أغرب من خلق الجسم (١) ، وذكر الخصومة مكان النّطق لكونها أعلى منه ؛ لأنّ الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبين كلامه مع غيره عند المخاصمة ، فقوله : ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ إشارة إلى أدنى ما كان عليه وقوله : ﴿خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ إشارة إلى أعلى مرتبة كماله الظاهري.
ثمّ بيّن سبحانه خصومته مع ربّه بقوله : ﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً﴾ وتكلّم في ردّ المعاد الذي وعدنا به كلاما غريبا ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ ابتداء من تراب ، ثمّ من نطفة و﴿قالَ﴾ استبعادا لصحّة المعاد حين أخذ عظم رميم بيده ﴿مَنْ﴾ يقدر على أن ﴿يُحْيِ﴾ هذه ﴿الْعِظامَ﴾ ويصيّرها إنسانا سويا ﴿وَهِيَ﴾ الآن ﴿رَمِيمٌ﴾ بالية بعيدة من الحياة غايته ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، ردّا لهذا المخاصم الغبيّ ، وتبكيتا له : ﴿يُحْيِيهَا﴾ الإله القادر ﴿الَّذِي أَنْشَأَها﴾ وخلقها ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وحين لم يكن شيئا ، فانّ الخلق ثانيا أهون من الخلق أولا مع قابلية المادة وبقاء القدرة ، لاستحالة التغيّر في ذاته تعالى ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ﴾ من الإنشاء والإعادة ﴿عَلِيمٌ﴾ ومبالغ في الاحاطة بتفاصيل كيفياته ، وبجميع الأجزاء المتبدّدة المتفتّتة لكلّ من الأشخاص ، وأوضاع بعضها من بعض من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق ، فيعيد كلّا على النّمط السابق مع القوى التي كانت لها قبل.
قيل : إنّ فيه رفع شبهة الآكل والمأكول ، وهي أنّه إذا أكل إنسان إنسانا ، وصار المأكول أجزاء للآكل ، فان اعيدت أجزاء المأكول إليه لا تبقى أجزاء للآكل حتى يعاد ، وإن اعيد إلى الآكل لا يبقى للمأكول شيء ، فأبطلها الله بقوله : ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ وتقريره أنّ لكلّ من الآكل والمأكول أجزاء أصلية وأجزاء فضلية ، وتصيّر الأجزاء الأصلية من المأكول أجزاء فضلية من الآكل ، والله تعالى عالم بالأجزاء الأصلية من كلّ منهما ، فيجمعها وينفخ فيها الروح ، فيحيي الآكل والمأكول من الآجزاء الأصلية التي كانت لكلّ منهما (٢) .
روى بعض العامة أنّ الآيتين نزلت في أبي بن خلف حيث أخذ عظما باليا ، وأتى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وقال : إنّك تقول : إنّ الهك يحيي هذه العظام ؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله:«نعم ويدخلك جهنّم»(٣) .
وعن الصادق عليهالسلام ، قال : « جاء ابي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففتّته ، ثمّ قال : يا محمد ، إذا كنّا عظاما ورفاتاءإنا لمبعوثون ، فنزلت» (٤) .
وعنه عليهالسلام : « إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٦ : ١٠٨.
(٢) تفسير الرازي ٢٦ : ١٠٩ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٣٨.
(٣) تفسير أبي السعود ٧ : ١٨٠ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٣٦.
(٤) تفسير العياشي ٣ : ٥٦ / ٢٥٣٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٦١.