ثمّ وبّخهم سبحانه على كفرانهم بقوله : ﴿وَاتَّخَذُوا﴾ واختاروا لأنفسهم ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وما سواه ﴿آلِهَةً﴾ ومعبودين من الأصنام ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ وبرجاء أنّهم ﴿يُنْصَرُونَ﴾ من جهتهم ويعاونون من قبلهم في الامور ، أو برجاء أنّها يشفعون لهم يوم القيامة ، مع أنّ أولئك الأصنام ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ﴾ ولا يقدرون على إعانتهم في شيء ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، لغاية عجزهم ﴿وَهُمْ﴾ باتّباعهم وعبادتهم الأصنام في الدنيا يكونون ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿جُنْدٌ﴾ وعسكر يتّبعونهم حين سوقهم إلى النار ، وكلّهم العابد والمعبود ﴿مُحْضَرُونَ﴾ في جهنم مجتمعون فيها ، أمّا العابد فلاستحقاقه ، وأمّا المعبود فلأن يكون وقودا لها وحسرة لهم.
روي أنّه يؤتى بكلّ معبود من دون الله ومعه أتباعه كأنّهم جنده ، فيحضرون في النار (١) .
أقول : هذا إذا كان المعبود جمادا ، أو كان راضيا بعبادة غيره إيّاه ، وفيه بيان غاية عجز الأصنام عن نصرتهم.
ثمّ لمّا كان عداوة المشركين وسوء أقوالهم مؤثرا في انكسار قلب النبي صلىاللهعليهوآله ، سلّى سبحانه حبيبه بقوله : ﴿فَلا يَحْزُنْكَ﴾ ولا يؤلم قلبك عداوة المشركين و﴿قَوْلُهُمْ﴾ إنّ محمدا شاعر أو مجنون ﴿إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ﴾ ويضمرون من بغضك وعداوتك ﴿وَما يُعْلِنُونَ﴾ من سبّك وشتمك ، أو ما يسترون من النفاق ، وما يعلنون من الشّرك ، أو ما يسرّون من العلم بنبوتك ، وما يعلنون من إنكار صدقك ، أو ما يسرّون من العقائد الفاسدة ، وما يعلنون من الأعمال القبيحة.
﴿أَ وَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً
وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٧) و (٧٩)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد والنبوة ، رفع شبهتهم في المعاد بقوله : ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ﴾ ولم يعلم ﴿أَنَّا خَلَقْناهُ﴾ وصوّرناه بقدرتنا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا مع نضارته وبهجته ، وكونه ذا أجزاء مختلفة بالماهية والطبيعة ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ قذرة متشابهة الأجزاء ، وجعلناه بعد افتقاده لجميع القوى ذا نطق وفطنة وعقل و﴿فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ﴾ لنا ومجادلنا بالباطل ﴿مُبِينٌ﴾ ومظهر للحجّة علينا في خصومته.
قيل : إنّ قوله : ﴿فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ﴾ كناية عن صيرورته ناطقا ، فإنّ إبداع الفهم والنّطق في الجماد
__________________
(١) تفسير روح البيان ٧ : ٤٣٤.