهم ، يقعطعون منهما غصنين كالمسواكين ، فيسحق المرخ وهو الذكر على العفار وهو انثى ، فتنقدح منهما النار (٢) ، مع كونهما أخضرين يقطر منهما الماء ﴿فَإِذا﴾ خرجت النار من الشجر ﴿أَنْتُمْ﴾ أيّها العرب ﴿مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ وتشعلون النار في الحطب ، فكما لا مجال لأن تشكّوا في خروج النار من الشجر الرطب ، ليس لكم أن تشكّوا في أنّ الله قادر على إيلاج الروح في الأجزاء اليابسة بأن يجعلها غضّة طرية كما كانت قبل الموت ، وإحيائها كما كانت في الدنيا.
ثمّ أنكر سبحانه على من أنكر قدرته على جمع أجزاء البدن وإحيائها ثانيا بقوله : ﴿أَ وَلَيْسَ﴾ الإله القادر ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ بقدرته ﴿السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ مع كبر جسمهما وعظم شأنها ﴿بِقادِرٍ﴾ في اعتقاد المشركين ﴿عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ في الحقارة والصّغر بالنسبة إليهما ﴿بَلى﴾ قادر على أن يخلق مثلهم ببديهة العقل ، بل أقدر ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ للممكنات ، والموجد لجميع الموجودات ﴿الْعَلِيمُ﴾ بكيفياتها وكمياتها ومصالحها ومفاسدها.
__________________
(١) الاحتجاج : ٢٥٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٦١.
(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٤٣٩.