ثمّ حكى سبحانه عنهم إنكار البعث واستهزاءهم به بقوله : ﴿وَيَقُولُونَ﴾ هؤلاء المشركون للرسول والمؤمنين إنكارا للمعاد واستهزاء بهم : ﴿مَتى﴾ وفي أيّ وقت ينجز ﴿هذَا الْوَعْدُ﴾ الذي تعدوننا به من قيام الساعة والحساب والجزاء على الأعمال ؟ عيّنوا وقته ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في الوعد به.
ثمّ لمّا كانت الحكمة البالغة مقتضية لاخفائها ، أجابهم سبحانه من قبل المؤمنين بذكر علاماته الموحشة وأهواله العظيمة بقوله : ﴿ما يَنْظُرُونَ﴾ وما ينتظرون في وقوعه ﴿إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ لا يحتاج معها إلى الثانية ، وهي نفخ إسرافيل في الصّور المرة الاولى التي تكون نفخة الصّعق والموت ، وهي ﴿تَأْخُذُهُمْ﴾ وتنالهم مفاجأة بالقهر وسائر الناس ﴿وَ﴾ الحال أنّ ﴿هُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ ويتنازعون في تجاراتهم ومعاملاتهم ، وفي سائر امور دنياهم.
عن ابن عباس : تهيج الساعة والرجلان يتبايعان [ قد ] نشرا أثوابهما فلا يطويانها ، والرجل يلوط حوضه فلا يستقي منه ، والرجل قد انصرف بلبن لفجته (١) فلا يطعمه ، والرجل قد رفع لقمته أو أكلته إلى فيه فلا يأكلها ، ثمّ تلا هذه الآية ﴿تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾(٢) .
وقيل : إنّ المراد أنّهم يختصمون في أمر البعث (٣)﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ ولا يقدرون عليها لمفاجأتهم بالموت ، فلا يدع لهم مجال الأمر بأداء الواجبات ، أو ردّ مظلمة ، فضلا عن فعله ﴿وَلا﴾ يمهلهم كي ﴿إِلى أَهْلِهِمْ﴾ وأزواجهم وأولادهم ﴿يَرْجِعُونَ﴾ من السوق ، بل يموتون في مكانهم.
القمي ، قال : ذلك في آخر الزمان ، يصاح فيهم صيحة وهم في أسواقهم يتخاصمون ، فيموتون كلّهم في مكانهم ، لا يرجع أحد إلى منزله ، ولا يوصي وصية (٤) .
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ
بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥١) و (٥٢)﴾
ثمّ بيّن سبحانه الأهوال التي بعد الصيحة والموت بقوله : ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ بعد موت كافة الناس النفخة الثانية ﴿فَإِذا هُمْ﴾ من غير لبث ﴿مِنَ الْأَجْداثِ﴾ والقبور التي دفنوا فيها ﴿إِلى﴾ محضر عدل ﴿رَبِّهِمْ﴾ وموقف حساب أعمالهم ﴿يَنْسِلُونَ﴾ ويسرعون جبرا وعنفا.
ثمّ كأنه قيل : ما يقول المنكرون للمعاد والبعث بعد خروجهم من قبورهم ومشاهدتهم صدقه ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿قالُوا﴾ تأسّفا على إنكارهم البعث ، وخوفا ممّا ينزل بهم من العذاب : ﴿يا
__________________
(١) كذا ، وفي تفسير روح البيان : لقحته.
(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٤٠٩.
(٣) تفسير الرازي ٢٦ : ٨٧.
(٤) تفسير القمي ٢ : ٢١٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٥٥.