ثمّ نبّه سبحانه على أنّ حكمته البالغة اقتضت إيكال الناس إلى اختيارهم في الكفر والعصيان والايمان والطاعة ، وإلّا كان قادرا على سلب قوى الكفّار وتعجيزهم عن العصيان بقوله تعالى : ﴿وَلَوْ نَشاءُ﴾ بالمشيئة التكوينية طمس أعينهم ومحوها ﴿لَطَمَسْنا﴾ وجعلنا المحو ﴿عَلى أَعْيُنِهِمْ﴾ وسوّينا مكانها بحيث لا يبقى لها ضوء ولا يبدو لها شقّ ولا جفن ، كما ختمنا على قلوبهم ومحونا بصائرهم ﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ﴾ وتبادروا إلى الصراط المستقيم الواسع الذي اعتادوا سلوكه ﴿فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ ذلك الطريق ، وكيف يرون موضع أقدامهم منه حتى يمكنهم المشي فيه ؟ وفيه تهديد لمكذّبي الرسول بما فعل بقوم لوط حين كذّبوه وراودوه عن ضيفه.
ثمّ بالغ سبحانه في إظهار قدرته وتهديد المشركين بقوله : ﴿وَلَوْ نَشاءُ﴾ مسخهم ومحو صورتهم النوعية ﴿لَمَسَخْناهُمْ﴾ وغيّرنا صورتهم بأن جعلناهم حجرا أو مدرا أو جمادا آخر ، أو مسلوبي القوى ﴿عَلى مَكانَتِهِمْ﴾ ومقامهم وفي محلهم بالفور بحيث لا يكون لهم مجال الانتقال منه ﴿فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا﴾ وذهابا إلى أمامهم وبين أيديهم ﴿وَلا يَرْجِعُونَ﴾ إلى ورائهم وخلفهم ، وفيه إشعار باستحقاقهم تلك العقوبة في الدنيا ، كاستحقاقهم عقوبة الختم في الآخرة ، وإنّما المانع الحكمة المقتضية لإمهالهم ، فلا يشاء ذلك.
﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ * وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى
الْكافِرِينَ (٦٨) و (٧٠)﴾
ثمّ استشهد سبحانه على قدرته على سلب قوتهم بما يرون من سلب قوى المعمّرين بقوله تعالى : ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ﴾ ونطيل مدّة حياته في الدنيا ﴿نُنَكِّسْهُ﴾ ونقلبه ﴿فِي الْخَلْقِ﴾ والجسم والقوى الظاهرية والباطنية ، ونجعله بخلاف ما كان عليه في صباوة شبابه ، فلا يزال تتغير جثّته ويتزايد ضعفه ، وتتناقص قواه وبنيته ، ويتغيّر شكله وصورته حتى يعود إلى حالة شبيهة بحال صباوته في ضعف بدنه وقلّة عقله وفهمه ﴿أَ فَلا يَعْقِلُونَ.﴾ قيل : إنّ التقدير أترون ذلك فلا تفهمون أنّ من قدر على ذلك قدر على ما ذكر من الطمس والمسخ ؟ (١)
ثمّ لما ذكر سبحانه المطالب العالية الراجعة إلى المبدأ والمعاد الدالة على كونها نازلة من الله القادر الحكيم ، وكان المشركون يكذّبونها وينسبونها إلى الشعر ويقولون : إنّ محمدا شاعر ، فردّ الله عليهم
__________________
(١) تفسير روح البيان ٧ : ٤٢٨.